فواز عبدي
بداية لابد من القول أن أية لغة تنشأ بنظام صوتي وإشاري بسيط يتطور تدريجياً. ومن اللغات ما تجد الأجواء المناسبة فتزدهر وتنمو كشجرة عملاقة، ومنها ما تتحول إلى لهجات متعددة وتتلاشى تدريجياً.. وذلك وفقاً للمجتمعات التي تتكلم بها..
أما عوامل تطور أو اندثار اللغة فليست موضوع بحثنا الآن. ما يهمنا هو وضع اللغة الكردية اليوم ومم تعاني؟ وما هي سبل النجاة؟ وكيف نتعامل مع من ينصبون من أنفسهم “قضاة”..
معلوم أن اللغة الكردية اليوم –وبعد صمودها قروناً في مواجهة أعتى الأعداء- تمر بمرحلة انتقالية، حيث تشهد إحياءً وتطوراً ملحوظاً.. فرغم تعدد اللهجات ظهرت في الآونة الأخيرة جهود كبيرة لتعليمها، إلا أن هذه الجهود لن تتكلل بالنجاح المطلوب ما لم يتم العمل على صناعة قاموس رسمي شامل يكون نواة للعمل على إيجاد لغة مدرسية موحدة؛ يساعد على ردم الفجوات بين اللهجات وخلق قاعدة للغة رسمية موحدة.. إضافة إلى تأليف معاجم اختصاصية في كافة المجالات.
إلا أن ما يؤخذ على هذه الجهود أن الطابع الحزبي مسيطر، فغالبا –إن لم نقل دائما- توزع المناصب من منطلق الولاءات الحزبية، لا على أساس الكفاءات وذلك من منطلق “راعي حزبي ولا دكتور مستقل”.. ومن هنا سيطرت النخب الحزبية على مفاصل مؤسسات اللغة والتعليم والثقافة.. ومن بين من يتبوءون هذه المناصب من لا يملك الكفاءة والحجة فيلجأ إلى استخدام العصا كمعلم في المدرسة في أوائل ومنتصف القرن الماضي، أو ينصب من نفسه قاضياً يصدر الأحكام (يمين-شمال، فوق -تحت) كيفما شاء..
هؤلاء القضاة الجدد لا يملكون سوى ذاكرة جداتهم –واللاتي أغلبهن أميات-، فيصدرون حكم إعدام على كلمة فقط لأن الجدة لم تنطق بها. وكأن اللغة يجب أن تُحاكَم في محكمة العائلة! ينسون أن جداتنا أيضاً لهن الحق في نطق كلماتهن المتوارثة.. وأن من مهمة القاموس الرسمي أن يجمع هذه المنطوقات بين دفتيه كمرادفات تغني اللغة بدل أن يعدمها.. فإذا ما نصب كل منا نفسه قاضياً وأصدر حكم الإعدام بحق كل ما لم تنطق به جدته، فلن يمر جيلان إلا تكون اللغة قد أعدمت بالكامل..
ولكي تتكلل تلك الجهود بالنجاح لابد من اتخاذ بعض الإجراءات، وفي مقدمتها التحرر من العقلية الحزبية والانتقال إلى المؤسسية وإنشاء مجمع لغوي كردي مستقل على غرار مجامع اللغة العربية والفرنسية وغيرها، يضم مختصين من كل الأقاليم الكردية دون اعتبار للانتماءات السياسية والمناطقية، لأن اللغة الكردية لا تحتاج إلى “مقاتلين” بقدر ما تحتاج إلى علماء لغة ومربّين ومترجمين محترفين. اللغة تبنى بالمعرفة لا بالشعارات.
وبالتوازي معها تعمل على توحيد لغة التعليم والإعلام؛ فهما رئتا اللغة.. واللغة التي لا تُدَرَّس تموت ببطء، واللغة التي لا تكتب في الصحف ولا تُغَنَّى على المنابر تمحى من الوعي الجمعي. لذلك يجب أن يتحول التعليم بالكردية إلى مشروع وطني شامل، حتى لو بدأ بمبادرة حزبية ضيقة.
ولا ننسى أنه لا يمكننا التحدث عن إحياء اللغة في القرن الحادي والعشرين بمعزل عن التكنولوجيا؛ فوجود الكردية على الإنترنت وفي أنظمة التشغيل والذكاء الاصطناعي، وفي تطبيقات التعليم هو ما سيضمن استمرارها في الحياة اليومية للأجيال القادمة..
ختاماً أود أن أقول: اللغة الكردية اليوم لا تبحث عن اعتراف سياسي بقدر ما تبحث عن اعتراف ذاتي بين أبنائها. إنها تطلب منا فقط أن نكفَّ عن محاكمتها، وأن نحملها كما نحمل طفلاً في طور النمو، لا كشيخ نختلف على إرثه.
وإذا ما تضافرت الجهود بين المثقفين والمربين واللغويين إضافة إلى السياسيين بعيداً عن الولاءات الضيقة، فإن اللغة الكردية قادرة على أن تنهض من رماد القرون لتكون لغة علم وأدب وفنّ و…إنسان.