صبحي دقوري
يُعد جاك دريدا من أبرز الشخصيات التي أحدثت ثورة فكرية عميقة في مسارات الفلسفة المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بفهم النصوص، وبنية المعنى، وحدود وجود الإنسان في إطار اللغة. لقد قدم مشروعه التفكيكي ليس كطريقة منهجية ثابتة، بل كحساسية فكرية تعبر عن التشكيك في كل ما يُعتبر بديهياً، أو مكتملًا، أو نهائيًا. وبالتالي، فإن قراءة أفكار دريدا تتطلب نظرة عميقة، حيث يمثل تجسيدًا دائمًا للقلق الفكري الذي يتبدى في تفكيك المسلّمات، وتوترًا خلاقًا بين ما يُقال وما لا يمكن التعبير عنه.
أولاً: دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية
كان دريدا تلميذاً متمرداً على الفكر الفلسفي الأوروبي الذي اعتبره، في رؤيته العميقة، عالقاً في أسر “ميتافيزيقا الحضور”. لقد شُغل الفلاسفة — بدءاً من أفلاطون وصولاً إلى هوسرل — بمحاولة تأسيس مركز ثابت يضمن رسوخ المعنى. وقد يكون هذا المركز:
- العقل،
- الذات،
- الوعي،
- الجوهر،
- البنية،
- أو الحقيقة.
يُشير دريدا إلى أن الفكر الغربي قد غاص في البحث عن “بؤرة أصلية” تمنح اللغة معناها، وكأن الكلمات لا تكتسب دلالاتها إلا من خلال العودة إلى مرجعٍ أول. هنا تأتي التفكيكية لتجتثّ هذه السلسلة من الأصول، لتظهر أن المعنى لا يمكن أن يستقر في نقطة واحدة، بل يتنقل باستمرار ضمن شبكة من الاختلافات.
ثانياً: التفكيك… ليس مجرد هدم، بل هو إنقاذٌ عميق
إن سوء الفهم الأكثر شيوعاً في التعاطي مع أفكار دريدا يكمن في اعتقاد البعض أن التفكيك ما هو إلا عملية تقويض، أو تعبير عن عدميّة. بينما الحقيقة أن التفكيك، في جوهره، هو إنقاذٌ للنصّ من فخّ وهم الوحدة؛ هو دعوةٌ إلى التأمل في أصوات المهمشين، وصراخ المقموعين، وما يُسكت عنه في زوايا الظلام.
فالتفكيك، وفقاً لدريدا، هو فعل القراءة قبل أن يتحول إلى عمل تدميري.
إنه الإصغاء إلى ما يتقاطع مع سلطة الخطاب، وما يتركه الكاتب دون وعي، وما يُبنى في خفاء المعنى، لا في مركزه الساطع.
وبذلك، يصبح النص بالنسبة له كائناً حياً، يتحدث بلغتين:
لغة الحضور ولغة الغياب.
وتهدف مهمة التفكيك إلى إضاءة هذا الحوار الخفي الذي يستحق الانتباه.
ثالثاً: الاختلاف – مفهوم يعيد تشكيل القراءة
يقدم دريدا مصطلحه الشهير Différence، هذا الكائن الفريد الذي يمتاز بعدم تطابق نطقه مع كتابته، ولا يُستوعب إلا من خلال توتره الداخلي.
فالاختلاف هنا لا يُعتبر تمايزاً بين شيئين، بل هو تأجيل للمعنى، انزلاق مستمر للدلالة، وحركة لا تعرف التوقف.
ما نقرأه ليس معنى جاهزاً أو ثابتا، بل هو أثر لمغزى يتقدم ليعود فينحسر.
من هنا، تكتسب الكتابة قدماً أكثر من الكلام، أو بالأحرى، يصبح الكلام أحد تعبيرات الكتابة. إنه ينسف الأسس الأفلاطونية التي فضّلت الصوت كحضور مُباشر على الكتابة كأثر.
دريدا يحرر الكتابة من كونها مجرد ظل، لتصبح الحقل الحقيقي الذي يتجلى فيه الفكر. رابعاً: دريدا ومأزق الهوية
رابعا :حين يتحدّث دريدا عن اللغة، فهو في الحقيقة يتكلّم عن الهوية.
الذات ليست جوهراً مستقراً، بل نصّاً.
والنصّ ليس ملكاً لمؤلّفه، ولا قارئه، بل لشبكة العلاقات التي يتكوّن عبرها.
ولذلك تبدو الهوية، عند دريدا، مشروعاً مفتوحاً لا يُغلق؛ ليست شيئاً نعود إليه، بل شيئاً نكتبه دائماً في حركة لا تبلغ اكتمالاً.
هنا تتضح العلاقة بين التفكيك والمنفى؛ فالذات المنفية — كروجان في روايتك — لا تمتلك سوى لغاتها المكسورة لتعيد بها بناء نفسها.
خامساً: نقد دريدا… من داخل التفكيك نفسه
وُجهت لدريدا انتقادات عديدة، يمكن تلخيصها في ثلاثة توجهات
- اتهام الغموض والتلاعب اللغوي
رأى بعض النقاد أن دريدا يغرق في اللعب الدلالي، وأن كثافة المصطلحات تؤدي إلى خطاب مغلق لا يتيح فهماً واضحاً.
لكن هذا الحكم يتجاهل أن التفكيك يهدف بالأساس إلى خلخلة يقين الفهم، لا إلى تقديم وصفات جاهزة.
- اتهام العدمية
اتهمه آخرون بأنه ينسف المعنى، ولا يقدّم بديلاً.
بينما حقيقة الأمر أن التفكيك يفتح المعنى بدلا من أن يلغيه؛ يضاعف آفاق القراءة بدلا من أن يُبطلها.
- اعتراضات أنثروبولوجية وسياسية
خصوصاً مع ليفي-شتراوس وساينس.
إذ اتُّهم دريدا بأنه يتجاهل البعد الاجتماعي للنص، ويختزل كلّ شيء في البنية اللغوية.
لكن لاحقاً، في نصوصه السياسية، سيثبت أنه قادر على الخوض في قضايا العنف، الدولة، العدالة، والضيافة.
سادساً: دريدا و” شبح العدالة”
من أهم إسهاماته في الفلسفة السياسية حديثه عن الشبح (le specter).
فالعدالة، عنده، ليست قانوناً ولا نظاماً، بل وعدٌ غائب، شبحٌ يطارد الفعل الإنساني.
لا تُدرَك العدالة إلا بوصفها فكرة مؤجلة، لكنها وحدها القادرة على إنقاذ حضور الإنسان من تحوّله إلى مجرّد وظيفة داخل البنى السياسية.
سابعاً: قيمة دريدا اليوم
لم يعد التفكيك مجرّد تيار نقدي، بل صار طريقة لقراءة العالم.
ففي زمن الصور، والأخبار السريعة، واللغة المعلّبة، يعيد دريدا طرح السؤال:
ما الذي نقوله حين نتكلّم؟
هل نقول الحقيقة؟
أم نقول أثرها؟
أم نقول رغبتنا في أن تكون هناك حقيقة؟
التفكيك اليوم ليس موضة أكاديمية؛ إنه ضرورة فكرية في عالم تتحكّم فيه الخطابات المصمّمة مسبقاً، وفي زمن تتسارع فيه عمليات صناعة الحقيقة.
خلاصة الدراسة
جاك دريدا هو فيلسوف يهتم بالتحليل النقدي، ويعتبر من الفلاسفة الذين يركزون على الجوانب المهمشة. هدفه ليس تدمير المعاني، بل تحريرها. لذلك، يعتبر التفكيك موقفاً إيجابياً وأخلاقياً، حيث يدعو إلى الاستماع إلى ما يحدث، سواء كان ذلك في النصوص، في التاريخ، أو في هوية الإنسان.