أحمد حاج داوود
e.hajdawud@yahoo.com
e.hajdawud@yahoo.com
اختلطت الألوان في زحام ساحة النظر , وتناثر بريقٌ رهيب له قوّة تلك الألوان المختلطة في فتور , ملمس جدران بدت كثيرة كان خشناً يودي بالذاكرة الى اصقاع مجهولة, في رحاب هذه الأجواء كانت بذور الأسئلة تنبت لتتفرس خلايا ذاكرة سوران ,المقبل على الحياة ـ بالصورة التي أرادها من سبقوه ـ في عتمة طريق الحل المؤدي الى ثنايا الفهم .
لم يستطع أن يجبر ذاكرته العاجزة تماماً عن تذكّر أي وجود سابق له , لسان قلبه كان ينطق بلغة بات يفترس ملامح كلماتها لتغدو قابلة للفهم .
لم يستطع أن يجبر ذاكرته العاجزة تماماً عن تذكّر أي وجود سابق له , لسان قلبه كان ينطق بلغة بات يفترس ملامح كلماتها لتغدو قابلة للفهم .
مشى بخطوات وئيدة , شعر وهو يخطوها بأنه يرجع للوراء , في الممر المستطيل طولاً أمامه , دون شك هو يرى هذا المكان لأول مرّة لم يحيله المكان الى أي زمان مفترض أن يتذكره هو , لم يستطع هذا المكان المسكون بالغرابة أن ينبت ولو بذرة تخيّل صغيرة في حقل ذاكرته البور .
تقدّم بجسمه المحمول مع روحه على لوح من الغموض من أحد المارة في الممر “لماذا هذا المكان مظلم ؟” سأل سوران بلسان فمه .
حملق فيه الرجل من طرف عينه , بنظرة تختصر طريق الشرر في الكون لتسكبه على المساحة التي يشغلها سوران من المكان المنفصل ـ عند سوران ـ عن زمنه “سيزول الظلام ان عرفت له سبباً أيها الجديد ” رد الرجل بلسانه الوحيد .
” أيّ جوابٍ هذا !” سأل سوران نفسه بغضب , فجواب الرجل لم يحل أزمة فهمه.
باتت نيران الغرابة أكثر ضراوة من ذي قبل ، والأسئلة الصغيرة منها و الكبيرة تُرسم أمام سوران مكتوبة بحبر التيه , فعلاً .. فالمكان والزمان كلاهما جديدان عليه لا يعرف على وجه الدقة اسماً ولا عنواناً لهما وهو يتمطى بخدر تحتهما . ما أسفلهما كما فوقهما , يحمل الغموض في كل تفصيل صغير .
ما السرّ الذي يفسّر سبب هذا التباين و الاختلاف الذي اختلط بكلّيته أمام مرأى سوران في مشهدٍ أثار في نفسه كوامن المشاعر الغامضة , لم البعض هنا صغير والبقيّة كبار ؟ , البعض يحمل فرحهُ المترجم بسمة طافية على الوجه , و البعض الآخر يضمر حزنهُ المترجم خيبة تخجل من ظهورها بغياب البسمة , البعض يتكلم والبعض صامت , البعض لا يبدو مكترثاً بغموض الزمكان وكأنه علم مما فوق الزمكان كل شيء عمّا تحته , وقلة بدت هي الأخرى ـ مع سوران ـ جديدة على هذا العالم , تخبطها وحيرتها فضح جدّتها .
أعاد صدفة وجود جديدين مثله خياله المتبرّم الى مسار الواقع , جديدان مثله بديا مضطربين , مترددين تقدّم منهما بجسمه في سباقٍ مع روحه الوثابة , دنا أكثر , ووقف على بعد خطوة واحدة من الأثنين ” أتعرف اسماً لهذا المكان؟ ” بادر أحد الشخصين الكلام بلسان فمه المتدلي عنوة على بحر كلمات لسان قلبه .
” لا , أنا جديد هنا , كل شيء غريب عليّ , وأنتم : هل تعرفان كيف أتيتم الى هنا ؟”
ردُّ سوران بلسان فمه أيضاً .
“لا نعرف شيئاً , تماماً مثلك , غرباء .. نعم نحن غرباء عن هذا المكان برمته , ولك أن تسأل صديقي الذي يرافقني عن معاناتنا هنا منذ مجيئنا , أليس كذلك ؟” قال الشخص المستطرد في حديثه سؤاله الأخير وهو يلتفت الى صديقه , قال سؤاله بلسان قلبه المغتال .
” هيه , تتكلّمان بلغة القلوب ” هتف سوران بلسان قلبه “أنا أيضاً أجيد هذا الكلام “
“اسمي بيدنك وصديقي اسمه بيوار ” قال أحد الاثنين بلسان قلبه وهو يمدّ يده لسوران مرحباً .
تشابكت الأيدي ورحب اصحابها ببعض بلسان قلوبهم .
مضى الثلاثة في أحد الممرات الممتدة أمامهم , خطواتهم باتت أكثر ثقة تقريباً , لكن الغموض المتسلط على سماء تفكيرهم كان مهيمناً على نفوسهم .
المكان الحاضن للثلاثة ليس مجرّد مكان مغلق , بل كبير ,واسع ,مؤلف من ممرات كثيرة ,متشابكة ,متداخلة , مظلمة , يفتقر فيه الثلاثة لقدرة النور على الهداية , بالكاد يستطيع الرفاق الثلاثة المشي , أدرك الثلاثة استحالة الوصول الى طرف آخر لهذه الممرات ـ التي تبدو كمتاهة ـ ان لم يفهموا المكان بتفاصيله , وفيما هم ضائعين في مضيّهم وحيرتهم سأل سوران أحد المارّة العجولين “أتدلنا على طريق للخروج من هذه الممرات المتشابكة؟ ” .
“ولم تسأل أيّها الجديد الفضولي ؟ مجنونٌ , لا طريق للخروج , الخروج من هنا يعني الموت , هذه الغرف والممرات هي الحياة بكل ما فيها , وما خلاف هذا المكان هو الموت “.
اختلطت الكلمات القليلة التي قالها المارّ العجول بلسانه الوحيد على الرفاق الثلاثة , ارتطمت موجة عاتية من بحر كلمات لسان قلوب الثلاثة بصخور شاطىء الكلمات , وتطايرت بضع قطرات من بحر كلماتهم , لامست اللسان المتدلي عنوة على بحر كلمات لسان قلبهم , امتزجت كلمات لسان القلب , وكلمات لسان الفم ,وأخذت لنفسها طريقاً الى ثنايا الفهم , ’الموت’ ما هو الموت , بدا لهم للوهلة الأولى أن الموت هو نقيض للحياة أي فقدان الحياة يعني الموت , ولكن … المارّ العجول أشار الى شيء آخر فات منهم , لقد قال غرف , أين الغرف؟ استدارت الرؤوس الثلاثة الى جهة واحدة , الى الحائطين المتوازيين, نعم الحائط يحوي كوى مستديرة كل منها مسدودة بقماس يحمل رمزاً معيّناً , رموز كثيرة كل رمز يطلّ من كوة و كأنه يحرسها , في وسط حيرتهم تلك قدِمَ نورٌ خجول الى المكان ـ الوجود أدرك الثلاثة على الفور هذا التغيّر , دون أن تتحرك الرؤوس الثلاثة , استدارت العيون الستة لترسم كل منها نصف دائرة ولتستقر على طيف شخص غاص مختفياً في الممرات فور احساسه بأن الثلاثة قد رأوه .
مضى الرفاق الثلاثة في ممر جديد امتدّ أمامهم “يبدو أن الوجود في مكان ما يحتاج الى حياة ” قال بيدنك بلسان قلبه , الذي أصبح لغة مخاطبتهم , “هكذا يبدو , فالحياة كما نفهمها ما هي إلا احساننا بوجودنا في المكان , والموت على الرغم من معرفتنا نحن الثلاثة بأنه نقيض الحياة , لكنّه يبقى كما الحياة , يلفّه الغموض “.
كان الثلاثة يتكلمون وهم يمشون في الممرات على غير هدى , فجأة أوقفوا أحاديثهم
” إنها المرة الثانية التي نمرّ فيها بهذا الممر” قال بيوار وهو يشير بيده الى إحدى الرموز المطلة من كوّة إحدى الغرف , أحسّ بيوار بيدٍ تضغط على كتفه التفت ينظر الى ورائه ” انظر!” قال سوران و بيدنك بلسان قلبيهما الموحّد ,وأشارا بحاجبيهما صوب جهة يريدان أن يراها بيوار , وبهدوء التفت بيوار , قطع بصره مسافة طول الممر ,ليقف في نهايته ,وليستقر نظره على منظر رهيب لعجوز طاعن في السن , اتكأ على جدار في ممر يحوي أربع كوى كل منها يحمل رمزاً معيّناً , وقد تأبّط عصاً لا يبدو انه يحتاجها كثيراً , واسبغ ظلام الممر بسواده هيبة على وجهه ,
” إنه يراقبنا منذ قدومنا ” قال بيدنك مذكّراً الاثنين بحقيقةٍ غابت عنهم , ” ترى لماذا يتبعنا؟”
قال سوران بصوتٍ نفذ الى السويداء من القلوب الثلاثة .
” دعنا نكمل مسيرنا واترك العجوز وشأنه ” قال بيوار محضّاً رفاقه على مشيةٍ بدأ هو اولى خطواتها .
أصواتٌ , وكلماتٌ غير مفهومة , ونظرات ناريّة خرجت من أفواه وأعين رؤوس امتدت من تحت الرموز القماشيّة المنسدلة على الكوى في الممرات التي يمر فيها الرفاق الثلاثة.
بدأ التعب يجد طريقهُ الى نفوس الثلاثة و أجسادهم , لقد مشوا كثيراً , مشوا حتى تسرّب الملل الى نفوسهم وهم يستمعون بأذن الخيبة الى صدى الصوت المسحوب منهم عنوة , صوت خيبتهم الصادر عن نفوسهم , الأعين الستة المحملقة ببعضها البعض غدت متعبة من عدم جدوى المشي في ممرات متشابكة , تكلمت ألسنة القلوب الثلاثة معاً ” المشي على غير هدى متعب “
” هذا صحيح تماماً ” انضم صوت رابع بلسان القلب الى أصواتهم .
التفت الثلاثة معاً , نحو مصدر الصوت , فإذا بهم أمام ذلك العجوز الذي يلاحقهم , كان مستنداً إلى جداره ذي الأربع كوى , متأبّطاً عصاه,”من أنت؟” سأل سوران بلسان فمه .
” أنا مارّ من هنا , مثلكم , أنا صورتكم في زمن متقدّم إلى الوراء نحونا ” قال العجوز بلسان قلبه . وقف الثلاثة مشدوهين أمام شخص رابع يتكلم بلسان قلبه ” لا تتعجبوا , لا أجيد سوى لسان القلب , وهي لسان فمي أيضاً ” قال العجوز وهو يتقدّم صوب الثلاثة .
“ماذا تريد منا أيها العجوز؟ ” قال بيدنك بلسان فمه .
“مهلاً ,مهلاً لا أفهمك ,لم الخوف ؟ لا أقصد أذيّة , أنا هنا من أجلكم , جئت لأدلكم على الحقيقة ” قال العجوز بلسان قلبه مهدئاً من روع الثلاثة .
هدأ الثلاثة وتبادلوا نظرات فيما بينهم , شقّ بيوار صمت المكان بسؤال “أفعلاً لا طريق للخروج من هذه المتاهة , سوى الموت ؟” , ساد زمنٌ من الصمت ,نمّ عن عمق السؤال , ردّ العجوز في جواب بدا طويلاً ” هذا المكان ليس متاهة, انه فعلاً متاهة لمن لم يرتق إلى مستوى الحقيقة بكل ما فيها , هذا المكان الكبير كل الكبر ليس غريب عليّ , لقد أمضيت زمناً طويلاً وأنا أتجوّل هنا , لقد حفظت كل تفصيل هنا” .
توقّف العجوز عن سرد كلامه برهة , كأنه تذكر شيء ما “هذا المكان ليس محدود البداية ,كما أنه ليس محدود النهاية ” قال العجوز وهو يقترب برأسه غير واضح المعالم من رؤوس الثلاثة ,” لا نهاية إذاً لا طريق للخروج ” أضاف العجوز وهو يحرّك سبابته في تلقين .
” والموت؟” سأل بيوار .” ما به؟” قال العجوز متعجباً , ” أليس نهاية ـ طريق للخروج ؟” قال بيوار .
أخرج العجوز عصاه من تحت إبطه , وحمله بيده ” كان يجب أن تسألوا سؤالاً آخر , دعك من الموت الآن , لم التفكير بما هو خارج الزّمكان , لم لا تفكّر بضياعك
هنا؟” قال العجوز معاتباً الثلاثة , عاد الهدوء إلى ذرات المكان الواصل ـ الفاصل بين الأربعة ” لم أنت خارج الغرف , بقيّة الناس داخلها ؟ سؤال غاب عن مخيًّلتكم المتعبة , كل قادم الى الحياة يُستقبل في غرفة من هذه الغرف الكثيرة , يكسب بذلك
إنتماءه لها , أنتم بالطبع رلكم غرفتكم الخاصة التي قدمتم إلى الحياة فيها , لكنها ولإنها لا تحمل رمزكم على كوتها لم لاتكسبوا حق الانتماء , أنتم الآن موجودون هناك , في غرفكم ,لكن ضياعكم وغربتكم الأبديّة هناك أحالكم إلى هذا المكان , أنتم الآن تعيشون في مكانين ضمن زمن واحد ” .
لاحظ الثلاثة على الفور أن النور الخافت القادم إلى المكان المظلم , قد كشف عن وجه العجوز الطويل , ذو الملامح النافرة , المليء بالتجاعيد الداكنة .
“وراء هذه الكوى يوجد غرف ,يفصل بينها جدران , ليست مستقيمة بالضرورة , وعلى كتلة هذه الغرف على مرّ الزمن , حدثت تقلّصات , تشنّجات , تقدمت الجدران , تراجعت , أزيلت , غرف وليدة فصلت بين غرفتين ثمّ أزيلت بقوّة الغرفتين وهدمت جدرانها على رؤوس قاطنيها …” قطع العجوز كلامه وهو يمدّ يده إلى وجهه الطويل يمنع عذاباته من الجريان , ” ما بك ياعم؟” قال الثلاثة معاً .
” عذراً , فقد أعادني خيالي إلى طريق قدومي إلى هنا ” قال العجوز وهو يستنشق هواء القناعة و الهدوء .
” وكيف كان طريق قدومك إلى هنا؟” قال يدنك متسائلاً . ” أنا من الجيل الذي شهد شعارنا ينسدل على كوّة صغيرة لغرفة صغيرة, ضمن غرفتنا الكبيرة التي لا تحمل شعارنا , وبعد فترة قصيرة من الزمن بقياس الغرف , أسقط جدار الغرفة على رؤوس ساكنيها , واقتيد اهلها ـ مع بقاء أجسادهم هناك ـ إلى هذه الممرات صفاً, صفاً …كم أحزن لهذا ” قال العجوز .
“يا للغرابة !” قال سوران بحزن , ” المهم أن تكونوا أوفياء لأجسادكم هناك ، لقد كان لي أصدقاء اوفياء لأجسادهم ,و لغيرهم , اختاروا لي البقاء لأدل أمثالكم على الحقيقة و طريق الخلاص , كانوا شجعان , اختاروا الموت لأنفسهم للظفر بعودة
ـ على هيئة نسخة واحدة ـ إلى غرفة ” أتمّ العجوز كلمته و طأطأ رأسه , وبتمام كلمته تدفّق النور سابحاً وحمل معه العجوز , الذي قال وهو يختفي بضع كلمات حملها الهواء إلى الآذان الثلاثة ” حذارمن أن تنخدعوا بأقوال أصحاب شعارات غرفكم فلهم القدرة على تبرير كل شيء بلسان ما فوق الزّمكان “وغاص العجوز واختفى وسط النور .
تنافر الثلاثة ذعراً واستغراباً , لقد ساق النور الذي سرى في المكان العجوز كقطعةى خشب , “أين ذهب؟” قال بيوار مندهشاً .
ساد صمت ٌ, تلمس خلاله الثلاثة قاع بحر كلماتهم بحثاً عن جواب , ” يجب أن يرحل , لقد أتم مهمته ,وصلنا النور رسول الحقيقة ” قال سوران بهدوء.
” الآن لم نعد جدد , لقد أدركنا الحقيقة ، هذه ليست متاهة ” قال بيدنك .
” سأحلّ محل العجوز , سأقوم بمهامه , ارشاد الجدد ” قال بيوار بجدّ.
” أما أنا . سأكتب أشعاراً عن حلمنا الضائع , في دفتري الضائع بعد أن أجده , وسأرسم فيه طريق العودة الظافرة للجدد” قال بيدنك وهو يضم قبضته ,ويحرّكها في الهواء .
” أما أنا , إن بقيت هنا هكذا فسأعيش طوال الحياة دمعة , لقد اخترت طريق الخروج الطبيعي , كي لا أعود إلا بسمة سابحة ” قال سوران متأملاً .
” ما الذي تقصده يا سوران ؟” قال الإثنان معاً .
” الموت , نعم اخترته طريقاً للعودة إللى الحياة كما أريد أنا , بسمة طافية على الحياة” قال سوران .
” ولساننا , أهو ما في فمنا أم القابع بقلبنا ” سأل بيوار .
” لساننا هو لسان قلبنا , يجب أن نقتلع لسان فمنا , ونضع لسان قلبنا موضعه”.
وهكذا… افترق الثلاثة بعد أن احتضنوا , مضى بيدنك و بيوار في طريق , وسوران في طريق , طريقان كلاهما مؤدي للآخر , مشوا مبتعدين عن بعضهم , فجأة التفت بيدنك ونادى ” ومذا نصنع بلسان فمنا؟” .
” لا أدري , ولكن بالتأكيد مكانه ليس في القلب ” رد سوران .
” وإذا سُئلنا عن زمننا هذا ماذا نقول؟” سأل بيوار .
” زمن الموت” قال سوران , قطعت هذه الكلمات الممر الطويل , وعندما وصلت لأذنهما , كان سوران قد خرج من المكان ـ الوجود.
30/8/2005 م
تقدّم بجسمه المحمول مع روحه على لوح من الغموض من أحد المارة في الممر “لماذا هذا المكان مظلم ؟” سأل سوران بلسان فمه .
حملق فيه الرجل من طرف عينه , بنظرة تختصر طريق الشرر في الكون لتسكبه على المساحة التي يشغلها سوران من المكان المنفصل ـ عند سوران ـ عن زمنه “سيزول الظلام ان عرفت له سبباً أيها الجديد ” رد الرجل بلسانه الوحيد .
” أيّ جوابٍ هذا !” سأل سوران نفسه بغضب , فجواب الرجل لم يحل أزمة فهمه.
باتت نيران الغرابة أكثر ضراوة من ذي قبل ، والأسئلة الصغيرة منها و الكبيرة تُرسم أمام سوران مكتوبة بحبر التيه , فعلاً .. فالمكان والزمان كلاهما جديدان عليه لا يعرف على وجه الدقة اسماً ولا عنواناً لهما وهو يتمطى بخدر تحتهما . ما أسفلهما كما فوقهما , يحمل الغموض في كل تفصيل صغير .
ما السرّ الذي يفسّر سبب هذا التباين و الاختلاف الذي اختلط بكلّيته أمام مرأى سوران في مشهدٍ أثار في نفسه كوامن المشاعر الغامضة , لم البعض هنا صغير والبقيّة كبار ؟ , البعض يحمل فرحهُ المترجم بسمة طافية على الوجه , و البعض الآخر يضمر حزنهُ المترجم خيبة تخجل من ظهورها بغياب البسمة , البعض يتكلم والبعض صامت , البعض لا يبدو مكترثاً بغموض الزمكان وكأنه علم مما فوق الزمكان كل شيء عمّا تحته , وقلة بدت هي الأخرى ـ مع سوران ـ جديدة على هذا العالم , تخبطها وحيرتها فضح جدّتها .
أعاد صدفة وجود جديدين مثله خياله المتبرّم الى مسار الواقع , جديدان مثله بديا مضطربين , مترددين تقدّم منهما بجسمه في سباقٍ مع روحه الوثابة , دنا أكثر , ووقف على بعد خطوة واحدة من الأثنين ” أتعرف اسماً لهذا المكان؟ ” بادر أحد الشخصين الكلام بلسان فمه المتدلي عنوة على بحر كلمات لسان قلبه .
” لا , أنا جديد هنا , كل شيء غريب عليّ , وأنتم : هل تعرفان كيف أتيتم الى هنا ؟”
ردُّ سوران بلسان فمه أيضاً .
“لا نعرف شيئاً , تماماً مثلك , غرباء .. نعم نحن غرباء عن هذا المكان برمته , ولك أن تسأل صديقي الذي يرافقني عن معاناتنا هنا منذ مجيئنا , أليس كذلك ؟” قال الشخص المستطرد في حديثه سؤاله الأخير وهو يلتفت الى صديقه , قال سؤاله بلسان قلبه المغتال .
” هيه , تتكلّمان بلغة القلوب ” هتف سوران بلسان قلبه “أنا أيضاً أجيد هذا الكلام “
“اسمي بيدنك وصديقي اسمه بيوار ” قال أحد الاثنين بلسان قلبه وهو يمدّ يده لسوران مرحباً .
تشابكت الأيدي ورحب اصحابها ببعض بلسان قلوبهم .
مضى الثلاثة في أحد الممرات الممتدة أمامهم , خطواتهم باتت أكثر ثقة تقريباً , لكن الغموض المتسلط على سماء تفكيرهم كان مهيمناً على نفوسهم .
المكان الحاضن للثلاثة ليس مجرّد مكان مغلق , بل كبير ,واسع ,مؤلف من ممرات كثيرة ,متشابكة ,متداخلة , مظلمة , يفتقر فيه الثلاثة لقدرة النور على الهداية , بالكاد يستطيع الرفاق الثلاثة المشي , أدرك الثلاثة استحالة الوصول الى طرف آخر لهذه الممرات ـ التي تبدو كمتاهة ـ ان لم يفهموا المكان بتفاصيله , وفيما هم ضائعين في مضيّهم وحيرتهم سأل سوران أحد المارّة العجولين “أتدلنا على طريق للخروج من هذه الممرات المتشابكة؟ ” .
“ولم تسأل أيّها الجديد الفضولي ؟ مجنونٌ , لا طريق للخروج , الخروج من هنا يعني الموت , هذه الغرف والممرات هي الحياة بكل ما فيها , وما خلاف هذا المكان هو الموت “.
اختلطت الكلمات القليلة التي قالها المارّ العجول بلسانه الوحيد على الرفاق الثلاثة , ارتطمت موجة عاتية من بحر كلمات لسان قلوب الثلاثة بصخور شاطىء الكلمات , وتطايرت بضع قطرات من بحر كلماتهم , لامست اللسان المتدلي عنوة على بحر كلمات لسان قلبهم , امتزجت كلمات لسان القلب , وكلمات لسان الفم ,وأخذت لنفسها طريقاً الى ثنايا الفهم , ’الموت’ ما هو الموت , بدا لهم للوهلة الأولى أن الموت هو نقيض للحياة أي فقدان الحياة يعني الموت , ولكن … المارّ العجول أشار الى شيء آخر فات منهم , لقد قال غرف , أين الغرف؟ استدارت الرؤوس الثلاثة الى جهة واحدة , الى الحائطين المتوازيين, نعم الحائط يحوي كوى مستديرة كل منها مسدودة بقماس يحمل رمزاً معيّناً , رموز كثيرة كل رمز يطلّ من كوة و كأنه يحرسها , في وسط حيرتهم تلك قدِمَ نورٌ خجول الى المكان ـ الوجود أدرك الثلاثة على الفور هذا التغيّر , دون أن تتحرك الرؤوس الثلاثة , استدارت العيون الستة لترسم كل منها نصف دائرة ولتستقر على طيف شخص غاص مختفياً في الممرات فور احساسه بأن الثلاثة قد رأوه .
مضى الرفاق الثلاثة في ممر جديد امتدّ أمامهم “يبدو أن الوجود في مكان ما يحتاج الى حياة ” قال بيدنك بلسان قلبه , الذي أصبح لغة مخاطبتهم , “هكذا يبدو , فالحياة كما نفهمها ما هي إلا احساننا بوجودنا في المكان , والموت على الرغم من معرفتنا نحن الثلاثة بأنه نقيض الحياة , لكنّه يبقى كما الحياة , يلفّه الغموض “.
كان الثلاثة يتكلمون وهم يمشون في الممرات على غير هدى , فجأة أوقفوا أحاديثهم
” إنها المرة الثانية التي نمرّ فيها بهذا الممر” قال بيوار وهو يشير بيده الى إحدى الرموز المطلة من كوّة إحدى الغرف , أحسّ بيوار بيدٍ تضغط على كتفه التفت ينظر الى ورائه ” انظر!” قال سوران و بيدنك بلسان قلبيهما الموحّد ,وأشارا بحاجبيهما صوب جهة يريدان أن يراها بيوار , وبهدوء التفت بيوار , قطع بصره مسافة طول الممر ,ليقف في نهايته ,وليستقر نظره على منظر رهيب لعجوز طاعن في السن , اتكأ على جدار في ممر يحوي أربع كوى كل منها يحمل رمزاً معيّناً , وقد تأبّط عصاً لا يبدو انه يحتاجها كثيراً , واسبغ ظلام الممر بسواده هيبة على وجهه ,
” إنه يراقبنا منذ قدومنا ” قال بيدنك مذكّراً الاثنين بحقيقةٍ غابت عنهم , ” ترى لماذا يتبعنا؟”
قال سوران بصوتٍ نفذ الى السويداء من القلوب الثلاثة .
” دعنا نكمل مسيرنا واترك العجوز وشأنه ” قال بيوار محضّاً رفاقه على مشيةٍ بدأ هو اولى خطواتها .
أصواتٌ , وكلماتٌ غير مفهومة , ونظرات ناريّة خرجت من أفواه وأعين رؤوس امتدت من تحت الرموز القماشيّة المنسدلة على الكوى في الممرات التي يمر فيها الرفاق الثلاثة.
بدأ التعب يجد طريقهُ الى نفوس الثلاثة و أجسادهم , لقد مشوا كثيراً , مشوا حتى تسرّب الملل الى نفوسهم وهم يستمعون بأذن الخيبة الى صدى الصوت المسحوب منهم عنوة , صوت خيبتهم الصادر عن نفوسهم , الأعين الستة المحملقة ببعضها البعض غدت متعبة من عدم جدوى المشي في ممرات متشابكة , تكلمت ألسنة القلوب الثلاثة معاً ” المشي على غير هدى متعب “
” هذا صحيح تماماً ” انضم صوت رابع بلسان القلب الى أصواتهم .
التفت الثلاثة معاً , نحو مصدر الصوت , فإذا بهم أمام ذلك العجوز الذي يلاحقهم , كان مستنداً إلى جداره ذي الأربع كوى , متأبّطاً عصاه,”من أنت؟” سأل سوران بلسان فمه .
” أنا مارّ من هنا , مثلكم , أنا صورتكم في زمن متقدّم إلى الوراء نحونا ” قال العجوز بلسان قلبه . وقف الثلاثة مشدوهين أمام شخص رابع يتكلم بلسان قلبه ” لا تتعجبوا , لا أجيد سوى لسان القلب , وهي لسان فمي أيضاً ” قال العجوز وهو يتقدّم صوب الثلاثة .
“ماذا تريد منا أيها العجوز؟ ” قال بيدنك بلسان فمه .
“مهلاً ,مهلاً لا أفهمك ,لم الخوف ؟ لا أقصد أذيّة , أنا هنا من أجلكم , جئت لأدلكم على الحقيقة ” قال العجوز بلسان قلبه مهدئاً من روع الثلاثة .
هدأ الثلاثة وتبادلوا نظرات فيما بينهم , شقّ بيوار صمت المكان بسؤال “أفعلاً لا طريق للخروج من هذه المتاهة , سوى الموت ؟” , ساد زمنٌ من الصمت ,نمّ عن عمق السؤال , ردّ العجوز في جواب بدا طويلاً ” هذا المكان ليس متاهة, انه فعلاً متاهة لمن لم يرتق إلى مستوى الحقيقة بكل ما فيها , هذا المكان الكبير كل الكبر ليس غريب عليّ , لقد أمضيت زمناً طويلاً وأنا أتجوّل هنا , لقد حفظت كل تفصيل هنا” .
توقّف العجوز عن سرد كلامه برهة , كأنه تذكر شيء ما “هذا المكان ليس محدود البداية ,كما أنه ليس محدود النهاية ” قال العجوز وهو يقترب برأسه غير واضح المعالم من رؤوس الثلاثة ,” لا نهاية إذاً لا طريق للخروج ” أضاف العجوز وهو يحرّك سبابته في تلقين .
” والموت؟” سأل بيوار .” ما به؟” قال العجوز متعجباً , ” أليس نهاية ـ طريق للخروج ؟” قال بيوار .
أخرج العجوز عصاه من تحت إبطه , وحمله بيده ” كان يجب أن تسألوا سؤالاً آخر , دعك من الموت الآن , لم التفكير بما هو خارج الزّمكان , لم لا تفكّر بضياعك
هنا؟” قال العجوز معاتباً الثلاثة , عاد الهدوء إلى ذرات المكان الواصل ـ الفاصل بين الأربعة ” لم أنت خارج الغرف , بقيّة الناس داخلها ؟ سؤال غاب عن مخيًّلتكم المتعبة , كل قادم الى الحياة يُستقبل في غرفة من هذه الغرف الكثيرة , يكسب بذلك
إنتماءه لها , أنتم بالطبع رلكم غرفتكم الخاصة التي قدمتم إلى الحياة فيها , لكنها ولإنها لا تحمل رمزكم على كوتها لم لاتكسبوا حق الانتماء , أنتم الآن موجودون هناك , في غرفكم ,لكن ضياعكم وغربتكم الأبديّة هناك أحالكم إلى هذا المكان , أنتم الآن تعيشون في مكانين ضمن زمن واحد ” .
لاحظ الثلاثة على الفور أن النور الخافت القادم إلى المكان المظلم , قد كشف عن وجه العجوز الطويل , ذو الملامح النافرة , المليء بالتجاعيد الداكنة .
“وراء هذه الكوى يوجد غرف ,يفصل بينها جدران , ليست مستقيمة بالضرورة , وعلى كتلة هذه الغرف على مرّ الزمن , حدثت تقلّصات , تشنّجات , تقدمت الجدران , تراجعت , أزيلت , غرف وليدة فصلت بين غرفتين ثمّ أزيلت بقوّة الغرفتين وهدمت جدرانها على رؤوس قاطنيها …” قطع العجوز كلامه وهو يمدّ يده إلى وجهه الطويل يمنع عذاباته من الجريان , ” ما بك ياعم؟” قال الثلاثة معاً .
” عذراً , فقد أعادني خيالي إلى طريق قدومي إلى هنا ” قال العجوز وهو يستنشق هواء القناعة و الهدوء .
” وكيف كان طريق قدومك إلى هنا؟” قال يدنك متسائلاً . ” أنا من الجيل الذي شهد شعارنا ينسدل على كوّة صغيرة لغرفة صغيرة, ضمن غرفتنا الكبيرة التي لا تحمل شعارنا , وبعد فترة قصيرة من الزمن بقياس الغرف , أسقط جدار الغرفة على رؤوس ساكنيها , واقتيد اهلها ـ مع بقاء أجسادهم هناك ـ إلى هذه الممرات صفاً, صفاً …كم أحزن لهذا ” قال العجوز .
“يا للغرابة !” قال سوران بحزن , ” المهم أن تكونوا أوفياء لأجسادكم هناك ، لقد كان لي أصدقاء اوفياء لأجسادهم ,و لغيرهم , اختاروا لي البقاء لأدل أمثالكم على الحقيقة و طريق الخلاص , كانوا شجعان , اختاروا الموت لأنفسهم للظفر بعودة
ـ على هيئة نسخة واحدة ـ إلى غرفة ” أتمّ العجوز كلمته و طأطأ رأسه , وبتمام كلمته تدفّق النور سابحاً وحمل معه العجوز , الذي قال وهو يختفي بضع كلمات حملها الهواء إلى الآذان الثلاثة ” حذارمن أن تنخدعوا بأقوال أصحاب شعارات غرفكم فلهم القدرة على تبرير كل شيء بلسان ما فوق الزّمكان “وغاص العجوز واختفى وسط النور .
تنافر الثلاثة ذعراً واستغراباً , لقد ساق النور الذي سرى في المكان العجوز كقطعةى خشب , “أين ذهب؟” قال بيوار مندهشاً .
ساد صمت ٌ, تلمس خلاله الثلاثة قاع بحر كلماتهم بحثاً عن جواب , ” يجب أن يرحل , لقد أتم مهمته ,وصلنا النور رسول الحقيقة ” قال سوران بهدوء.
” الآن لم نعد جدد , لقد أدركنا الحقيقة ، هذه ليست متاهة ” قال بيدنك .
” سأحلّ محل العجوز , سأقوم بمهامه , ارشاد الجدد ” قال بيوار بجدّ.
” أما أنا . سأكتب أشعاراً عن حلمنا الضائع , في دفتري الضائع بعد أن أجده , وسأرسم فيه طريق العودة الظافرة للجدد” قال بيدنك وهو يضم قبضته ,ويحرّكها في الهواء .
” أما أنا , إن بقيت هنا هكذا فسأعيش طوال الحياة دمعة , لقد اخترت طريق الخروج الطبيعي , كي لا أعود إلا بسمة سابحة ” قال سوران متأملاً .
” ما الذي تقصده يا سوران ؟” قال الإثنان معاً .
” الموت , نعم اخترته طريقاً للعودة إللى الحياة كما أريد أنا , بسمة طافية على الحياة” قال سوران .
” ولساننا , أهو ما في فمنا أم القابع بقلبنا ” سأل بيوار .
” لساننا هو لسان قلبنا , يجب أن نقتلع لسان فمنا , ونضع لسان قلبنا موضعه”.
وهكذا… افترق الثلاثة بعد أن احتضنوا , مضى بيدنك و بيوار في طريق , وسوران في طريق , طريقان كلاهما مؤدي للآخر , مشوا مبتعدين عن بعضهم , فجأة التفت بيدنك ونادى ” ومذا نصنع بلسان فمنا؟” .
” لا أدري , ولكن بالتأكيد مكانه ليس في القلب ” رد سوران .
” وإذا سُئلنا عن زمننا هذا ماذا نقول؟” سأل بيوار .
” زمن الموت” قال سوران , قطعت هذه الكلمات الممر الطويل , وعندما وصلت لأذنهما , كان سوران قد خرج من المكان ـ الوجود.
30/8/2005 م