مقدمة بقلم المُعِد
في ظل التحديات التي تواجه كل من يحمل راية “لا”….أتطرق إلى جزء صغير يواجه كغيره تحديات كبرى ، وهو المسرح ، بالطبع لا لأنني أعتبره اختصاصاً بل شغفاً يجعلني دوماً أول المتظاهرين إن جاز لي التعبير.
المسرح : الذي هو ابن الحرية بامتياز، لدى من هم بعيدون عنا… ولكنه ابن الطبيعة كما يتراءى لنا وابن غرفة معيشة رغماًَ عنا.. !!
ومسرحنا الكردي كغيرهِ من المحيطين به يعيش أزمات عدة ، ومن أهمها أزمة الهوية..!؟ وإنطلاقاً من أن التراث ربما يملك الحل لهذه الأزمة – على الرغم من الصعوبات القسرية الأخرى و التي لست بصدد ذكرها الآن– فقد حاولت كثيراً وغامرت أكثر في المساهمة لحل تلك المشكلة ولو بالقليل … في إعداد نصٍ مترجم للقصة الكردية المعروفة “مم وزين” إلى اللغة العربية مسرحياً .
ويكفيني شرف المحاولة ومرحباً بعواقب مغامرة إدراجها من جديد كمسرحية ضمن ما كتب عنها.
تمهيد
( حديقة قصر الأمير زين الدين )
هيلانة : ( بود ) … أميرتي الصغيرة … أميرتي الصغيرة …
زين : ( وهي تبحث بين شجيرات الورد عن شيء ما ) … نعم يا خالة .. ماذا هناك .. ؟
هيلانة : ( وهي تدنو منها ) .. لا جدوى من بحثك يا أميرتي .. فإن طائرك قد رحل …!!
زين : ( وهي لا تزال تبحث عن الطائر ) .. اخبريني يا خالة .. أيكون جزاء حريته ، النفور مني والهرب ..!!؟… ليتني لم أخرجه من القفص …
هيلانة : ( مداعبة خصلات شعر زين ) .. لا يا أميرتي الجميلة … فأنت الربيع بحاله ، ولا يعقل أن تنفر العصافير و الورود من الربيع …. لكن من شيم طائرك .. الخيانة ..!!.. فكفاك بحثاً عنه … أخشى عليك من شوك غاشم ..!!
زين : ( مستسلمة ) .. فليذهب في حال سبيله .. فأنا ما كنت إلا سأعتِقه لاحقاً …!!
هيلانة : ( بحنية
) .. أأحضر لكِ قليلاً من شراب الورد يا صغيرتي ..؟
زين : ( وهي تجلس ) …حسناً يا خالة … ( منتبهة ) .. ترى هل أفاقت ستي ..؟!.. تفقديها في طريقك…
هيلانة : ( وهي تنصرف ) … لا شيء أحب إلي من خدمة أميرتي الصغيرة ….
زين : ( وهي تتأمل الحديقة من حولها ) .. غداً سنستقبل ربيع سنة جديدة … ( بحسرة ) .. لا بد أن الناس يتهيئون للخروج إلى ظاهر المدينة … لكي يقضوا النهار فوق المهاد الخضر الوافية … وعلى ضفاف دجلة ….
ستي : ( وهي تدخل الحديقة مقاطعة خلوة زين وحدثيها مع الطبيعة ) .. إن للطبيعة عليهم حقٌ ومِنّة كبرى .. ومن واجبهم أن يحتفلوا بها في مولدها الجديد …
زين : ( وهي تقوم من مقعدها باحترام وود ) .. أختاه .. جعل الله صباحك نوراً ….
ستي : ( وهي تدنو من مقعد زين ) .. ألا تملين الحديث مع الجماد من حولك…؟!!!
زين : ( متأملة ).. إن لهذا الجماد آذان صاغية يا أميرتي .. فانظري إلى هذه الطبيعة الحالمة … إنها جميلة بحق ..
ستي : ( منتبهة وبشيء من الحزن ) … يبدو يا زين بأنني لن أجد ذاك الرجل الذي أعجب به والذي يبلغ جماله شيئا ًمن فتنة هذه الطبيعة الحالمة ..!!!
زين : (بتعجب ) .. ويحك .. هذا يعني أن يكون رجلاً في ذروة الجمال …!!!.. كيف ستجدينه .. كيف …؟؟!!!
ستي : … في هذه الجزيرة بالطبع …
زين : ( بتفاهم ) … أتحسبين أن الرجال كلهم يعيشون في قصرٍ مثل قصرك هذا …!!!؟.. وينشئون في مثل ما أنت فيه من نعمة ….!!!؟.. أنت الأخت الكبرى للأمير زين الدين …
ستي : ( بحزن ) … لو بحثت عنه …. ربما أجده …
زين : ( ممازحة بود ) … أتصبح أختي الرقيقة ، رجلاً من الرجال ..!!.. تداخلهم وتستعرضهم في جلساتهم …!!!.. ثم تجد ذاك الرجل المنسوج من خيالها فتركن إليه ..؟؟!!
ستي : ( فاقدة الأمل ) .. هذه هي المشكلة .. يا زين .. ( تقوم من مكانها وتتجه نحو شجرة التوت ) .
زين : ( منتبهة )… لعمري إنك جادة في ما تقولين ….!!!
ستي : ( متكئة عل جذع الشجرة ولا ترد ) ….. ( زين تنفجر ضاحكة ) .. ويحك .. أتضحكين على حال أختك الكبيرة ..!!!؟
زين : ( وهي تدنو منها ) … العفو يا أميرتي … ولكنني أظن بأنني وجدت حلاً لهذا المشكلة ….
ستي : ( بسرور بالغ ) .. حل ..!!.. ما هو يا زين ..؟؟.. ارأفي بي واخبريني بسرعة ….
زين : ( ممسكة بيد ستي وملتفتةً حولها بحذر ) … غداً هو عيد …!!.. وجميع الناس رجالا ونساء ، سيخرجون إلى الحقول … إنها فرصة لما تفكرين فيه .. أليس كذلك …؟
ستي : ( مبتعدة عنها بأسى ) … ويحك .. وأين الحل في هذا ..!!.. ألا تعرفين طباع الأمير وقوانين القصر ؟؟!!.. أم أنك …
زين : ( مقاطعة بخبث ) .. أميرتي .. إنني لم أقل الحل بعد ….!!
ستي : ( بنفاذ الصبر ) .. زين .. اخبريني بسرعة إذا …
زين : ( بخبث ) .. حسناً اسمعي .. علينا أن نتأخر عن موكب القصر حتى يخلو تماماً … ثم نتنكر في هيئة رجلين .. ثم نندس في صفوف الرجال في الحقول والرياض..
ستي : ( منتبهة ).. وكيف نتأخر عن موكب القصر.. ونحن أميرتا..
زين : ( مقاطعة ) .. نتظاهر بفتور في جسمينا يمنعنا من الخروج … وهناك بلا شك ….. سيحسبوننا من بعض شباب القصر وغلمانه …
ستي : ( وقد انفرجت أساريرها ) .. وستتاح لكل منا أن تجد من بين شباب هذه الجزيرة الواسعة الأطراف من يروقها ويعجبها … لعمري إنك ذكية يا زين …!!
( تدخل العجوز هيلانة فتلمحها زين )
زين : ( منتبهة لهيلانة ) .. تأخرت يا خالة ….؟
هيلانة : ( وهي تقدم لهما الشراب ) .. أعتذر يا أميرتي الصغيرة .. فلقد كنت أهيأ للأمير عدته …
ستي : .. أخرج الأمير من الديوان يا خالة …؟
هيلانة : إنه لا يزال هناك مع بعض رجاله .. يتحدثون عما يختص برحلة الصيد التي عقد عليها العزم مع بعض أصدقائه في صباح الغد .. ( تحيهما بانحناءة ثم تخرج ) .
زين : ( بفضول ) .. ماذا قلت يا أميرتي ستي …؟؟؟!
ستي : … إنني موافقة .. موعدنا في الصباح الباكر إذا …
زين : .. حسناً . تعالي معي .. سأذهب لأبحث عن بعض الثياب هنا وهناك …. انتظريني على الشرفة
ستي : حسناً… ولكن لا تتأخري علي كثيراً … ( تخرجان معاً ) .
نوروز
( الديكور طبيعة ، والناس منتشرون بين أجواء خمرية ساحرة تتهادى على ضفاف النهر الفضي وفوق الروابي الخضر المطرزة بأبدع نقوش الزهور وفوق سفوح جبل جودي المفروشة بأبهى ديباجة من السندس المتألق ) .
الشاعر : (جالساً على صخرة حالماً ) … إن العاشق قد جاء ليغمر جراح قلبه بكؤوس من النسيان…. وما بيدي حيلة سوى أن أطرق خاشعاً … وأرنو إلى الفتنة الحالمة … أستوحي منها آيات الإلهام .
الفيلسوف : ( متجهاً نحوه وبنفس النبرة ).. الغني والفقير قد اجتمعا اليوم … وتحاذى الصغير والكبير … وتلاقى المثقف والجاهل … أتعلم بأن الحيرة تأسرني الآن ويتملكني ذهول لا أقدر على وصفه ..!! أكاد أهوي ساجداً لخالق هذا السحر والجمال …
الشيخ : (متدخلاً بود ) … إن الطبيعة أمهم جميعاً من دون تفريق … تحنو عليهم حنواً واحداً وتبتسم لهم ابتسامة واحدة .
الشاعر : ( خاشعاً ) .. وتسقيهم من كأس لا تختلف …
الفيلسوف : (ساجداً ) .. فلهم جميعاً أن يثملوا اليوم برحيقها ويرقصوا في أحضانها …
الشيخ : … وأن يجد الكل في سرها دواء قلبه … تعاليا معي .. يا أبنائي … ( يخرج الثلاثة ) .
الأول : ( في أقصى اليمين بحيرة ) … هناك أمر واحد استطاع أن يلفت عقلي في هذا اليوم غير كل هذه الطبيعة الرائعة ..
الثاني : (مؤكِداً ) .. لو أن الطبيعة الخلابة استجمعت كل فتنتها وسحرها .. ثم أرادت أن تقذف بجميع ذلك إلى الدنيا .. لكانت أقل جمالاً من هذين الشابين …؟؟!!!!
الأول : ( بحيرة ) … من عسى يكون هذان الشابان اللذان لا يبدو فيهما شيء من كثافة الدنيا ..؟
الثاني :..لعلهما ملكان نزلا من السماء للمشاركة في هذا العيد .؟؟
الأول : …أم أنهما توأمان لهذه الطبيعة …؟؟؟
الثاني : … وجسدتهما الطبيعة في مظهر شابين ….. هدية إلينا وشكراً لاحتفائنا بها …؟؟؟
الطفل الصغير : يا أخوتي .. أمي تناديكما .. تعالا معي …
الأول : ( حاملاً أخاه الصغير على كتفه )…كيف وجدتنا …!!! كنت تراقبنا أليس كذلك …؟؟؟
الثاني : .. أين هي.. أتعرف مكانها جيداً.. أخشى أنك ضيعتها ..
الطفل الصغير : ( وهو على كتف الأول مشيراً إلى مكان قريب ) … لا لا .. إنها قريبة من هنا … ( يخرج الثلاثة ) .
زين : ( بهيئة رجل وهي تتقدم من الجمهور مخاطبة ستي ) .. إننا نثير عواصف الدهشة لدى كل شخص يلمحنا ..!!!
ستي : ( وهي تدنو من أختها ) … لقد سحرنا الألباب ولكننا لم نستطع العثور على أي شاب بين هذا الجمع الغفير يسحر لبنا ويثير إعجابنا …!!!
زين : ( مواسية ).. أخي العزيزة.. إنك تقيسين نسبة الجمال بمقياسك الخاص … وتقدرينه بالنظر للمعجزة التي خصها الخالق بنا ..!!
ستي : ( فاقدة الأمل ) .. لقد شارفت الشمس على المغيب … دعينا نعود إلى القصر قبل أن يعود الأمير وينتبه إلى غيابنا …
زين : … حسناً يا أميرتي .. ولكننا لن نسلك ذاك الطريق … فهو يهدر بجموع كبيرة من الرجال والنساء والأطفال وهم عائدون إلى بيوتهم …
ستي : … أتشيرين بأن ننحاز في سيرنا إلى ذلك الطريق البعيد عن الزحام …؟؟ فكرة جيدة..
زين : ( بقلق ) … انظري إلى تلك الجهة … إن تلك الفتاتان تتجهان نحونا …؟؟!!!!
ستي : ( بخوف ) .. إنهما تقتربان .. أتراهما من القصر ..؟؟!!!.. ولكن ما بهما يمشيان في خطى متعثرة ووجهين متعجبين …؟؟!!!
زين : .. دعينا نقترب منهما أيضاً … ونتحقق من أمرهما …
( تترنح الفتاتان ما أن تريا ستي وزين تقبلان نحوهما ثم تقعان على الأرض مفارقتين لوعيهما) .
زين : ( مصعوقة ) …يا رب السموات … لقد وقعا … ترى ما بهما ……..!!!!؟
ستي : ( وهي تتقدم منهما أكثر ) .. لا بدَّ أن الدوار قد أصابهما … اقتربي …
زين : ( وهي تتفحص شكلهما محاولة تحريك ذراع احديهما ) .. إنهما في غيبوبة كاملة …!!!!!
ستي : ( بذهول ) ترى من تكون هاتان الجاريتان .. ولماذا سقطا أرضاً حين رأيننا ..؟؟؟!
زين : ( منتبهة ) … أخشى أن وقوفنا إلى جانبهما سيلفت نظر الناس الذين يمرون على مقربة منّا … هيا نبتعد من هنا يا ستي ….
ستي : ( وهي تراقب من حولها ) .. انظري إن الجموع تتجه نحو الطريق الأخر … كم أشفق على هاتين الفتاتين .. ما رأيك لو نوقظهما …؟؟
زين : ( وهي تتفحص شكلهما من جديد ) .. لن نستطيع فهما في غيبوبة كاملة كما أخبرتك … أراهن يا ستي بأنهما تتمتعان بمكانة عالية .. تمعني في ثيابهما .. ربما تكونان شقيقتين أو ربما قريبتين ..
ستي : ( وهي ترنو إليهما بعين من أسى ) .. أي روض ترى أخضّر فيه هذان الغصنان..؟؟!!
زين : ( كحال أختها ). وفي أية خميلة تفتحت هاتان الوردتان .؟!
ستي : وأية سحابة غذتهما من مزنها ..؟؟!!
زين : .. وأي الجداول ألبستهما سحرها ..؟؟!!
ستي : ( منتبهة وبقلق ) .. زين .. انظري هناك .. إنهم فرسان وتجري بهم الخيول في تلك الشعاب باتجاه المدينة …!
زين : ( مستدركة ) .. إنهم الأمير وصحبه عائدون من الصيد .. علينا أن نعود إلى القصر قبل وصولهم ..
ستي : ( وهي تستبدل خاتمها بخاتم إحدى الجاريتين ) .. اسمي منقوش بوشي دقيق من حجارة الياقوت على خاتمي … فليكن لك أيتها الجارية .. وسآخذ خاتمك البسيط هذا….
زين : ( وقد أحبت الفكرة ) … فكرة جيدة ..حسناً أيتها الجاريتان .. لتنوبَ خواتمنا عنّا في التعبير عن تقديريكما والعطف عليكما … ( وهي تقوم باستبدال خاتمها بخاتم الجارية الأخرى )
ستي : .. ولتكن وسيلة لهما فيما بعد إلى معرفتنا ….
زين : ( ممسكة بيد ستي ) …لماذا أسمع كلام ستي يا رب السموات .. وأرضى بخاتم من الخرز والزجاج بدلاً عن خاتمي النادر ..
( تسحب أختها بسرعة إلى الخارج )
مم
(شرفة كبيرة نوعا ًما مطلة على نهر دجلة،مم جالس وهو يتأمل ما يتأمله في فضاء رحب)
المربية : (بأسى وهي تنقل بصرها بين مم وبين طعامٍ لم يذقه ) … بني .. إنك لم تلمس رغيف الخبز حتى … لماذا تشعر بكل هذه الوحشة … شاركني بما يجول في خاطرك … إنني مثل أمك …
مم : (منتبهاً ).. آماه .. لا أرغب في تناول الطعام وحسب … فلا تقلقي…
المربية : ( وهي تجلس إلى جانبه غير مقتنعة ) .. مرَّ ما يقارب الأسبوع وأنت على هذا الحال يا بني … أتعاني من مرضٍ لا قدر الله ..؟؟.. تشرد دائماً .. وتحس بالملل عن سائر ما كنت تألفه..!!
مم : ( متجنباً خدش عواطفها ) .. لست مريضاً يا آماه وإنما هو تعب ليس إلا …
المربية : ( وهي تحبس دموعها بصعوبة ) .. مم .. أشعر بأن طفلي يقاسي آلاماً غامضة تشتد ولا تلين .. تزداد ولا تقل .. وتعاني شعوراً طارئاً لا أدري سببه أو أدرك تفسيراً له (تخرج المربية وهي تحمل الطعام ودون أن تسمع ما سيقوله مم لاحقاً )
مم : (صارخاً)… أمي.. انتظري… (بعصبية).. يا رب السموات… وهل أدري أنا سببا ًلهذا الشعور الطارئ أو أدرك تفسيره … ( بأسى ) … ما هو ذلك الشيء … ومتى أحسست به حتى أشعر بأنني افتقده… ( منتبهاً ) … لولا غرابة ذلك الشعور … وغموض تلك الأحاسيس … لكنت أخبرت تاج الدين .. الذي قد تغيرت أحواله هو الأخر.. ربما يشعربالحرج من إظهار مشاعره مثلي أنا …
تاج الدين : ( يدخل لاهثاً ).. مم … ما بك يا أخي .. نادتني المربية .. وهي تقول بأنك لم تغادر غرفتك وهذه الشرفة منذ يومين .. أتعاني من مرض ما …؟؟!!
مم : ( بتفاؤل )… انجدني يا تاج الدين .. فإنني ما عدت قادراً على التحمل …!!! أريد تفسيراً لما حدث لي منذ ذلك اليوم …
تاج الدين : ( متذكرا ًبود ) …حسناً يا مم .. حاول أن تتذكر معي … أولا ً.. أفقنا من غيبوبة ونحن متمددان بين تلافيف ليل أسود مظلم قد توارت من سمائه النجوم .. أليس كذلك ..؟؟
مم : ( متذكراً ).. نعم .. نعم .. في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم ولا يرفرف في سمائها جناح .. وقد أطبق علينا آنذاك جوٌ من النسيان والذهول …!!!؟
تاج الدين : ( بحيرة مسائلاً نفسه ) … ولكن ما الذي طرحنا في تلك الأرض …؟؟!!.. وما السبب في بقائنا هناك بالتحديد ..؟؟!!
مم : ( بأسى).. آه يا صديقي … إنه أمر يحيرني .. فأنا أعاني من خبل في الذاكرة … فساعدني …
تاج الدين : (متذكراً ) .. دعني أفكر يا مم … ثم نهضنا بإرهاق واضح فسلكنا طريقنا إلى المدينة حيث استطعنا أن نصل إلى داخل العمران .. بعد إعياء وتحامل شديدين ..
مم : ( كحال صاحبه ).. وأذكر بأننا حيينا بعضنا ثم انصرف كل منّا إلى بيته يا تاج الدين يامن أصبحت ذابل الشكل مثلي ..
( منهاراً ) أنا متعب يا تاج الدين … متعب …
تاج الدين : ( مواسياً ) .. لقد سرني يا مم بأنك أفضيت لي أخيراً أوجاعك .. ولكن هذا لن يفيدنا في استجلاء شيء من الحقيقة …
مم : ( بتفاهم)…صدقت يا تاج الدين … لكن هذه الآلام تدفعني إلى الجنون .. آه لو أعرف ذلك المصدر المجهول …
تاج الدين : ( وقد لمح في يد مم خاتماً من الجوهر النادر ) .. لقد كان علي أن أبارك لك على هذا الخاتم البديع … ولكنني لم ألمحه في يدك قبل هذا اليوم …
مم : (مصعوقاً ومنتفضاً من مكانه وهو يخرج الخاتم من إصبعه) … كيف وصل إلى إصـ..زين..!! أقسم لك يا تاج الدين بتراب هذه الجزيرة بأنني لا أعلم كيف أنه وصل إلى إصبعي ..؟؟؟!!!
( يلمح مم خاتما ًمثله في إصبع صديقه فيشير إليه بذهول
كبير )
تاج الدين : (مصعوقاً )… وأنا مثلك يا مم .. لم ألمح هذا الخاتم قبل هذه اللحظة .. انتظر قليلاً ….. إنه يحمل اسما .. ستي .. ستي ..؟؟!!!
مم : ( حائراً ) … زين ..؟؟!!.. ستي ..؟؟؟!!.. إن السر يزداد غموضاً يا تاج الدين…!!!!!!؟؟
تاج الدين : (مصعوقا ًوكالمحموم ) … ويحك يا مم … لقد تذكرت .. ويحك إنهما خاتما الأميرتين .. أميرتي الجزيرة .. شقيقتي الأمير زين الدين………….!!!!!
مم : ( مستسلماً على مقعده وقد خارت قواه ) .. في يوم مهرجان الربيع … حاولنا رؤية هاتين الأميرتين .. وتنكرنا بزي الجواري من أجل هذا الغرض ولكننا لم نلمحهما آنذاك..!!!
تاج الدين : ( منتبهاً ) .. وبحثنا عنهما بين كل الفتيات .. لكننا لمحنا شابين لا كالشباب …كانا في غاية الجمال … وقد دنونا منهما لنعرف من يكونان ……
مم : ( مصعوقاً ) … ولا شك بأن الغشية التي حبستنا في الفلاة تلك الليلة كانت من إثر ذلك …
تاج الدين : ( حائراً ) … أتقول .. أتقول يا مم بأن الشابين لم يكونا إلا الأميرتين….؟؟؟؟؟؟!!!! ( لحظة صمت قاسية ) .
مم : ( وهو ينهض ولكنه لا يقوى على ذلك فيجلس حالماً ) … إن النيران بدأت تحتد في قلبي يا تاج الدين .. ودقاته بدأت تزداد … وكأن روحي قبل ذلك كانت تائهة عن الطريق التي اهتدت إليها الآن .. هذا يعني بأنها الحقيقة .. الحقيقة يا تاج الدين …
تاج الدين : ( وقد شعر بمعاني التوجع والأسى بادية في مظهر مم وهو ينهض إليه ويلقي بيده على كتفه ) .. إنه من الخطأ أن نسلم أنفسنا إلى اضطرابات من هذا النوع يا مم … ولا ريب أن ذلك غير مناسب لمثلي ومثلك .. فأنت أحد سكرتيري الديوان .. وأنا أبن الوزير الأول للديوان .. وكلانا معروف في هذه البلاد بالشجاعة … ( منتبهاً ) …ماذا سيلحق بنا إذا سمع الناس بقصتنا … فلينهض كل منّا من فراش هذا الفتور … ما رأيك
يا مم ..؟؟؟
مم : (حالماً وهو يتناوب في النظر إلى الخاتم وتقبيله ) … إنا هذا الإنسان الذي تحدثه الآن .. ليس ذلك الذي عرفته …!!!.. فلا تبحث فيّ عن شيء مما تسميه الشجاعة والبأس … لقد فقدت كل ذلك يا تاج الدين … فقدت كل ذلك ….
تاج الدين : (مواسياً بأسى ) … لقد أيقنت أن أمرك قد تجاوز بك إلى حالة لا تفيد فيها النصيحة…وما عساي أن أفعل يا مم إلا أن أعتصم بالسكوت …
( يخرج تاج الدين بعد تقبيله لرأس مم الذي لم ينتبه لخروجه وهو يتابع التأمل في الفضاء بحيرة عمياء ) .
زين
( غرفة في قصر الأمير زين الدين )
زين : ( وهي ترتب أقمشة في خزانة جداريه)… ستي .. أميرتي .. انجديني .. فالتفكير في أمر الجاريتين بدأ يستولي تدريجيا ًعلى خيالي … وبدأت أحاسيسٌ .. تسيطر على قلبي …
ستي : ( وهي تناولها الأقمشة ) ..آه يا أختي .. قد كان منظرهما وهما على تلك الحالة من الذهول وعلى وجهيهما تلك المسحة من الجمال ..كافياً لأن يتأثر المرء به لسنة بحالها …
زين : ( مفكرة ).. قد كانت حادثة غريبة بالفعل تلك التي أصابت الجاريتين .. ( بفضول) .. ترى من يكونان …؟؟!
ستي : ( بتأثر ) .. إنه لشعور غريب يساورني نحو تلك الجاريتين المجهولتين من حنان أو إعجاب بل حب أخذ في الزيادة .. رغم أنهما امرأتان مثلنا ( منتبهة وبحذر ).. هذا صوت هيلانة يا زين..
هيلانة : ( تدخل وهي تدنو منهما ثم تجثو على مقربة منهما )
( بخبث ) .. صحيح أنني هرمة مسنة..غير أن ذكائي لا يزال فتياً يلتهب… وأنا من ربتكما يا زين ويا ستي .. وتعلمان مقدار الحب الذي أكنه لكما …
زين : ( متفادية ) … ونحن نحبك يا خالة … ولكن ما الأمر… هل هناك ما يؤرقك ..؟؟
ستي : ( بنفس النبرة ) .. إن كنا قد أزعجناك بشيء ما .. سامحينا .. فإننا بالتأكيد لم نقصد ذلك ..
هيلانة : ( بخبث ) .. اصدقا القول معي إذا … فقد لاحظت أن حالة طارئة تطوف بكما منذ اليوم الذي خرج فيه الناس إلى مهرجان الربيع .. فأنتما تختليان دوما ًفي بعض غرف القصر وتتهامسان في أمرٍ لا أعرفه بعد .. ( بحنية ) .. فهل لي أن أسأل عن السر الذي أحالكما إلى وردتين ذابلتين … فقد أستطيع معونتكما في شيءٍ إذا كان مستعصياً .. أو استخدم تدبيري وسحري إن كان خافياً …
زين : ( وهي تنظر إلى ستي كأنها تشاورها في إفضاء الأمر إلى هيلانة ) .. إن كل ما حدث لنا أننا أحسسنا على ما يبدو منذ ذلك اليوم بضيق في النفس لا ندري له سبباً..ويبدو أن شيئاً بسيطاً من ذلك لا يزال يساورنا … أليس كذلك يا أميرتي ستي …؟
ستي : (منتبهة ) .. نعم بالتأكيد .. هذا كل ما حصل يا خالة …
هيلانة : ( وهي تقوم من مكانها مدركة بأنهما تحاولان كتم أمر عنها ) … أهناك من أعجبكما ولم يسجد أمامكما حتى تثيرا الحيرة من أجله وتذكيا نار القلب من ورائه …؟؟!!.. اخبراني .. حتى تريا كيف سيأتي أسيرا ًفي قيود الهوى … ذليلا ًتحت سلطان هذا السحر …
ستي : (مستسلمة ).. ليس هذا الذي تظنين أيتها الخالة هو السبب في حيرتنا .. إنما السبب في ذلك شيء آخر..( وهي تنظر إلى زين ) وكنّا نود أن نستطيع إيضاحه والإبانة عنه حتى تعالجيه لنا بدهائك وتدبيرك … لكنه لغزٌ يا خالة …!!!
زين : ( بحيرة ) .. لغز .. لغزٌ مقفل من كل جوانبه ولا نفهم شيئاً عنه .. كل ما نستطيع قوله هو أن نحكي لك القصة كما جرت…
هيلانة : ( بفضول قاتل وقد تبسطت في جلستها ) … حدثاني عن تلك القصة..فلا بدَّ لي إن شاء الله من كشف سرها وحل لغزها…
ستي : ( متذكرة ) .. بينما كنا نتدرج في ذلك اليوم .. يوم الربيع بين المروج والرياض .. تفاجئنا بجاريتين لم نرى قبل ذلك مثلهما لطفاً وجمالا ًتقبلان نحونا في لهفة بادية وبخطى متعثرة..!!
زين : ( بتعجب ) .. وحين أصبحتا على مقربة منّا يا خالة …. عصف بهما الذهول عصفاً شديداً … وطرحهما في جانب من تلك الأرض …!!!
هيلانة : ( متدخلة بفضول ) فدنوتما منهما لتنظرا في شكليهما وتستكشفا شخصيهما .. أليس كذلك ؟
ستي : ( بحيرة ) .. ولكننا لم نستطع أن نفهم عنهما شيئاً …!! فقد كانتا تبدوان غريبتين في زيهما وملامحهما ..؟؟!!
هيلانة : ( بشغف ) .. ها .. وماذا فعلتما بعد ذلك ..؟؟!!!
زين : ( بحيرة لذيذة ).. وقفنا فترة من الزمن أمام منظرهما وهما في تلك الغيبوبة … لقد شعرنا بروحينا تطوفان حول قلبينا ثم تستقران في قلبيهما .. ( باستسلام ) ..كانتا تبدوان أيتها الخالة كأبدع كأسين صافيتين .. وكنّا نحن الخمر الذي تترقرق
فيهما …
ستي : ..بل كانتا أجمل مصباحين مضيئين .. وكنّا النور المتوقد فيهما…
هيلانة : ( وقد دبت القشعريرة في كل أنحـاء جسدها القديم ) .. وقفتما أمام منظرهما .. ثم ماذا ؟؟؟
زين : ( بشفقة ) .. ثم تركناهما يا خالة على تلك الحالة ومضينا دون أن نعلم ما الذي تم بشأنهما ..
ستي : .. بل لم ندرك .. أكان ذلك حقيقة رأتها أعيننا أم .. أم حلماً من أحلام تلك الطبيعة ..!!؟
هيلانة : ( وقد أطرقت برأسها تحملق في الأرض مندهشة ثم تنظر إليهما ).. بل أظن يا أميرتاي الصغيرتان.. أنه حلم ٌمن أحلام الطبيعة .. ووهم ٌمن الخيال .. فلا تدعا للوهم والأحلام مجالا ًإلى قلبيكما …
زين : ( بدهاء ) .. ولكنك قلت أن لديك من التدبير ما تستطيعين الكشف به عن كل لغزٍ وخافية أم يبدو أن عزائمك قد خرفت وتقدم بها السن يا خالة ..؟؟
ستي : .. وحديثنا هو الحقيقة بعينها .. التي شاهدناها بأم أعيننا .. وهذا هو الدليل يا خالة
هيلانة : ( بتعجب ) … خاتم ..!!!؟؟
زين : … بل خاتمين .. فقد أبدلناهما بخاتمينا حينذاك .. ليكونا عوناً لنا في البحث عنهما ..
هيلانة : ( وهي تلتقط الخاتمين وتحملق فيهما وتقلبهما وتمعن في شكلهما ثم تهز رأسها).. أما الآن فأستطيع أن أفهم شيئاً مما تقولانه.. فقد عثرت على خيوط هذا السر الذي لا بد لي من كشف قناعه… ولكن لابد لذلك من مهلة.. ولا بد أيضاً من بقاء هذين الخاتمين لدي..
ستي : ( بغبطة ) … موافقتان …شريطة أن تحافظي عليهما … وتكتمي الموضوع كتماناً تاماً …
زين : ( مستدركة وهي تبحث في الخزانة الجداريه).. وسأعطيك شيئاً من المال .. ليكون عوناً لك وأعدك يا خالة بالمزيد .. لو نجحت في هذه المهمة …
هيلانة : ( وهي تخرج ) … لا شيء أحب إلي من خدمة أميرتي الصغيرتين …
( تنفرج أسارير زين وستي بعض الشيء وهما تتابعان ما كانتا تقومان به ) .
هيلانة
(مغارة مضيئة بالشموع مليئة بالدفاتر والخزعبلات قليلة العمق )
هيلانة : ( وهي تفحص كل شيء محيط ٍبها ) … السلام عليك
يا شيخنا … ( وهي تلقي بدينارٍ ذهبي فوق طاولته ) .. هذه لك يا شيخنا .. أمد الله بعمرك …
الشيخ : ( جالسا ًخلف طاولة قصيرة الأرجل ) .. هات ما عندك أيها العجوز .. فليس لدي النهار بطوله …
هيلانة : ( بارتباك ) … العفو .. يا شيخنا … العفو .. فلي طفلان يتيمان .. هما كل ما بقي لي من أمل في الحياة …
الشيخ : (بنفاذ الصبر ) …هل ستحكين لي قصة حياتك أيتها العجوز ..!!؟ هات من الأخر …
هيلانة : … عفوك يا شيخنا … المهم : خرجا مع الناس -بحكم طفولتهما – إلى الفلاة في عيد الربيع وهما بكامل وضعهما الطبيعي وعلى أحسن ما يكونان رشداً وعقلاً ..
الشيخ : ( مستنتجاً )…لم يعودا إلى البيت منذ ذلك إذا… وتريدين أن أعرف مكانهما …
هيلانة : .. لا يا شيخنا الكبير …
الشيخ : … فهمت .. عاد أحدهما ولم يعد الآخر بعد …
هيلانة : .. بل عاد الاثنان معاً … يا شيخنا الكبير …
الشيخ : ( بعصبية ).. إنك تثيرين أعصابي أيتها العجوز… فتكلمي قبحك الله …
هيلانة : … العفو .. العفو يا شيخنا الكبير .. ولكنهما عادا إلى البيت وقد تشعثت هيأتهما وتمزق لباسهما ذاهلين لا يملكان وعياً ولا حساً … كأنما قد أصيبا بمس في عقليهما ..
الشيخ : ( متعجباً ) .. وحالتهما بالطبع تزداد سوءاً كلما مر يوم آخر …؟
هيلانة : … أجل يا شيخنا الكبير… ( منتبهة ) .. ولقد جئتك بخاتمين كانا معهما.. لكنني لم ألمحهما في يديهما قبل ذلك اليوم …
الشيخ : .. دعيني أراهما ..
هيلانة : ( وهي تناوله الخاتمين ) .. يخيل إلي أن فيهما سر الخمرة التي أودعت بعقليهما إلى هذا الذهول … أهو صرعٌ وجنون .. أم خمرٌ هو وعشق .. أم ماذا ..؟؟؟؟
الشيخ : .. ما هو المطلوب مني .. أيتها العجوز …؟؟
هيلانة : ( بسرور ) … هناك سرٌ دفينٌ في هذين الخاتمين فاعلمه .. وحسبك أن ترشدني إلى صاحبيهما … أهما ملكان يجوبان السماء .. أم شيطانان تحت الطوايا السبع .. أم بشران مثلنا يسيران فوق أديم الأرض …..؟؟؟
( الشيخ ينكب على أحد دفاتره وهو يأخذ ينهمك مرة في الحساب والترقيم ومرة في الإطراق والتفكير والعجوز تراقبه بفارغ الصبر )
هيلانة : ( بنفاذ الصبر ) .. هل انتهيت يا شيخنا الكبير … انجدني أرجوك …
الشيخ : ( وهو يرفع رأسه وينظر إلى العجوز بعينين ذاويتين قد تغضن ما حولها ) .. أولا بد من كل هذا الكذب والتزوير أيتها العجوز الماكرة …؟؟!
هيلانة : ( بخوف ) … عفوك يا شـيخنا … ولكن اخبرني ماذا رأيت …؟؟؟؟؟
الشيخ : .. تقولين طفليك اليتيمين .. وهما أربعة .. شابان وفتاتان يتيمتان …
هيلانة : ( بسرور ) … وماذا بعد يا شيخنا الكبير ..؟؟؟
الشيخ : … وتقولين .. بأنه صرع ومس وجنون … والحقيقة هي .. مس الروح للروح .. وتعلق قلب بآخر.
هيلانة : ( بسرور بالغ ) … والخاتمين يا سيدي الشيخ ..؟؟؟
الشيخ : .. صاحبهما ليسا ملكين في السماء .. ولا شيطانين من الجن .. إنهما شابان معذبان ، ضاع قلباهما منذ ذلك اليوم المشهود وراء طفلتيك اليتيمتين أيتها الماكرة .
هيلانة : ( منتبهة ) .. إذا هما رجلان لا امرأتان …؟؟؟!!
الشيخ : ( بانزعاج ) … أتشكين في قدراتي أيتها العجوز .. إنهما رجلان من غير شك …
هيلانة : ( بخبث ) .. العفو يا سيدنا.. ولكنني كنت أود أن أعرف آي الناس هما .. وكيف سأعثر عليهما …؟.. فإن لك عندي فوق ما تريد أيها الشيخ أن كشفت لي الستار عنهما.
الشيخ : …أما هذا فليس لي إلى فهمه سبيل … ( منتبهاً ) … ولكنني أستطيع إرشادك إلى حيلة قد تساعدك على معرفتهما … والاجتماع بهما …
هيلانة : ( بسرور بالغ ) … أرجوك يا شيخنا العظيم … أسعفني بتلك الحيلة …
الشيخ : …. خمس دنانير …
هيلانة : ( وهي تناوله خمس دنانير ذهبية ) … خذها .. يا شيخنا الكبير … ولكن أسعفني بسرعة ..
الشيخ : … حسناً .. اقتربي قليلاً …
( تدنو العجوز من الطاولة ثم تخفت الإضاءة شيئاً فشيئاً ) .
الأمل
( قاعة الضيافة التابعة لدار تاج الدين وشقيقيه عارف وجكو فيها زمرة من الأهل والأصحاب يتسامرون ، مم وتاج الدين جالسين في ركن القسم الأمامي للقاعة )
تاج الدين : ( بتأثر بالغ ).. كلمني يا مم ..كلمني فعلك تجد راحة البال في ذلك ….
مم : ( بحيرة ظالمة ) … آه لو أن الكلام يزيح القليل عن صدري الذي التهب حين عرفت أن التي ضاع رشدي عندها هي أميرة الجزيرة … إنني أتألم يا تاج الدين ..
تاج الدين : ( مواسياً ) … وأنا الأخر مثلك لدي أفكار تؤلمني وترهق مشاعري .. ولا اهتدي إلى مخلص منها … فحدثني عن آلامك … يا مم …
مم : ( موجوعاً ) … إن الآلام تزداد في نفسي .. حين أفكر في مركزي البسيط .. الذي لا يجعلني أهلا ًلأن أتقدم إلى الأمير زين الدين لخطبة أخته ….
تاج الدين : ( بتأثر ) .. مم يا أخي العزيز … لن أمضي متنعماً بمرادي .. وأتركك وراء ظهري تتقلب في نارك .. لأن مركزي يؤهلني لخطبة ستي …
مم : ( بتأثر ) .. لا أريد أن تضحي بقلبك وسعادتك من أجلي وتظل إلى جانبي تواسيني وتقاسمني الأحزان …
( تدخل امرأة عجوز وتتكلم مع بقية الحاضرين دون أن ينتبه لها مم وتاج الدين ) .
تاج الدين : ( بجدية و لنفسه ) .. علي أن أبحث عن سبيل لإمكان وصول كلينا إلى أمنيتينا المنشودتين… ( لمم ).. ولكن كيف العثور على هذا السبيل الخفي الشائك ..؟؟؟؟؟
عارف: … هل أنت الطبيبة السائحة التي ذاع صيتها في كل الجزيرة..؟؟
الطبيبة : .. نعم .. أنا هي …
جكو : … من أين أنت يا خالة… وما هو شأنك بالتحديد …؟؟
الطبيبة : … أنا من قرية صغيرة تقع وراء ذلك الجبل وتبعد عنه قليلاً .. أما شأني .. فأنا طبيبة سائحة في أنحاء البلاد لإغاثة المرضى ومعالجة شؤونهم …
عارف : … وما هي الأمراض التي تعالجينها ؟
الطبيبة : ..الواقع أنني اشتهرت بالمهارة في معالجة الأمراض النفسية والروحية فقط … ( هنا يفاجئها تاج الدين من ركنه في المجلس ) .
تاج الدين : … ماذا تعرفين من الأمراض الروحية أيتها الطبية ..؟؟
الطبيبة : ( وهي تلتفت صوبه وتفحصه بعينها الضعيفتين كأنما تريد أن تعرف من هو هذا الإنسان الذي يسأل عن الروح وأمراضها ).. أعرف يا بني من هذه الأمراض أنواعاً كثيرة .. ( بدهاء ) .. هل تشكو – لا قدر الله – شيئاً منها ..؟؟؟
مم : (مبادراً بحذر).. ما هو أشد أنواع هذه الأمراض أيتها الخالة …؟؟
الطبيبة : (مصعوقة وهي تنظر إليهما وقد قوي شكها).. أشد أنواع هذه الأمراض يا بني.. آفة تتخذ القلوب مستقراً لها.. وتنهش بين ألواح الصدور… فلا الطبيب ولا عقاقيرهُ حينذاك ينفعان.. ولا يجدي أي شي سوى أن تضام الروح للروح وتنطفئ النار ببرد الوصال وتكون ( تتوقف العجوز عن الكلام حين تلاحظ نشيجا ًقويا ًبدأ يتعالى من صدر مم الذي لم يعد يملك دموعه واصفراراً شديداً على وجه تاج الدين الذي أطرق ذاهلاً ).. لابد أنكما تعانيان مجهوداً أو ألماً من هذا النوع يا ولداي .. ( وهي تدنو منهما ).. ولكن لا ضير عليكما.. لأن دوائكما عندي … ( متوجهة نحو بقية الحضور ) … لا بد لي من تشخيص هذين الشابين … ولابد أن يكون ذلك على خلوة معهم، فهل أستطيع أن التمس منكم الموافقة على ذلك..؟؟ ( يخرج البقية وتبقى الطبيبة مع مم وتاج الدين وأخذت تسرح بالنظر فيها مبتسمة ) ليطب خاطركما يا ولدي … فأنا لست إلا رسوله من أميرتي بوطان.. وها هو ذا خاتم كل منكما…!! (مم يهوي كطفل صغير على أحضان العجوز يقبل أذيالها ويتشبث بأطرفها بينما تاج الدين فترة من الوقت مصعوقاً ويحملق في العجوز دون أن ينطق ) .
هيلانة : ( باكية وهي تأخذ بيمين كل منهما ).. لا داعي هذا الهم والغم يا ولدي … فحق الإله المعبود لن أدعكما ما حالفني التوفيق حتى ابلغ بكل منكما إلى مراده … ولن يطيب لي الموت إلا بعد أن أراكم أنتم الأربعة وقد جمعكم الشمل .. ( متمالكة نفسها ) .. وما عليكما لكي استطيع الشروع في هذه المهمة .. إلا أن يخبرني اسمه ويطلعني على شأنه ومركزه في هذه الجزيرة .. كما أرجو أن تسلماني الخاتمين لأعود بهما إلى صاحبتيهما تجنبا لافتضاح الأمر …
تاج الدين : ( بسرور بالغ ).. خذي يا خالة إنه خاتم ستي .. وأنا تاج الدين ابن الوزير الأول للديوان …
مم : ( بابتسامة حزينة ) … أنا مم يا خالة .. سكرتيرٌ للديوان .. أما عن خاتم زين … فصدقيني إنه اليوم بقية روحي التي تخفق بين جنبي … فلا يا سيدتي ..لا.. وإنني أتشفع إليك بناري .. وأتوسل إليك باسم زين .. أن تتركي فيَّ هذه البقية من الرمق .. وتتركي الخاتم في يدي .. ( وهو يتنهد ) آماه .. دعيني أبثك رسالة نفسي إلى ربة هذا القلب .. قولي لها أنه مسكينٌ من الناس .. ولا يبلغ أن يكون كفؤا ًلذوي الإمرة والسلطان .. غير أن سهام الحب طائشة ( يصمت وكأنه غير قادر على التكلم أكثر ) …..
هيلانة : (بتأثر بالغ) ..حسناً يا بني … فليبقى الخاتم معك .. وإنني أعدكم بأن غيابي عنكما لن يطول .. سـأعود قريباً بالجواب … ( تخرج مسرعة، فينهض تاج الدين ويتجه صوب مم محتضناً إياه ).
نيسان
( مقصورة خاصة بالأميرة ستي )
زين : ( وهي تنظر من النافذة إلى حديقة القصر و بضجر ) .. ألا تعلم هذه العجوز … بأننا ننتظرها على أحر من الجمر ..؟؟؟!!
ستي : ( ضاحكة )… تصوري يا زين…!! بأنك قلت هذه الجملة أكثر من عشر مرات …!! تحلي بالصبر قليلا ً يا أختاه … فلا بد أن شيئا ًما قد سبب في تأخيرها …
زين : ( بضجر وهي تلقي بنفسها على سرير ستي ).. وألا تعلم هذه العجوز أيضاً .. بأننا نترقب عودتها بين كل ساعة وأخرى …؟؟!!
ستي : ( مستدركة ).. أميرتي زين .. هل تظنين بأنها ستأتيننا بالخبر اليقين عن حقيقة تلك الجاريتين…؟
زين : (بتأفف)… وكيف لي أن أعلم .. فلقد ذهبت العجوز ولم تعد ..!!.. إنني قلقة يا ستي.. ( يدق باب المقصورة ) …أدخل…
هيلانة : ( وهي تدخل ) … لا شي أحب إلي من خدمـة أميرتي الصغيرتين…
( وما أن تدخل العجوز حتى تهب زين وستي تطوقانها وتبثانها شوقهما ثم يجلسانها بينهما )
زين: ( بارتياح ) … لقد تأخرت علينا كثيراً يا خالة ….!!
ستي : ( بنفس النبرة ).. أخبرينا يا خالة عما حصل معك من الألف … إلى الياء ..
هيلانة : ( وهي ترمقهما بابتسامة عريضة ذات مغزى ولا تزال تلهث من التعب ).. أقسم لكما يا أميرتي .. بأنني آتية من عندهما الآن .. وبأن قلبي لا يزال يخفق رحمة لحالهما … واه كبدي عليهما يا ابنتي … فكلما سمعا باسم ستي وزين التهب فيهما الدم ناراً ….!!!
ستي : ( باستغراب ) … ماذا تقولين … يا خالة ؟؟؟؟!!!
زين : ( مستغربة ) … أتقصدين الجاريتين يا خالة .. أم ماذا ؟؟؟؟!!
هيلانة : ( متذكرة وبفرح ) … هما شابان يا ابنتي … خير شابين أبدعهما الله لطفاً وجمالاً وكمالاً.. وما عجبي من ذلك بمقدار عجبي أنكما كيف وفقتما بانتقائهما في ذلك الجمع الحاشد …!!!!!!… فهما والله .. سواء أكانا أميرين أم زعيمين أم بسيطين من الناس.. خير لائقين بكما …
ستي: ( بدهشة شديدة وهي تتمدد على سريرها ) ..كنت أتصور كل محتمل بشأن تلك الجاريتين سوى…. أن تكونا رجلين …!!!!
زين : ( بحيرة بالغة وهي تتجه نحو النافذة بدون وعي ) … إن احتمال تنكرهما مثلنا في ذلك اليوم…لم يتطرق إليه خيالي قط …!!
هيلانة : ( بتفاهم ) … أفيقا من الحيرة والدهشة .. يا أميرتاي الصغيرتين .. فالآلام التي كانت تحوم حول السر المخبوء الذي لم تكونا تعرفانه … أصبحت اليوم حقيقة أخرى ذات أشد خطورة.. إنه الحب .. يا صغيرتاي …!!
ستي : .. إن ما قلته لنا الآن .. قد أرهق مشاعري بإحساسات جديدة … ولسنا نرى نحن الاثنتان غيرك الطبيب لآلامنا … فهل لك أن تتحملي من أجلنا شيئاً من الجهد وتكوني لساننا الناطق في هذا السبيل ..؟؟
هيلانة : ( متهللة ) .. إنني منقادة يا أميرتي لكل ما تبتغيانه وتأمرانني به … وأي جهد ٍهذا الذي سيلحقني في سبيل إسعادكما … بل آية راحة سأشعر بها ما دمتما معذبتين كما أرى ..!!!
زين : ( مرتجفة ) .. إن كل ما نبتغيه يا خالة … هو أن تسرعي بالعودة إليهما لتنوبي عنّا في مواساتهما ومعالجة شأنهما .. وتقولي لهما : .. لتعلما أن ستي وزين قد رضيا بكما رفيقين في حياتهما، حسب الاختيار الذي دل عليه خاتم كلٍّ منّا ….
ستي : ( بتفاؤل ) … وقولي لهما : .. ولكل منكما إذا شاء أن يتقدم اليوم إلى الأمير لخطبتنا منه .. أما المكانة والشأن .. والغنى والمال والمهر .. فإننا رضينا من ذلك كله بالحب الذي خفق في قلبيهما منذ عيد الربيع ….
زين : ( متابعة وبنفس اللهجة ) … هذه هي رسالتنا يا خالة … بلغيهما عنّا إليهما على أحسن وجه .. فعسى أن يكون مقدراً لنا في النهاية سعادة الوصال …
هيلانة : ( وهي تحبس دموعها ) .. لقد كبرتما يا ابنتاي .. تعالا إلي كي أضمكما … ( ستي وزين تلقيان بنفسيهما في أحضان العجوز ) .. ستي .. خذي خاتمك يا عزيزتي .. لقد كان مع تاج الدين وهو ابن الوزير الأول للديوان .. زين يا أميرتي الصغيرة .. مم لم يرضى أن يترك الخاتم وقد حملني رسالة يقول فيها : ..قولي لها أنه مسكين من الناس..لا يبلغ أن يكون كفؤاً لذوي الإمرة والسلطان .. غير أن سهام الحب طائشة …
زين : ( بتأثر شديد ) … مم… ( تنسحب من بينهما خارجة ) .
ستي : ( لهيلانة بتلهف ) … متى ستعودين إليهما يا خالة …؟؟؟؟
هيلانة : .. في الصباح الباكر يا ابنتي .. لأن أخاك الأمير قد شعر بغيابي في الأيام الماضية وعلي أن أقابله اليوم مساءاً…وقبل أن أنسى يا أميرتي الصغيرة…حاولي ما استطعت…أن تزيحي الهمَّ عن زين ولعله ليس خافياً عليك رقتها العالية وتأثرها بالأمور بسرعة بالغة..
ستي : … لا تقلقي يا خالة … فهي أختي الصغيرة …
هيلانة : ( وهي تخرج ) … بعد إذنك يا أميرتي …
ستي : .. مع السلامة …. ( وهي تتجه نحو المخرج الذي خرجت منه زين ) .
تاج الدين
( المكان ديوان الأمير زين الدين وقد اجتمع فيه شقيقا تاج الدين وبعض الأعيان من الجزيرة وعلى رأسهم الأمير وهم يملئون القصر كله بضحكاتهم )
الأمير : ( مستدركاً ومخاطباً للحضور ).. إن حدسي يخبرني بأنكم اجتمعتم بي اليوم هنا لغرض من نوع أخر … أقصد بأنه أمرٌ لا يتعلق بأمور الإمارة .. فهل حدسي في موضعه ..؟
عارف : ( وهو ينهض من مكانه )… إنه في موضعه يا مولاي .. فهل تأذن لي بالكلام يا مولاي ..؟
الأمير : .. بالطبع … تفضل واسمعنا يا عارف …
عارف : ( باحترام زائد ) .. مولاي صاحب السلطان : .. إن لنا في عطفكم الذي امتد ظله مع امتداد سلطانكم الشامل ما يشجعنا على أن نعرض في رحابكم رجاءا ًمنكم…
الأمير:(بفضول وبثقة)…أكمل يا عارف…ما هو هذا الرجاء…؟!
عارف : ( باحترام وتودد ) .. لا ريب يا مولاي أن العزيز منّا من شرَّفته بعنايتك ولا يهمه بعد ذلك أن تحاول الدنيا إذلاله… والمهين من حرِم من عطفك ولا تغنيه بعد ذلك أي قوة يركن إليها أو سلطاناً يعتز به …
الأمير :.. بارك الله بك وبحس كلامك.. فتفضل إني لك سامع …
عارف : .. العفو يا مولاي… إن تاج الدين وإن كان له في سلالته فخر الإمارة والمجد إلا أن شيئاً من ذلك لا يقدمه إن لم يشرفه فخر النسبة إليك … ونحن نأمل من مولانا أن يتفضل عليه بفخر هذا النسب .. ملتمساً يد الأميرة ( ستي ) …
أحد الأعيان : ( وهو ينهض من مكانه ).. ولقد سعينا إلى رحابكم لعرض رجائه هذا مع عرض أملنا عليكم في قبول هذا الرجاء …؟
أحد الأعيان : ( وهو ينهض من مكانه ) … فتاج الدين يا مولاي .. اخلص خادم يستق عطفكم .. ولعله يليق أكثر من غيره بكثير … بالتشرف لمصاهرتكم ..؟ ( يجلس الثلاثة في أمكنتهم وأنظار الجميع معلقة بشفتي الأمير منتظرة جوابه)
الأمير :… الحق أنه ليس لدي ما يمنعني من الإجابة على ما تطلبون .. بل أنا سعيد ٌفيما أجمعتم على رؤيته لائقاً … فليتقدم إلينا من كان وكيلاً عن تاج الدين في هذا … واطلبوا لنا القاضي الذي إليه إبرام العقود ، فقد قررنا عقد نكاح ستي على تاج الدين منذ الآن …
( ملتفتاً إلى الحاجب بكو ) ولترسلوا في طلب تاج الدين حالاً …
جكو : ( وهو يهب من مكانه منكبا ًعلى يد الأمير يقبلها ) .. أدامك إله الخير والحق علينا…
أحد الأعيان : أدام الإله عزك وعطفك علينا يا مولاي الأمير …
الأمير :…لا شك بأن هذا الشاب قد أمضى أياماً طويلة في خدمتنا بإخلاص .. وإن من شرط الوفاء علينا أن نقدر فيه إخلاصه … ولا بورك لي في الإمارة والسلطان ، إن لم أعطه هذه الحق كاملاً غير منقوص ، وإن لم أجعل له من رحاب قصري هذا محفلاً تزدان فيه الأفراح والولائم ليالي وأياماً … ( وهو يلتفت مستدعياً رجال القصر ).. عليكم أن تبادروا منذ الآن في إعداد العدة وتهيئة الوسائل والأسباب لإقامة الأفراح ومجالس الصفو والمرح …
عارف : ( بسرور بالغ ) .. قد أغرقتنا بكرمك يا مولاي الأمير ..
الأمير : ( متوجهاً بكلامه إلى جميع الحضور ومبتسماً ) .. فلأكن واحداً منكم اليوم من أجل تاج الدين… ولتحسبوني من جملتكم في السعي إلى هذا الطلب في سبيل إرضائه… ( يدخل الحاجب بكو ).
الحاجب بكو : … أعتذر عن مقاطعتكم يا مولاي .. ولكن تاج الدين وصديقه مم قد وصلا ويطلبان الإذن بالدخول …؟
الأمير : … فليدخلا حالاً …
الحاجب بكو : ( منحنياً ) … أمر مولاي … ( بخرج بكو فيدخل تاج الدين ومم إثر خروجه مباشرة )
تاج الدين : ( وهو يدخل بسرعة مقبلاً يد الأمير ) .. أشكركم مولاي .. ولي الشرف العظيم لمصاهرتكم …
الأمير :.. بارك الله بك يا تاج الدين.. ( منتبهاً ).. ما بالك واقفٌ هناك يا مم .. انضم إلينا …
مم : .. أمرك مولاي … ( يدخل وهو يجلس بجانب عارف شقيق تاج الدين )
الأمير : ( مستدركاً وهو يجلس تاج الدين إلى جانبه ) .. إنني أعلم كما الجميع أن بينك يا تاج الدين وبين مم وداً شديداً ومحبة صادقة .. وليس ثمة أقرب من مم إليك وأكثر من يليق به منه بأن يكون حفيظك منذ الليلة حتى أخر أيام عرسك.. فتعال واجلس إلى جانبه يا مم ..
تاج الدين : .. وأنا الأخر كنت عازما ًعلى أن أطلب منه ذلك… يا مولاي الأمير …
مم : ( وهو يقوم من مكانه منحنياً باحترام)… لي الشرف في ذلك يا مولاي الأمير … (يتراجع مم ليجلس بجانب تاج الدين )
الأمير : (مستدعياً رجال القصر)… هيئوا للأفراح كل ما طاب من أنواع الشراب وادعوا إليها أصحاب الطرب والغناء… فلسنا نضمن من الحياة إلا هذه السويعات التي حولنا…ولسنا ندري ولا أحد يدري أسوف نظل في مثل هذا الحين من الغد نملك حياتنا أم سيتخطفها منّا القدر المحتوم…( أصوات الحضور تتلاشى تدريجياً مع الإضاءة).
الحب
( حديقة قصر تاج الدين، مجموعة من الراقصين يرقصون على أنغام موسيقى هادئة ، وصوت ستي كأنه قادم من بعيد ممتزجاً مع الموسيقى والرقصات )
صوت ستي : … يا عاشقاً أفقده الشوق صبره .. إنك مثلي فيما أعانيه من ألم واحتراق .. قم من مكانك الذي سئمته إلى حيث تنتظر عروسك … قم فقد آن أن تذوق بعد هذا الذي عانيت نعيم الوصال … إن ذلك النور الذي طالما ضاع وراء قلبك هو ذا أمامك اليوم .. فلتترام في أذياله .. كما تفعل الفراشة الملتاعة إذ تنثر روحها على أذيال اللهب … فلقد قدر الله لك كل ذلك في سهولة وحققه من أجلك في يسر … ها هي ذي كعبتك .. قد سعت نحوك .. وها هو مطافك قد تدانى إليك .. أيها العاشق السعيد قم لتطوف وتلتزم وتقبل وتستلم … أيها العاشق الظمآن .. قم فالكأس مترعة .. وخمرتك في الانتظار …
( يدخل تاج الدين مع مم بعد انتهاء الموسيقى وانتهاء الرقص واختفاء صوت ستي ، ويد مم في يد تاج الدين ويتجهان نحو باب المقصورة التي تفتح ومم قد اشتمل على سيف في جنبه وعند الباب يقف منحازاً ليودع تاج الدين ويشير إليه بالدخول ثم يغلق الباب ويظل واقفا ً في مكانه للحظات كأنه حاجب أمين )
مم : (بعد لحظات من وقوفه).. لقد انفض الجميع وانصرف الكل … علي أن لا أبارح مكاني .. ( مبتعداً عن الباب ) .. سأتخذ مكاناً لي في حديقة تاج الدين..( منتبهاً ).. كم أنا سعيدٌ بهذه المهمة التقليدية التي أختارها الأمير زين الدين لي… فتاج الدين صديقي.. وسأمكث لثلاثة أيام هنا كأي حاجبٍ مخلص.. إلى أن يخرج تاج الدين وأكون أول من يهنئه.. ( وهو يجلس على مقعدٍ في الحديقة ) .. إن الوحدة في وسط سكون هذا الليل.. تشعرني بشيء ثائر يلهب شوقي ويحيطني بالوحشة والغربة.. إنه حبٌ عنيف.. ( مبتسماً وهو يتكلم مع الورود ) .. أتعلون بأنني لمحت مليكة قلبي اليوم أيضاً.. لمحتها أكثر من مرة .. ورأتني عيناها وهي غارقة إلى جانب أختها في أبهى زينة وحلة … ( متذكراً وبانفعال هادئ ).. شعرها الكستنائي الناعم كالحرير … المتموج من سائر أطرافه في غزارة منساباً… ومتمايلاً من أعلاه في خصلٍٍ ملتوية فوق الجبين وعينان تنظران بسهام الفتك .. وأهداب ناعسة في سواد الليل.. تسترخي على تلك المحاجر استرخاءً يفعل في القلوب ما تفعله الخمرُ.. وقوامها المفرغ في أروع قالب من التناسق، وقد صمم في أدق تكوين ألهي..( متنهداً ومنتبهاً ) إن ملاطفة الأمير لي طوال تلك الأيام ، أزهرت آمالي .. ( بتفاؤل ) … أراهن بأن الأمير لن يمانع أبداً من أن أسعد أنا الأخر بزين .. بل من يدري .. فقد يكون الأمير قد لاحظ طرفاً من هذا الحب المتمرد في فؤادي وأدركته رقة ورحمة لحرماني في تلك الحفلات طوال سبعة أيام … ( حالما بسرورً ).. سأشيد صرحاً جميلاً كقصر تاج الدين .. وسأجعله يزدان بأبهى الأثاث وسأحيطه بجنة خضراء كهذه الحديقة .. ( بجدية ) .. لا بد أن أشرع في التفكير لتدبير كل هذا منذ الآن .. فما أضيق الوقت .. إذا تقدمت إلى الأمير بعد أيام – أتمنى أن تكون قليلة – لخطبة حبيبة قلبي زين .. وعاجلني الأمير كما عاجل تاج الدين … ( يغمض عينيه للحظات ثم ينهض من مكانه ويخرج وتبدأ الموسيقى نفسها مع صوت ستي والمسرح خالٍ .
صوت ستي : … قم.. فإن شمعتك مثلك في الانتظار.. تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك.. من نار الاصطبار.. حسبك مثلي ذوباناً واحتراقاً …كفاك مثلي دموعاً …. أيها الساعي .. لطالما أتعبت قدميك ابتغاء الوصول إلى هذا المطاف… أيها العاشق الظمآن …. قم .. فالكأس مترعة .. وخمرتك في الانتظار … ( يخرج تاج الدين بعد انتهاء كلمات ستي ويسير في الحديقة متجهاً نحو بابها الخارجي )
تاج الدين : … لا بد أن يكون الآن في داره .. الحق لقد طالت غيبتي عنه .. يا ترى كيف هو حاله مع قلبه الجريح ..؟
مم : ( وهو يركض نحو تاج الدين ) … تاج الدين .. أخي العزيز … ( وهو يعانقه )
تاج الدين : ( وهو يأخذ بكفه إلى جانب من الحديقة ).. أما زلت هنا يا مم ..
مم : ( وهو يحبس دموعه بصعوبة ).. نعم .. أردت أن أكون أول من يهنئك …
تاج الدين : ( متأثراً ) .. أقسم لك يا مم بأنني لو وجدت أي سبيل لتقديم سعادتك على سعادتي ولو ظهر أي طريق يمكنني أن افتدي بها حبي بلحظة واحدة من حبك لما توانيت عن ذلك … ولكنك تعلم بأن هذا هو السبيل الوحيد لوصول كلينا إلى آمالنا … وثق بأنني لن أستسيغ طعم السعادة التي تهنئني بها …. إلا بعد إيصالك أنت أيضاً إلى مناك …
مم : ( متأثراً ومحاولاً التظاهر بالراحة ) … أشكرك يا صاحبي .. فلكي تضمن موافقة الأمير على خطبتي لزين التمست خطبة ستي أولاً .. وأنا وحق الإله .. سعيد ٌمن أجلك …
تاج الدين : ( بتفاؤل ومواسياً ).. إذا عليك أن لا تقلق .. وحاول أن تصبر قليلاً على أوجاعك .. لأنني سأمهد لك الطريق إلى ذلك بأسرع وقت ممكن… ( منتبهاً ) ولا تعلم مدى فرحتي لأنك انتظرتني طوال ثلاثة أيام هنا …
مم :.. أردت أن أكون أول من يهنئك كما قلت لك… ( منتبهاً ) بلغ سلامي إلى الأميرة ستي .. فأنا عائد إلى داري … ( يعانقه من جديد ثم يخرج مسرعاً ) .
تاج الدين : … مع السلامة يا مم … ( يعود أدراجه إلى قصره ).
بكو
( الأمير زين الدين يقرأ كتابا ًفي حديقة قصره وعلى مقربة منه الحاجب بكو وهو منهمكٌ بتقليم بعض الأغصان اليابسة لأشجار الحديقة )
الأمير : ( لبكو ) … أجاء تاج الدين إلى القصر البارحة أم لا..؟
بكو : ( بخبث ) … لا يا مولاي .. إن تاج الدين لم يمر بالقصر منذ خمسة أيام ..( يسكت هنيهة ثم يتابع ) .. كأني أرى يا مولاي بأن تاج الدين لم يعد يفرغ للتردد إلى القصر كسابق عهده ..!!
الأمير : ( ودون أن يلتفت إليه ولكن بفضول واضح ) .. وما الذي أصبح يشغله عنّا …؟؟؟!!
بكو : ( بخبث ) .. لا أدري يا مولاي .. قد يكون مجرد أنه لم يعد يجد داعياً لأن يتردد كثيراً ….
الأمير : ( منتبهاً ودون أن يرد ) …..
بكو : ( منتهزاً الفرصة ومقترباً من الأمير ) … الواقع يا مولاي .. أنه لم يكن أحد من الناس ليصدق بأن الأميرة ستي يمكن أن تقدم رخيصة بهذا الشكل لتاج الدين… في حين أن جميع أمراء كردستان كانوا يتمنون هذا الشرف لقاء كل ما تمتد إليه أيديهم من مجد ومال …….
الأمير : ( بتقزز )… ومن يكون هؤلاء الذين يحسبون ويظنون…؟ بل من يكون أولئك الأمراء والسلاطين أمام كل من تاج الدين وشقيقيه…؟ إن كل واحد من هؤلاء الأبطال يساوي عندنا في يوم واحد من أيام الحرب جميع ذلك الركام من الأموال والسلاطين …
بكو : ( باستياء ومغيراً لمجرى حديثه ومتشاغلاً بما بين يديه ) .. لا شك أنه يجمل بالسادة أن يشجعوا غلمانهم على المزيد من الاستقامة عن طريق إكرامهم وإشراكهم في مجالس صفوهم وأنسهم .. ولكن بشرط أن تضل انحناآتهم للأوامر في ساعات الصفو موجودة عند الشدائد أيضاً ..( بخبث ) .. غير أنني أخشى يا مولاي أن يكون بعض هذا التفضل في غير موضعه .. فتكون نتيجته الطغيان .. إن البخيل يا مولاي لا تليق به النعمة .. والحقير لا يلائمه …
الأمير : (مقاطعاً بكو بحدة شديدة ) ..صه أيها القذر .. فما الحقير غيرك .. إنني أعلم من هو تاج الدين في حبه وإخلاصه وأعلم ما يجب عليّ فعله … فلا تتمادى فيما ليس من شأنك …
بكو : ( متصاغراً حول نفسه ومتمتماً ).. لقد كنت أظن فيه هذا الإخلاص أيضاً.. لولا أني اطلعت على أمرٍ لعل مولاي لم يطلع عليه ..
الأمير : ( باشمئزاز ) .. وما هو هذا الذي اطلعت عليه ..؟؟!
بكو : ( منتصراً وبخبث ) .. لقد أصبح يا مولاي يستقل بالتصرف في كثير من شؤون القصر الخاصة منذ أوليتموه شرف هذا القرب .. ولقد كان أول ما أذهلني من تصرفاته ، هو أنه راح يقدم الأميرة زين إلى صديقه مم ويعده بالزواج منها …
الأمير : ( ذاهلا ًوهو يهب من مكانه ويدير عينيه فيما حوله من الفضاء ) ..ماذا .. ؟؟!! تاج الدين يتصرف في مثل هذا الشأن دون أن أعلم ..؟!!.. ويقوم بتزويج شقيقتي لمن يريد .. دون أن يستشيرني على الأقل ..؟؟.. يبدو أنني قد أسرفت في العطف عليه حتى لم تبق في نفسه أية رهبة مني …!!
بكو : ( منتصراً وبلؤم ).. لقد كان تاج الدين معتزاً بنفسه مغروراً برأسه يا مولاي .. فكيف وقد نُفخ غروره اليوم … وإن أشدّ ما أخشاه يا مولاي .. أن يكون هذا الرجل يهدف إلى غرس نفوذه ونفوذ ذويه في رحاب هذا القصر عن طريق المصاهرة .. ليعلن بعد ذلك الإمارة لنفسه ويسلسلها من لدن آبائه وأجداده ..!!
الأمير : ( بانزعاج وهو يجلس في مكانه ) .. لقد كنت والله عازماً على أن أجعل زيناً من نصيب مم وأن أقيم أفراحهما في القريب جداً ..
بكو : ( ظافراً وبخبث ) .. أنا أعتذر يامولاي لأنني سببت لك هذا الكدر.. ولكنني لن أخون إخلاصي للأمير حتى لو أطاحوا برأسي..
الأمير : ( بجدية ).. أقسم بفخر أجدادي فوق هذه الأرض ألا أدع زين تكون من نصيب مم … ولو جرت في سبيل ذلك سيولٌ من الدماء …
بكو : ( بخبث منتبهاً ).. ولا يخفى على مولاي الأمير بأن الوساطة والنفوذ سيستعملان من أجل عكس ذلك.. أليس كذلك يا مولاي..؟
الأمير : ( بثقة ) .. فليتقدم إلي من شاء .. فإنه لا بد أنه قد ضجر في حمل رأسه ليتوسط أو يستعمل نفوذه ..
بكو : ( بخبث ) .. لابد أن مولاي يشعر برغبة في بعض الشراب.. فهل يأذن لي مولاي الأمير في إحضار شيءٍ منه …
الأمير : ( باستياء منتبهاً ) … أغرب عن وجهي .. أيها السفيه.. فلقد أصلبت حاجزاً بني وبين من يريدون تزويج زين لصديق تاج الدين ..
بكو : ( بخوف ) .. أمر مولاي .. ( وهو يخرج مسرعاً )
الأمير : ( لنفسه ).. فليتأكد الجميع أنه قد يمكن أن تظل زين طوال حياتها عزبة في القصر ولكن لا يمكن أن أبداً أن أجعلها يوماً من نصيب مم ودون أن يعرفوا سبب ذلك .. إنها إرادتي فقط.. وأقسم بأنه لو سمعت حديثاً من هذا النوع .. فهم لا محال يثيرون شراً هم في غنى عنه …. ( يلتقط الكتاب ثم يخرج من الحديقة ) .
آه…يا زين
( مقصورة زين في قصر الأمير زين الدين وزين جالسة إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحاء المقصورة، تتأمل احتراقها )
زين : ( وهي تثبت نظرها في الشمعة ) .. أيتها الأخت القريبة
مني … والمحترقة بمثل ناري.. احمدي الأقدار على ما بين آلامي وآلامك من فرق ، فناركِ تعلو ظاهراً منك فقط وناري يتأججُ لهيبها من أعماق قلبي وباطني .. ناركِ إنما تمسُّ منك خيط هذا اللسان ثم لا تتجاوزه وناري تسري في جميع مسالك روحي … ثم أين أنت من أجيج ناري .. إذ ترقدين منذ لمعةِ الفجر إلى المساء زفراتٍ كاوية …. لا يكاد شيءٌ من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل أو نهار فليس من فم يطفئه أو نسمة تخمده …
( تحبس الدموع بصعوبة بالغة ثم تنهض وتتجه نحو سريرها متكئة عليه للحظات إلى وقت دخول مجموعة من فتيات القصر إلى المقصورة )
فتاة ( 1 ) : ( باحترام ) .. نعتذر عن مقاطعة خلوتك يا أميرتي… ولكنك.. أقصد… مضى أربعون يوماً على عرس الأميرة ستي ومنذ ذلك وأنت تقاسين آلاماً .. ولا تكشفين إلى أحد منّا سر ذلك …
فتاة ( 2 ) : ( بود وأسى ) .. كم لك يا أميرتي تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم ..؟فإلى متى ستعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم ..؟؟!!
فتاة ( 3 ) : ( مواسية ) .. إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها .. فبأي سببٍ تتقلب هي هناك في سعادتها .. وأنت هنا تجلسين بين الدموع والأحزان ؟
فتاة ( 1 ) : ( وهي تنتظر منها جواباً وبنفاذ الصبر ) .. قومي .. فاقتلعي من قلبك هذه الهموم وأزيحي عن مفاتنك هذه الأحزان .. فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب .. فمزقي عن الورد حجاب هذا الانقباض …
فتاة ( 2 ) : ( بنفس النبرة ) .. هذه الدنيا وزينتها .. هذه الطبيعة وبهجتها .. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك بثغر ملؤه البهجة والسعادة .. فلا تدعي كل ذلك يفوتك ….
فتاة ( 3 ) : ( باكية ) .. الحياة جميلة يا مولاتي وأنت أجمل منها والدنيا من حولك مشرقة وإشراقك أتم منها.. فانهضي… وافرحي.. وابتسمي .. ليتم في الحياة جمال ويتكامل للدنيا الإشراق
(تتوقف عن الكلام حين اختلط صوتها وبكائها مع بكاء زين ) .. مولاتي .. أنا لم أقصد ..
( تنهض الفتيات في ندمٍ شديد مما أقدمن عليه ثم تتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى في هدوء وقد ارتسمت على ملامحهن مظاهر الدهشة والانكسار فرفعت زين نظرها فيما أخذ يحيط بها من رهبة الوحشة والإنفراد وراحت تتأمل من حولها أشباحا ًفأخذت تحدثها قائلة :
زين : .. مرحباً بكم أيها الأصدقاء .. أصدقاء النفوس البائسة .. الشركاء في سرِّ ما وراء الجوانح المعذبة .. تعالوا فليس أحد أوفى لقلبي منكم … تعالوا إلي وأقيموا من حولي فما أحوجني إليكم في أيامي السود .. وما أشدّ شوقي إلى أشباحٍ في ليالي الظلماء …
( وقد لاح خيال ستي وكأنها جالسة إليها تتواسيان كما كانتا سابقاً فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم وتمضي إليه لتعانقه ).. أختاه .. ستي يا روح زين .. يا جليسة أفراحي وهمي .. لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة ثم فرق بيننا في الحظ والسعادة .. ؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين .. وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين .. فليبتسم لك الدهر … فإن في ابتسامته عزاءً لهمي ولتسعدك الحياة , ففي إسعادها لك تهوينٌ لشقائي ..
( تختفي الأشباح فجأة فتنهار زين على كرسيٍ قريب منها وبعد لحظات تلمح فراشات تطوف حول الشموع الموزعة في المقصورة فتنظر إليها بعينين تزيغان بالدمع )
… أيها الهاربون من عش الفراق .. والباذلون روحكم في شجاعة وشوق.. قولوا لي.. ألا يدرككم الملل من هذا الدوران.. ألا تشعرون بالتعب من هذا السعي الدائب المرتعش حول هذا المطاف ….؟ ( منتبهة ) .. أربعون يوماً … وأنا ومم منطويان على آلامنا دون أن يدرك أحد بها .. ونبكي على حظنا التعيس … ( منهارة من جديد ) مشتاقة إلى رؤيته .. إلى لمحة أرى فيها مم لثوانٍ …
( تنهض بصعوبة بالغة وتتجه نحو السرير وهي ما زالت تتمتم باسم مم …. )
آه…يا مم
( مم متكئ على جزع شجرة من الأشجار المطلة على نهر دجلة )
مم : (بيأس ).. أين أنت يا تاج الدين.. فلقد غاب عن قلبي الأمل .. ولم يبق إلا خيالُ زين يشعُ في ذهني من خلف ضباب اليأس القاتل …؟؟؟ ( وهو يسعل ) فلا مكانَ يقر إلي إلا دجلة .. ولا أكاد أستأنس بأي إنسان .. ( متنهداً ) آه يا أميرَ الجزيرة لو كنت تعلم بحالي .. ولو كنت أعلم سبب رفضك .. (متوجهاً بحديثه إلى النهر و بحيرة ).. يا دجلة.. يا أيها المتدفقُ كدمعي والهائجُ مثل نار شوقي ….. ما لي لا أراك في ساعةٍ من ليل أو نهار إلا هائجاً لا يقر لك قرار .. ولا يهدأ لك بال …؟! أم يبدو أنك تعاني مثلي ويلات العشق وجنونه .. وينطوي سركَ على حبيبٍ أفقدك القرار …؟
فمن يكون معشوقك غير هذه الجزيرة الخضراء التي تظل دائراً من حولها … ففيم الهياج إذا ..؟! وهي نائمة بين ذراعيك … ( وقد عاوده السعال من جديد ) كل هذا .. ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها ..؟!!.. قل لي ما الذي تبغيه بعد كل ما أنت فيه … وأي أمل ضاع منك حتى تظل هائجا ًحول نفسك من أجله …؟ ( يهدأ للحظات ملتفتاً إلى الرياح التي تهب من حوله ).. أيها النسيم الساري في رقة الروح والمفتوح أمامه بابُ كل عزيزٍ وممنوع … هل لك أن تلتفت إلى رجاءٍ يعرضهُ عليك هذا المقيد المحبوس …؟ ( متمالكاً نفسه ) .. فامضي في اتجاه المشرق .. وحين تصل قف بالأعتاب أولا ً لتقبيلها ثم أدنو من مليك ذلك الجمال.. ولكن بتواضع ولطف .. لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق.. ثم تراجع إلى الوراء.. واعرض عليه رسالة الروح المستعرة … قل له : .. إنها من مم .. فإذا ما رأيت رقة ً بدت على ملامحه … فقل له بأدب .. إنه مسكينٌ يا مولاي .. ( باكيا ) .. مسكينٌ عاش فترة في حلمٍ قصير من عطفك يا مولاي الأمير .. ثم سرعان ما تبدد الحلم وضاع العطف .. وغدا يتخبط في البؤس والشقاء… وإنه ليس يدري والله أي ذنب ارتكبه .. اللهم إلا قلباً يخفق بين ضلوعه .. ( منتبهاً وهو يلتقط حفنة من التراب ) … ولا تنسى أن تعود إلي بغبار من تراب ذلك المكان .. ولو بقليل منه .. فإن في ذراته رائحتها فقد تكون بلسماً لدائي …
( ينهض من موضعه وهو يسعل ويقترب من حافة النهر و نَفَسهُ المتقطع يكاد يكوي صفحة النهر وبتوجع شديد ) .. أيها الخائن .. أيها الغدار … قل لي ألا تذكر …؟؟!!
بأنك يا قلب كنت صادقاً معي في كل أمر … ومرتبط بي في كل آن ووقت …؟؟!!
آه … يا قلب كيف أكلمك وعم أحدثك وماذا أقول ..؟؟!.. وأنت الآن مدبرٌ عني ولاهي عن حديثي ورجائي .. وكأنك لا تعرفني … ( مستسلماً للدموع والتعب ) … هل أبكي حتى تتقرح عيناي ..؟؟.. وأتوجع حتى تنطفئ جذوة حياتي .. وأستسلم للحمى .. في مكان ما على شواطئ دجلة ..؟؟ أم أظل وحيداً .. إلا من بعض المخلصين … الذين .. أرهقتهم مواساتي …؟؟..
( منتبهاً ) … لا بدّ أن أترك داري في المدينة …كي أحاول أن لا يعلم أحد ٌمن الناس سريرة قلبي … فربما بلّغوا الأمير .. فيزيد ذلك من قسوته … أو حتى يذهبَ بخيالهِ إلى أبعد من الواقع بكثير …. ( يقاطع تفكيره وخلوته صوت قادمٌ من بعيد )
الصوت : .. يا أهل الجزيرة .. لقد عزم الأمير على الخروج إلى الصيد غداً .. فعلى كل صاحب قوس ونبل أن يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها بنفسه .. يا أهل جزيرة بوطان … لقد عزم الأمير على الخروج إلى الصــ……
مم : (منصتاً باهتمام ) …. إنه منادي الأمير .. الأمير ….
( ينكب على نفسه متقلصاً ) .. إلى اللقاء يا دجلة .. فأنا عائد إلى داري الموحش .. ولا تظن بأنني قد مللت من صحبتك … فأنت مستمعٌ جيد وكاتمٌ للسرِّ في آنٍ واحد .. وكلنا لا نمل من رؤيتك ..
( ينهض بصعوبة وقد عاودته نوبة السعال من جديد فيخرج بخطى بطيئة ويده اليمنى على صدره واليسرى تغطي فمه ) .
الشوق
( قاعة الجلوس في حديقة قصر الأمير زين الدين )
زين : ( وهي تدخل إلى القاعة بتحامل وإعياء ظاهر وتجلس على مقعدٍ فيها ).. إن الحديقة خالية وهادئة.. فعسى أن أجد بين نسماتها برداً من الراحة والانتعاش… ( وقد لمحت طيوراً ترفرف بين أغصان الأشجار ).. أيتها الأطيار السعيدة… كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين أسود الحظ منكوب الطالع وقد غاب عنه منذ دهر .. وقد حلق في الجو منطلقاً ولم يعد .. أفليس بينكم من يدري في أي روض استوطن ..؟؟ وهل فيكم من يحدثني عنه …؟ أهو حي لا يزال يخفق بجناحيه… أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه …؟؟!! ( وهي تحبس دموعها بصعوبة وتنقل بصرها بين شجيرات الورد فتلمح وردة صفراء ) ( بتأثر وعطف ) أيتها الوردة الصفراء .. إن اصفرارك أحزنني .. فحدثيني .. هل هو لون بؤسك أنت أيضاً أيتها المسكينة ..؟ أم التوجع والرحمة لأمثالي من البائسات …؟ أم هي البلابل ..؟؟! قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء .. فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين …؟؟ آه .. إنها قصتي ذاتها والله أيتها المسكينة …!! إن لي أختاً من أمثال تلك الورود الحمراء .. قد أسعدها الدهر بلبلها الشادي .. ( تتوقف عن الكلام حين يلوح لعينيها شبح مم عل البعد قادماً من بين الأغصان فما أن أخذت تحدق النظر ) .. أهو خيال من خيالات أوهامي .. أم معجزة حققها الله لي .. بل إنه .. مم .. مم .. ( يغمى عليها وهي في مكانها أم مم فأخذ يسير بين الأغصان غير منتبه إلى وجود أحد وقد تعلقت عيناه بلبل يغرد على غصن شجرة بعيدة من القاعة )
مم : ( متأملاً ) .. ما بك يا صاحبي لا تتوقف عن التغريد اليوم..؟ أتشعر مثلي برغبة ملحة في الحركة دون أن تعلم سبب هذا الباعث المفاجئ في نفسك ..؟؟! لا بد أن السر يكمن في هذه الحديقة .. ولا أخفي عليك .. فقد نظرت من خلال سوارها .. وقد أحببت هدوءها الكامل .. ولا أعلم لمن تكون .. أو من صاحبها ..؟؟ ( متجهاً نحو قاعة الجلوس في الحديقة).. وقد لا تصدقني لو أخبرتك بأن شوقاً غريباً دفعني إلى هذه الحديقة .. ( مصعوقاً ) .. يا ألهي .. زين .. إنها زين ………
( ينهار على الأرض وعلى مقربة من زين التي أفاقت على صوت ارتطامه بالأرض )
زين : ( مصعوقة ) .. جدول ماء .. وورود .. ومم .. إنه حلم .. ( وهي تتأمل هيئة مم متذكرة بذهول )… بل إنه حقيقة .. فربما أدركت الأقدار رحمة لكلينا .. في يومٍ انصرف الناس فيه كلهم إلى الصيد واللهو … فقررت أن ترأف بنا في ظل هذا الهدوء …
( متمالكة لنفسها وهي تدنو منه وترفع رأسه بيمناها في رفق ممددة ركبتها من تحته وهي تحاول إيقاظه بسرور بالغ ) .. مم .. مم .. أنا زين .. مم ..
مم : ( وقد عاد إلى وعيه رافعا ًرأسه وهو يمعن في وجه زين ) .. ألست أنت زين ..؟؟!!.. ألست أنت قلبي ..؟؟!!.. قلبي الذي فقدته..؟؟.. أم تراني في حلم .. أم أنا في حياة أخرى معك ..؟؟!!
زين : ( وقد غرقت عيناها بالدموع ممسكة بيده ).. بل أنا زين .. يا قلبي المسكين .. ونحن في حديقة القصر … يا مم ..
مم : ( وهو يتأمل وجهها للحظات بنشوة حالمة ) .. أنت جميلة جداً يا زين …
زين : ( بشيء من الحياء )..أنت كل جمالي يامم.. ولكن لا تبحث عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك في عيد الربيع.. فقد فقدته مذ فقدتك…!!
مم : ( وهو يدنو منها بلهفة ) .. لا يا زين .. إنك اليوم أجمل .. وها أنا ألمح سطوراً جديدة من آيات الجمال … فعيناك .. فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة والسحر .. وثغرك .. إن خمره اليوم تبد أشدّ اسكار