الفقر والفساد وأشياء أخرى

الدكتور شمدين شمدين

لي صديق رسام كاريكاتير موهوب جدا ، وقصة هذا الصديق انه كان قبل ما يقارب السنتين يائساً من هذه الحياة، وكان يتحسر ليلا نهارا على عمره الذي يجري دون أن ينال نصيبه من المكانة اللائقة به كفنان موهوب ،وخاصة انه لم يتلقى ردودا حسنة من المجلات والجرائد التي دأب على مراسلتها عن طريق البريد والفاكس، فكان يضيع وقته ويضيع القليل الذي يملكه من المال ، لكن حال صديقي تغيرت والسبب في هذا التغيير هو الانترنيت، فقد اشترى جهاز كمبيوتر رخيص وبدأ بمراسلة المواقع الالكترونية وتمكن أخيرا من أن ينشر نتاجه فكان أن برز وخلال سنتين فقط كاسم جديد ونشيط وموهوب في مجال الكاركتير ونال العديد من الجوائز التي يستحقها بجدارة

 والعبرة التي تعلمتها من هذه القصة إن صديقي هذا ما كان قادرا على نشر موهبته ،لو لم تتوفر لديه الإمكانية المادية لشراء جهاز كمبيوتر والاشتراك في خدمة الانترنيت وبالتالي لكانت موهبته قد ماتت مثلها مثل اغلب المواهب الموجودة في بلادنا ، فالفقر يجلب معه التخلف والجهل ويؤدي إلى تدني مستوى الوعي والمستوى الثقافي، فتنتشر ثقافة الفساد والمحسوبية والرشاوى وانعدام الأخلاق وتقل فرص التعليم والتحصيل العلمي، ويصبح الفقير بعيدا عن التيار الحضاري ويتقوقع على ذاته فيدخل في دوامة التفكير ويتولد داخله شعور بالنقص وكراهية المجتمع ورفضه، وأمام انعدام القدرة على التغيير يلجا إلى الانتحار أو الانتقام من الأقربين، و الفقر يجعل المرء فاقدا لقدرة التمييز والتفكير السليم والإرادة الحرة حيث أن إرادته وطموحاته تنحصر في تأمين لقمة عيشه وعيش عياله، وعلينا أن لا نكون منظرين فنقول إن الكرامة فوق كل شيء، لان الكرامة لا تنقذ طفلا يصرخ في الليل والنهار من الجوع والألم والمرض ،والكرامة لا تصنع من شاعر موهوب اسماً لامعا حيث إن اغلب دور النشر والصحف المشهورة تتبع سياسة الأقربون أولى با لمعروف ، مثلما يحصل لدينا في مجالات السياسة والسلطة والنفوذ ،وهذا ما وضحته مواثيق الأمم المتحدة وتقارير التنمية البشرية حيث ربطت الفقر والمرض والجهل المتفشي بكثرة في المنطقة الشرق أوسطية ولا سيما العربية منها ،ربطتها بفساد الحكم وفقدان العدالة الاجتماعية والتوزيع الغير العادل للثروات ،والحروب التي تجري بمعظمها على أراضي الدول الفقيرة والمبتلية بالفساد وان إفريقيا بحروبها الكثيرة وأمراضها الرهيبة لخير مثال على ذلك يقول نيلسون مانديلا إن (الفقر هو الوجه الحديث للعبودية) وهذا المقولة هي الحقيقة بعينها كما وضحنا سابقا حيث إن  العبد مهان في كل شيء ولا يملك أية فرص للحياة الكريمة والحرة إلا إذا اعتقه سيده وأخلا سبيله.
في منطقتنا تنتشر مقولة القناعة كنز لا يفنى، والمكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين ، وان الرزق على الله يعطيه من يشاء ويحجبه عن من يشاء ،يقول تعالى (إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) وهذا صحيح فالرزق جميعه من عند الله ، ولكن سوء توزيعه من عند البشر وهنا يتبادر إلى ذهني قصة طريفة للشاعر الكردي الكبير جكرخوين ، حيث كان في سهرة فوضع احدهم أمامه سلة تفاح وطلب إليه توزيعها على الحاضرين ، فسأل جكرخوين الساهرين هل أوزع التفاح حسب العدالة الإلهية أم حسب عدالتي ، فقالوا جميعا حسب عدالة الله فأعطى لأحدهم تفاحة واحدة ، وللأخر ثلاث ، ولأخر خمس تفاحات ، ولم يعطى لبعضهم أية تفاحة فغضب البعض ، ورد جكرخوين بمزاحه المعهود هكذا يهب الله الرزق لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء ،لكن الواضح من هذه القصة ليست توزيع الثروة وإنما العدالة في توزيعها فجكرخوين أراد أن يشبه نفسه بالحكام الفاسدين والمسؤولين الفاسدين وما أكثرهم في منطقتنا ، هؤلاء الذين يسرقون كل شيء حتى أحرف الكتابة ثم يقنعون الفقراء إن الرزق على الله ،وان الزكاة والصدقات تطهر أموالهم المسروقة والمنهوبة من الأوطان والأفواه الجائعة ، ربما تكون الزكاة والصدقات حلا إسلاميا لمشكلة الفقر لكنها حتما تحتاج إلى نفوس طاهرة وشريفة ،وحين تكون النفوس طاهرة وشريفة لا حاجة لمن يزكي ولمن يتقبل الزكاة لأنه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) وهذا صعب جدا إن لم نقل مستحيل في ظل فلسفة الربح والركض خلف المال ومحاولة تجميعه بأية طريقة كانت ،سأل إعرابي أحد الخلفاء عن فقره وضعف حاله ، فرد الخليفة :ولماذا تحاسبونني إذا قدرت عليكم رزقكم ،أولم تسمعوا قول الله (إنا كل شيء أنزلناه بقدر)، وكان جواب الأعرابي:يا أمير المؤمنين نحن لا نحاسبك على ما في خزائن الله ولكن نحاسبك على ما أنزله الله علينا وادخرته في خزائنك أنت ). يقول الإمام علي كرم الله وجهه ( لو كان الفقر رجلا لقتلته) لكان الفقر ليس برجل بل هو غول مسلط على رقاب التعساء ،وهو أبشع أشكال التهميش وفقدان الحقوق والمعيشة الكريمة والضمان الاجتماعي والصحي ، تقول المادة/25/من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( لكل شخص الحق في مستوى معيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته ، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الصحية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته )ويبدو واضحاً إن هذه المعايير لا تنطبق على معظمنا في هذه البلاد ، فالرفاهية مفقودة أصلا وان وجدت عند البعض فهي من الفساد والسرقة ونهب المال العام ، أما التغذية فهي متوفرة بحدودها الدنيا، والملبس من البالة الأجنبية ،والمسكن بيوت الطين التي لا تحتاج إلى دوش للاستحمام فهي دوش عصري في الشتاء ،تتجمع في زواياها العناكب العجوزة لتسرد ليلا قصص الفقر والجوع والعذاب، أما التامين الاجتماعي والصحي فغير موجود أصلا وهي بدعة غربية مكروهة .
 إذا يتساءل البعض وكيف تعيشون؟ فيرد شاعرنا العظيم نعيش كرجال الخشب التي يخوف بها المزارع الطيور حتى لا تلتقط حبوب أرضه، ونحن رجال خشب ميتون لتخويف الأعداء ولحراسة رزق المزارع الكبير ، نحن الفقراء ليس لأننا لا نملك ما يملكه الآخرون ، بل لأننا أصبحنا على قناعة تامة بأننا لا نملك القدرة على التملك ولا نملك القدرة على الاعتراض والرفض ،فنحن رجال ونساء اعتدنا على التهميش لأننا ننتمي إلى طبقة الفقراء، وسقطنا حين هوى المشروع اللاطبقي أمام سطوة وجبروت المال ، فبتنا ننتظر الصدقات والتبرعات والمعونات في أوطان تذخر بالخير والعطاء، وباتت أزقتنا الفقيرة ملهى للأثرياء وتجار العبيد والنساء ،وانتشرت فيه الأمراض والعنف والقتل وفقدان الأمان ، وباتت كل أحلامنا كوابيس وكل أيامنا الم وتشرد وضياع .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…