ستبقى عامودا حريقاً في حضن الأزل

حسين أحمد :

ربما هي عامودة المدينة الوحيدة التي أنهكتها الحرائق والمتاهات خاصة منذ الطوش والحريق الفرنسي وحرائق آذار، ومرورا بالقصائد والمواويل وليس انتهاء عند الحدث الكبير، والذي وحد كل هذه الحرائق  على صدرها وهو حريق سينما شهرزاد .
من يتتبع  قصائد ( الجزيري ، والخاني ، و جكرخوين, وأحمد الحسيني) : يلاحظ مدى اكتوائهم بنيران الحب , والبعد , والفقد , والفراق , والألم ، لكن عامودا المحترقة من كبدها هي اكبر مما تداوله هؤلاء الشعراء والكتاب والفنانون الكرد عبر قصائدهم ونتاجاتهم الثقافية عن عامودا المثقلة بالأوجاع والكدرات ربما الزمن الآتي وهيهات أن تستطيع مداواة وتضميد جرحا واحدا من جروحها النازفة , أو ربما حتى تهدئة ذاكرة شرمولى لحظة واحدة من قلقها لمشاهدتها كل هذه الأحزان والأوجاع التي لا تزال حتى الآن وهي تتحمل تلك الكدمات التاريخية الموجعة التي عاشتها المدينة كما لم تعشها مدينة أخرى في أي من أصقاع العالم أو ربما ما تحملتها هذه المدينة على كاهلها من عذابات السنين من الصعب أن يحمله جبل كجبل الجودي وهي تمضي من حريق إلى حريق من مأساة  إلى مأساة من متاهة إلى متاهة .

في مشهد من مشاهد شرمولى وهي كالعنقاء تنهض من رمادها لتبوح للآخر رواية من روايات الأمهات المفجعات وهن يستلمن فلذات أكبادهن من المحرقة ولدفعات متتابعة : أفحام, قطع من الأيدي والأرجل, جثامين مشوية, أشلاء متناثرة , عيون مفقعة, أنامل تطايرت منها الأظافر معبأة في أكياس وسلال القصب .
في كل هذه المشاهد تستطيع أن تتاملها في وقفة سريعة وأنت في حضرة شرمولى الجاثمة في الركن الجنوبي للمدينة منذ الأزل , ربما أحزانها أعمق واكبر من حزن سيدنا ادم عليه السلام في مقتل ولده هابيل أو كما أهل كربلاء في حدادهم على الحسين سلام الله عليه .
شرمولى سليلة الناروالغبار والقصائد : يا أم المقابر ماذا بإمكانك أن تقولي للآخر الغريب عن تاريخ عامودا أوعن الداخل إليها والقادم من فيافي الدنيا عن قصص حرائقها التي حصلت عبر التاريخ. تتكلمين عن شعرائها أو عن فنانيها أو عن أدبائها .
أو ماذا ستروي عامودا لك عن رحلة شبابها حول أصقاع العالم بحثا عن ملاذ آمن أو لحظة سكينة أو أنشودة أوعن قصيدة تطفئ لظى نارك المشتعلة أو حتى ترنيمة تواسيك من أوجاعك . أوربما تتناجيان سوياً عن شراسة فرنسا وهي تلقي بوابل من الحمم على بيوتها الطينية وأناسها الأبرياء خاصة في الأحياء الشمالية.  
هدأت الغارات عن عامودا واوركيش وشرمولى … توقفت الطيران نهائيا عن التحليق في سماء البلدة لتدق نواقيس النصر الزائف ولتتأكد بأن معظم من كانوا فيها من الرجال والنساء والشيوخ تمت إبادتهم وأحرقت أجسادهم. ليبدأ الصراخ من جديد ولتبدأ ألسنة النار الملتهبة تتسلل إلى كبد  شرمولى النازفة نارا كانت هذه المرة في جنوب المدينة تحديدا في قرية (تل حبش) .
هدأت الغارات فوق البلدة المنكوبة … ولم تهدأ القصائد .
في لحظة اتونها كان النازف الأول (صبري خلو سيتي) الشاعر الذي بقي حتى رحيله عن الدنيا ينشد قصائده في زقاق وأحياء هذه المدينة الوادعة دون مسرح أو مكان يقف فيه او حتى حائط يسند عليه روحه المتعبة  ليخفف من وطأة آلام من يلاقيه بقصيدة عن الحب أو بكلام جميل تعلى شأن المكان .
وأخر الحرائق في قرية (تل حبش) معقل من معاقل رجال ثورة عامودا والتي كانت بقيادة (سعيد أغا الدقوري) استشهد فيها من الرجال من بينهم (محمد ملا سعيد كرمي). يقول الشاعر (صبري خلو سيتي) عن الثوار الأكراد في الأبيات التالية :
 ثوار الكرد
الثوار الأكراد رفعوا راية الكفاح
هاهم
متآهبين لملاقاة العدو
في البطاح والتلال
لا يهابون المدافع والفيالق والجيوش
أكراد فدائيون ….
هدأت الغارات … لكن لم تهدأ النار المشتعلة في جسد جهاد حتى الآن, القادم من بلدة عين دوار الذي أعطى للنار لذة المكان وللمكان حداده السرمدي…..
ــــــــــــــــ
المراجع :

المقاطع الشعرية مأخوذة من المجموعة الشعرية للشاعر الكردي صبري خلو سيتي والمترجمة إلى العربية
اصدار خاص 2006 .
* – جهاد : ابن ثلاثين ربيعا احرق جسده في وسط مدينة عامودا وأمام المارة  بمناسبة محكمة القائد عبدالله أوجلان .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…