بسام مصطفى
هناك في التاريخ امثلة كثيرة تحدثنا عن علاقات صداقة مميزة جمعت بين المبدعين ، كانت لها دلالات عديدة للاستفادة منها في توثيق و معرفة القيمة او الحالة الحقيقية لفنان ما و ذلك عبر الرسائل المتبادلة فيما بين الاصدقاء و حتى ان بعض هذه الرسائل تساعدنا في تحليل و فهم نتاجات و اعمال هذا المبدع او ذاك و خاصة اؤلئك المبدعون القدامى و لعل رسائل فان غوغ الى اخيه ماتيو خير دليل .
و بالمثل ، تلك المتبادلة بين الشاعر المتشرد رامبو و صديقه الشاعر فرلين و لكن لم تكن تلك الرسائل كثيرة لان رامبو هاجر الى اليمن و عاش ومات هناك و لم تصلنا رسائل تلك المرحلة ، كما ان تلك الرسائل الرومانتيكية المليئة بالحزن الادبي التي كتبها الفنان الكردي عمر حمدي الى صديقته مالفا تعتبر رائعة و مليئة بالحس الفني و التي تعرفنا قليلا بشخصية الفنان و من الجدير بالذكر ان الفنان حمدي كان صديقا مقربا الى الفنانين الكرديين عمر حسيب و فؤاد كمو و هما اي حسيب و كمو ، او العلاقة العميقة و الصداقة بينهما هي ما سأتناوله في كتابتي هذه .
كان يجمع بينهما ما يجمع بين اهل الشمال كلهم : الغبار . غبار الشمال و شمسه اللاهبة و سنابل القمح الذهبية تلك التي استقى منها حسيب الوان لوحاته بينما كان كمو-الذي نجا من اخر فجائع الاكراد و حرائقهم و اعني حريق سينما عامودا- يرسم حينها المهاتماغاندي ايمانا منه بحاجة شعبه الى شخص بقامة غاندي لينقذ الكرد من هذا الغبن و الاضطهاد الذي يبدو و كأنه قدر ابدي ، ليعود فيما بعد –بعد وفاة عمر-ليرسم مثله الطبيعة و الحنين اللتان كانتا قاسما مشتركا بينهما على ما يبدو . و ها هو كمو و قد عاد او اقترب من الوطن – كردستان العراق –ليكتفي بالاقتراب من قبر صديقه عمر حين تهب الريح من الشمال الى الشمال-و هما ليس لهما ككل الكرد سوى الريح … بينهما حدود ودول و اسلاك قاتلة تحول بين اصدقاء العمر ان يلتقوا و لو موتى !- جالبة بعض من عبق الجزيرة السورية ، تلك المنسية بين ثنايا الالم و النسيان و الحنين الى كل شيء .
في (تل حجر ) ذلك الحي الصغير الذي يقطعه طريق قامشلي-حسكة الى قسمين ، ذلك الحي الوادع المغبر ذو البيوت الطينية القريبة من روح الكرد و كآبتهم ، الذي يجمع العائلات الراحلة القادمة من القرى النائية المتناثرة في الجزيرة ، بحثا عن العيش و الاحلام و اشياء اخرى . في ذلك الحي ، سكن عمر حسيب و فؤاد كمو في غرفة واحدة منذ عام 1964 الى 1972 اثناء مرحلة الدراسة حيث كان الفنان كمو ايضا مهاجرا من قريته بحثا عن الدراسة و الحياة و الصبايا الجميلات في مدينة الحسكة والمياه العذبة عكس مياه قريته الغير صالحة للشرب و الغسيل و هو يعاني منذئذ من عقدة المياه العذبة و علي كشريك له في السكن جمعتنا الصدفة ليس الا ان اراعي عادته تلك بينما هو كفنان لا يؤاخذ لا يراعي اي عادة لي و لا بد من القول ان عادات الشعراء لا تحتمل فعلا- ! . في تلك الغرفة الوحيدة ذو الارضية الترابية حيث كانت تشتعل فيها لمبة غاز وحيدة ببطء على العكس مما كان يعتمل في اعماق ساكنيها الفنانين الحالمين بسماء اكثر نورا و حياة اكثر اشراقا . كان عمر مغرما بالاغاني الشعبية العراقية تحديدا و صوت عبد الحليم حافظ و حين كان الصديقان يعودان ليلا من الحفل الاخير لسينما المدينة ، كان عمر يغني على طول الطريق و هذا ما كان يغيظ صديقه كمو الذي كان يرى من الاجدر ان يكون المشوار صامتا لكن حسيب لم يكن ليأبه بذلك . هناك ،حيث كان التل حجرا ،و القلوب من حجر و المدن و القرى و الناس و الحيوانات .. كانت المشاعر الاولى في فهم و دراسة الفن التشكيلي تنمو لديهما و تنمو معها احلام الشابين حيث انتجا في تلك المرحلة اعمال فنية رائعة ذو قيمة توثيقية لان تلك المرحلة كانت بدايات البحث في الفن التشكيلي الكردي و هما يعتبران من جيل الرواد بعد الرعيل الاول .
في عام 1972 ، غادر الفنان كمو الى دمشق لاكمال دراسته حيث اقام آخر معرض له مع حسيب في صالة المركز الثقافي السوفييتي التي حظيت وقتها بتغطية صحفية و اذاعية لائقة و منذ ذلك الحين لم يلتق الصديقان حتى عام 1989 وذلك بدعوة من صديق حسيب الفنان خليل عبد القادر، و كانت ليلة سكرى على ضفاف الخابور مع الاشوريين . في ذلك الحين كان كمو يقوم باخراج جواز سفره من بلدة عامودا . ليغادر الوطن في عام 1990 و يستقر في المهجر و بالتحديد في المانيا . كان عليه هو ايضا كأخوته ان يتيه في جهة ما ليبوح بعد ذلك بما يعنيه التيه من خلال لوحاته التشكيلية التي تبوح بكل شيء دونما كلام . و اما عمر ، فبقي في المتاهة الكبرى حيث تمر السنوات بخفاء و تعود سنة سنة الى الوراء اذ لا امام هناك ! ليمتزج ذات يوم بتراب و هواء الشمال وتكون تلك لوحته الاخيرة التي رسمته و لم يرسمها …
في صباح اوروبي بارد من عام 1998 ، استيقظ كمو على رنين الهاتف ليفجعه نبأ وفاة الفنان عمر حسيب مع زوجته و ابنته في حادث سير في طريقه الى دمشق للعلاج من مرض السكري ..كان ذلك يسيرا على الشمال ان يضيف مفارقة اخرى الى قاموسه الزاخر بها اذ لم يمهل حسيب ان يقتص منه و ان يلعن الصحة و الباحثين عنها.. حيث كان حسيب مهملا لصحته دوما وكأن هاجس ما يقول له دائما ليس للصحة مكان للتفكير فكان شريدا متأملا حزينا بوجه مصفر و قامة نحيلة . في ذلك اليوم الشيىء الوحيد الذي استطاع كمو فعله كتابة اغنية في رثاء صديقه عمر ،كان ذلك كل ما بوسعه ان يقدمه الى صديقه الراحل ، و ما الذي سيجدي نفعا بعد الموت سوى الكلمات .
يوم امس-في وقت متأخر من الليل- قرأت-صدفة-في احدى المجلات الكردية الصادرة في 1999 تلك الاغنية . لا ادري لماذا انتابني شعور بالحزن العميق و تذكرت الشمال كله دفعة واحدة ….الغبار ، الطين ، الظهيرات ، المصادفات ، القرى …تلك النائية المنسية المغبرة حيث تاريخ باكمله يغفو مندثرا تحت التراب ، الحنين الى الصبايا، البيوت الطينية ، السماوات ، النجوم ، الحياة، البساطة ، الالم ، الحكايات و ما اكثرها ،القيظ ، الانين ، الطفولة ، المدرسة و اللغة الغريبة،شعارات الصباح التي كانت تلوث الشمال بسمومها ، الشرطة و فجاجتهم ، الاخطاء كلها و الاثام و الذنوب من طنبور فرمز اليدوي الصنع المترهل كالشمال و حتى ممالك اسماعيلو البهية …تذكرت عامودا ، قامشلو، حسكة و لم اتذكر “ال”تعريفها ، تربسبية و اخواتها ،الى دجلة الباكية … وحتى لانهاية الافق الباحث عن احياء يتعلق بهم قبل ان يلتهم الموت القليل الباقي … .
قبل ان انهي حديثي الممل ، اود ان تقرأوا اغنية الوداع هذه :
اغنية في رثاء صديق (الى عمر حسيب فنان الطبيعة و الشفافية )*
لم يعد بيننا
شتاءات الشوارع الباردة
المزدحمة بالهم و الفجيعة
متاهة هي ؟
ام كابوس قلق على البوابات العالية
لمن تركت كل هذا الحزن
لمن تركت كل هذه الكآبة
***
ماذا نفعل بالسنوات الباقية من عمرنا بعدك
أنلهو بها حتى تغرقنا في ضبابها الداكن
ام نصارعها لتفرقنا مرة اخرى
***
كافكا حاضر بيننا اليوم
يتلمس مشاعرنا عبر مسخه
لتكون مرآة هذه الايام
اللاهثة خلف فراغها الداكن
***
نبدل المدن و الاوطان و السفارات
و اوراقنا الهزيلة كأمتعتنا
نحملها بعناء ممل
حجارة المدن الباردة
تأن تحت اقدامنا الهزيلة
ترسم دربا متشابكا من القلق و الرؤية
ونحن منهمكون بامتعة السفر
و اخرى لايامنا الباقية
هذا ضوء خافت منساب من الموت
يوقظ فينا الرعشة الاخيرة
تلفحنا الرياح القادمة من اعماق
الذاكرة
الراحلة ببطء نحو الافق
***
عمر …
صديق طفولتي و شبابي
وذكرى مرسومة
على صفحات عمري الباقي
ايها المتشبث بهواء الجزيرة
حملتك الذاكرة معها الى الغربة
بقيت هناك لم تغادرها
تراقب تلك الشوارع و الازقة
التي استهلكناها سوية
فحواراتنا و تلمسنا لدربنا الطويل
كالعميان
كان شاقا
كنا نرسم …نلون …نبحث
الفن كان زادنا
الذي لم نعثر على غيره
***
كان مسكونا بالحزن و الحلم
كان ملونا و شفافا
ريفيا لا تروق له الاضواء
و لا الاسواق البعيدة
يضم لوحاته الى قلبه بدفء كالاطفال
***
مرة اخرى
ماذا نفعل بالسنوات الباقية من عمرنا
بعدك
***
الحزن يلفنا بوشاحه السحري
منذ ان تركناك وحيدا على دروب
تل حجر
فمن يدري ماذا تخبىء لنا الايام
***
كان يلهث خلف اللون القرمزي
كالطاووس المتراقص الذاهب الى حتفه
بخيلاء
***
دمنا يراق
اصابعنا تآكلت
و قلبنا ما زال سرابا
ايها المنفيون تعالوا لنلتفت الى الوراء
لنرى ماذا تركنا وراءنا
غير القرى المتناثرة …
و حكايات الاحبة و الاصدقاء
عمر حسيب
عمر من النقاء و اللون
المحفور في ذاكرتنا الى الابد .
* فؤاد كمو- المانيا 4/12/1998 .
لم يعد بيننا شتاءات الشوارع الباردة المزدحمة بالهم و الفجيعة متاهة هي ؟ ام كابوس قلق على البوابات العالية
لم يعد بيننا شتاءات الشوارع الباردة المزدحمة بالهم و الفجيعة متاهة هي ؟ ام كابوس قلق على البوابات العالية