محاولات شعرية مبتدئة

ابن الجزيرة
حياة الإنسان تبدأ صرخة ..بكاء..تتكامل عبر الزمن الطويل………….
طفل يحبو..يمشي..تتعثر الكلمات على لسانه..وطفل يمشي وتستقيم قامته يتحرك بشقاء..يمللأ الأرجاء صيحات جذلى..شدو بلابل. ويمتص من الأسرة والجيران والأقران خاصة كثيرا من المفاهيم- معنى ولفظا- نمط تفكير،أسلوب حياة، بنية سيكولوجية..
ولا يكاد يخطو نحو السادسة حتى تكون بنية الشخصية لديه قد بلغت مبلغا كبيرا، ويصبح التأثير في مرحلة ممتزجة بالوعي.فالطفل يبتعد عن أهله طيلة فترة الدوام المدرسي والتي تكاد توازي ثلث اليوم- إذا أضيفت إليها فترة اللعب – بمعنى حوالي:8-10 ساعة يقضيها مع آخرين ويتأثر بهم: عادات أساليب سلوك مختلفة وأما الفترة الباقية فهو فيها متأثر بأهله وضيوفهم وجيرانهم..الخ وتتفاعل المؤثرات جميعا في ساحته النفسية فيغلب بعضها ويقل تأثير بعضها، ويتكافأ التأثير لدى
بعضها…وله – بما ملك من عقل وإدارة – أن يلعب دوره في التأثير: تنحية، اختيار، تثبيتا، وهكذا..وعندما يبلغ عمر البلوغ(المراهقة) بعد الخامسة عشرة يحدث لديه التحول الأخطر في حياته..ففي بحر شهور أو سنة وربما أكثر قليلا يتغير صوته(صوتها)وتظهر الأشعار فوق شفته(شارب)  إذا كان ذكرا ويبرز صدرها إذا كانت فتاة..وتغيرات أخرى..ينعكس آثارها على حياته وسلوكها(أسلوبها) فهو(هي) إما منزو خجول يبتعد عن الناس يمارس صيغا سلوكية بوحي من تجربته الغضة والقليلة..وربما ينحرف..! وإما هو مندمج اجتماعيا يمارس هوايات تستغرق فراغه فتمر المرحلة بسلام.. وينضج طبيعيا…وفي الحالتين كليهما ينبض القلب بمشاعر جديدة وقد تكون غريبة بالنسبة للبعض..
فيميل نحو هذه الفتاة أو تلك (وتميل نحو هذا الفتى أو ذاك) وقد يتبلور إلى حالة عشق والتزام بمعنى ما ولكن السلوك يختلف..فعند البعض هو إرواء حاجة جسدية بطرق قد تتجاوز الحدود والمألوف.. وعند البعض هو تصعيد هذه الحاجة إلى ما هو سام ..إلى معمل منتج.إلى فكر متوثب ينساب مشاريع فكرية أو مادية أو ينساب مشاعر رقيقة تفيض عبر صور ورسوم وخيال شعري وكلمات موحية تسمى شعرا ..وهكذا
فمنذ بداية المرحلة الإعدادية – وربما أواخر الإبتدائية – كانت المشاعر لدي تتوثب.. وكان نمط التربية المحافظة – والمتزمتة في بعدها الديني – تحيط بي من كل جانب فتحملت فكرة ضرورة أن أتصرف كإنسان كبير..وزاد الطين بلة انتقال المسؤولية الأسرية إلي بسرعة..فكبرت قبل الأوان..
وكانت المشاعر الجياشة والتي في أغلبها مكتوبة تظهر على شكل اهتمام بالغناء والدراسة وبعض ملامح فنية ..لم تتبلور قط،ولكنها تركت أثرا..
وعندما دخلت الحياة كبيرا كانت الحاجات غير المروية لا تزال مكبوتة وتظهر على شكل أوآخر عرضي..فضمر بعضها وذبل بعضها وبقي بعضها تعاند..وبالرغم من المجرى الذي اتخذته هذه الحاجة،في إهاب التزام بالعمل،أو نهم للكتب، وفي صيغ علاقات اجتماعية ومشاركات بأنشطة في إطار ثقافي ..الخ.  على الرغم من ذلك ظلت تلك الحاجات المعاندة تضغط باتجاه قول أقرب إلى الشعر أو شعر أقرب إلى النثر..ولكنه يكتنز إيحاءات وأخيلة..ترسم عوالم جميلة في حياته ولو للحظات..كانت محطات استراحة من صخب الحياة أو ضغطها والذي اتخذ عاملا فيه الجد غالب..مما أثر على بعض قنوات اتصال اجتماعية  أو مشاعرية.
وفيما يتعلق بالطرف الآخر…لم أكد أستقر أبدا قبل الزواج..بل ولفترة ما بعد الزواج أيضا، حتى حصل ما يسمى بعلم الاجتماع “التمثل” أي حالة تأقلم  أو  انسجام.
وخلال هذه الفترة من حياتي كنت أعبر أحيانا عن مشاعري بكلمات هي في أغلبها متخيلة..ولكنها مستلهمة من نظرة إلى جانب جميل في إنسان أو طبيعة، وتأثرا  بألم وأحزان بشكل ما ، ولكنها – للأسف- لم تكن في مستوى ما كنت آمله..ولكنها مع ذلك فهي تبقى جزءا من حياتي ، وتعبر عن نبضات قد تكون حية..قد تكون ناشفة..قد تكون  نضرة..إلا أنها من وحي موقف ما..شيء ما..معنى ما…ولا أزال أتذكر أول محاولة شعرية  كنت فيها في الصف الأول الإعدادي – وكانت محاولة متعثرة – ولكنها معبرة:
سمراء يا جاذبة القلوب ارحمي     من في العذاب مقيم في هواك
وهناك أبيات أخرى خلطت فيها ما عندي مع ما استعرته أو سرقته من غيري..ولقد ظللت أنتشي بهذه الأبيات زمنا.  قسوة الحياة والشعور بالحرمان ساهما في تجفيف منابع حياتي، بل لقد كنت غير نفسي في معظم جوانبها،
في الثالثة عشرة من عمري..لبست أول ربطة عنق(كرافته)  وفي الرابعة عشرة حلقت ذقني …وكانت السمراء
هي من أميل إليها- كما كنت أظن- وكان يخفق قلبي لمرآها..وكنت أميل بخجل وخوف متمازجين إلى محادثتها..ولفت انتباهها..ولكني عجزت عن مكاشفتها..وظلت ذكراها تلاحقني زمنا.وعندما وضعت رجلي على عتبة الدراسة الثانوية(الصف الأول منه) عشت جوا فيه اهتمام ساذج وطفو لي بالشعر بأسلوب لم يوفر الكفاءة للتفاعل معه سوى تربية اهتمام نفسي بقيم جميلة فيها..وفعلا ساهمت هذه المرحلة في تصقيل – إذا جاز التعبير-  التذوق الجمالي لقيم الشعر. حفظت منه قدرا مقبولا وصرت أختار فيها ما هو أجمل..وأقرب إلى سيكولوجية شاب في السادسة عشرة أو السابعة عشرة..ولكنه لا يزال يحمل في أعماقه شعور رجل تجاوز الثلاثين – ربما – فكان بيتان:
آه من الأيام كم تدمي وكم    أدمت حياة الشاب والشيخ العجوز
كم أذاقت لفتى حرمان حب   كم لغايات تقول اللاتجوز
ولم أكترث حينها لمدى صحة قانون التفعيلة فيها أو نوع التفعيل..
كان أستاذ يسمى فايز يهتم بالشعر ويحفظ الكثير منه – هكذا كنا نراه – فكان يقرأ أبيات في مناسبات مختلفة يجعلنا نعجب بالشعر أكثر  ولكن الشعر لم يصبح الفن الذي يجذبني عمليا رغم إعجابي به نظريا – كان شعورا بضعف فيّ القدرة حياله. وكانت التفعيلات تخيفني ..وكنت خجلا في أعماق نفسي. فالشعر ليس الفن الذي وجهتني تربيتي إليه.
وحتى في المرحلة الجامعية – وعلى الرغم من الجو الموحي إلى جانب الأجواء المحيطة بالنسبة لتصور العلاقة بين الجنسين فقد كانت كلمات متعثرة لم تشجعني أبدا على الاهتمام بها ونشرها- وربما بسبب صعوبة النشر حينها أيضا.
وأصبحت معلما
وكنت أستشهد دائما بأشعار ..ولكن ظلال الجدية  ونضوب نبع المشاعر كانا يلاحقاني حتى كدت أرغب في البكاء أحيانا استمطارا لبعض المشاعر ولكن البكاء لم يكن يواتيني.  هكذا خسرت في جانب  مهم  من حياتي  كان يمكن أن يكون نبعا فياضا بالاستيحاء والوصف والتخيل الجميل  وكما أن النار يبقى طويلا تحت الرماد أحيانا يبدو أن جذوة – وإن تشوهت – كانت لا تزال تنبض في بعض زوايا نفسي …وعندما عشت شيئا من أجواء الحرب في لبنان في العام 1982(الاجتياح الإسرائيلي) كتبت:
من فوهة المدفع ….انطلقت
كان دوي الصوت رهيبا…ومرت
كانت كالريح… وانفجرت
بدوي كان عجيبا.والتمعت..وتوهجت
نيران البارود ..وانتشرت
في كل صوب وحدود..
شظايا رصاصات مصهورة  فأحرقت..ما التقت
يباسا كان أم كان رطيبا..وتهاوت
جثث القتلى..
وتعالت  صرخات الثكلى…
وارتفعت أنات الجرحى….ثم ضاعت
أصوات من بشر كانت تنبع
فلقد عادت….وانطلقت
مرة أخرى انطلقت
مرة أخرى كان الصوت رهيبا
وكان القتل وكان الحرق وكانت أصوات مبحوحة
وكانت دماء تنزف… ثم تتجمد
تاركة للذكرى آثارا تتجدد
في أذهان الجيل القادم
في أعماق الزمن القادم
ولقد… ولقد….!!
وعلمت ان شعري سيكون شبيها – من حيث غلبة الخيال العقلي فيه – كما وصف الشعر لدى عباس محمود العقاد، والذي قال شعرا  كثير ا ولكن شعره كان – على ما يبدو – لم يستطع أن يكون على سجيته – وهو أول شروط النجاح في قول شعر جميل..!
ibneljezire@maktoob.com
للمقال بقية تأتي …

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…