ضيق المكان ….. والزمان

محمد بيجو*

هذه الحياة رحبة ..!!
لكن كثيراً ما يقوم شركاؤنا بتضييق المكان علينا, فنهرع مرغمين إلى زوايا الحياة البعيدة عن المكان الأليف, المكان الذي نسج ملامحنا بهدوء, وترك في أرواحنا رائحته الأبدية دون أن ننسى بصمته على قلوبنا التي تموت خوفاً عليه.
نتسلل بأجسادنا ونغامر بأرواحنا  لنحاول تحقيق بعض رغبات مؤجلة, وننشر أحلاماً بيضاء على حبال الأفق, الأحلام التي نسيها الريح لذلك لم يأخذها معه, ننتشر بعنف أحياناً ونترك هدوئنا للذين نعتقد بأنهم سيشتاقون وسيرسلون لنا الكثير من الرسائل فيما بعد.
وأنت هائم في البلدان لا مكان تحط عليه الرحال, ولا زمان يسمح  لتجعد التراب والمدى, تفتح أبواب الرئة وكأن كل الهواء النائم بين السماء والأرض لا يكفي لشهقة واحدة, تتسارع أنفاسك حين تحنّ لتحضن بعضاً من خرائط وصور قديمة فتسقط من عينيك ــ رغماً عنك ــ  قطرات مالحة جداً كماء البحر, البحر الذي تركت كل الأشياء العزيزة خلفه ..
هذه الدنيا رائعة ..!!
لكن كثيرون جداً أولئك الذين يرسمون صوراً وكلمات على جدران السجون ولا ينامون إلا واقفين, وحين يستيقظون يرتبون فوضى حركاتهم القليلة وأغانيهم التي نسجت بألحان ملونة وأحرف غير ثابتة.
كثيرون يضربون رؤوسهم بتلك الصور وينزفون عبرات  وعبارات تنهمر كشلال وسط الأشواك.
نصفك ميت حين تكون مرغماً على الكلام ونصفك الآخر ميت حين يعلمونك الصمت.
حين تضيق عليك الدنيا فأنت عاشقها دع أحلامك تطير في كل جهة, واترك روحك تحوم أمام عينيها لتستيقظ  كل الذكريات دفعة واحدة, وابكي حتى لا تجد كلمة ترميها لمن حولك ليتركوا قليلاً من المكان لتحصي ذنوب غيرك فيه, وتعتذر لكل الكائنات عن أنينك المستمر.
يضيق بنا الزمان بإرادتنا أو بدونها, حينها ندرك بأن الوقت لا يسمح للقلب بالكثير من النبض والحنين فيخوننا الزمان والمكان معاً لأننا لا نعرف إلى أين سيصل بنا الجسد وهو في علبة  من خشب أو حديد.
كثيرة هي الدول التي وضعت أقلياتها في ضيق الزمان والمكان ” الكرد ,الأمازيغ ,…. “, وكم من حاكم مارس الاستبداد على رعيته ورسم حولهم دوائر من نار ودخان .
لكن هل يكون القدر دائما صديقاً حنوناً لتتحالف قوات وتتحد معا فتأتي من أقاصي الأرض لتطيح بمن تطيح, وتأخذ حصتها من البشر والكائنات على حد سواء
وقتها قد لا نعرف لمن نسلم أمرنا أو زمام الحياة المهددة, هل للذي يستمر بصخب في تلقيننا لأشياء نخاف على أنفسنا منها ؟ والزمن يركض وتتناثر أحلام كحبات لؤلؤ بين رماد السنين, أم نحرّم الجهات من نظراتنا لنقف دون أن ننتبه لما يحدث للجراح التي تبدأ بالنزيف ولا تنتهي ؟!! .
نحضن أطرافنا بأطرافنا ونتذكر ضيق المكان السابق والحاضر كمشهد ثابت .. السجن  وكيف كنّا ننام واقفين كجدرانه وننسى بأن لنا أرجل ملتصقة بالأرض
أي ضيق لمكان الذين يرقدون في المقابر الجماعية ؟ أجساد باردة برودة قلوب من طمرها بالتراب والرمال .
الكون كله يصبح وطنا عزيزاً للذي يشم رائحة التفاح والثوم وتتساقط أجساد بجواره ليدرك فيما بعد بأن من يغادرون الآن هم من كانوا يوماً أبناء وأصدقاء بلا حدود وأهل .
شوارع من موتى يستحقون الحياة .. أرصفة من أطفال .. ينابيع من دموع تفجرت في أمكنة لا تبعد كثيرا عن بعضها .
الكون فسيح للذي ينام وهو ينتظر من يطرق عليه الباب ويذكره بزوار قديمين, ينام بمكان بعيد عن الذي لن يأتي أبدا إن لم يذهب هو بنفسه إليه.
وسيبقى الإنسان المتهم الوحيد الذي يستحق العقاب ويتحمل مسؤولية ما يحدث لنا من ضيق لأنه تعود منذ الأزل على اختراع الفخاخ والشباك والأقفاص والسجون وكل ما من شأنه أن يحجز حرية المذنبين والأبرياء .. الإنسان وحده .!

*- شاعر سوري

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…