مسرحية موت الحجل …. اللوحة الأولى

       
                                   اللوحة الأولى
 
               ( دار الجدة عيشي الصغير الكائن في طرف البلدة،غرفة طينية يوحي
                كل ما فيها من أثاث إلى حياة الفقر والعزلة والسواد.الوقت فجر )
الجدة     : (تستيقظ . توقظ روشن النائمة ) روشن ..روشنتي ، هيا استفيقي يا  
               عروس جدتها الحلوة . هيا ابنتي .
روشن    : ( تستيقظ ) دعيني أنم قليلا يا جدتي .
الجدة      : (باستغراب ) تنامين ؟! إذا لازمتك هذه العادة في بيت عمك أيضاً
              فسترجعين إلى جدتك والحنة لا تزال على يديك . هيا .. هيا يا طفلتي .         (تتجه نحو هجار النائم ) هجار . قم يا ولدي ، لا تكن كسولاً مثل أختك .
هجار      : (بضيق )  أوه ..ما بك يا جدتي في هذا الفجر . قومي يا روشن ..قم يا
               هجار ..ما هذا ؟ أف .
الجدة       :اليوم عرس أختك يا عين جدتك . والمدعوون سيفدون بعد قليل .
هجار       : وهل جاء العريس ؟
الجدة       : لا .
هجار       : إذن ما الفائدة من حضور المدعوين إذا كان العريس غائباً .
الجدة         : حمو سيحضر يا ولدي . قم ولا تكثر من الأسئلة أيها الكسول.
هجار       : وربما لن يحضر .
الجدة       : (بفزع )  ما هذا الفأل السيئ يا ولدي ؟
هجار       : أقول ربما . إن اجتياز الحدود ليس نزهة .
الجدة       : أعرف يا ولدي ، لكن أحدهم لا بد أن يحضر اليوم . حمو ، أو
               أخوه ، وربما عمك أبو حمو .. وإلا فمن سيرافق أختك إلى هناك ؟
هجار      : (لروشن ) بسيطة يا أختي ،امتطي صهوة غيمة وردية وطيري إلى حمو
               أيتها العصفورة .
روشن     : لم نعتد على امتطاء صهوات الغيوم كالأخريات أيها الشاعر .
هجار      : ( بتخابث ) روشن يا أغلى وأرق أخت .
روشن     : (بسخرية )  نعم ؟
هجار      :  هل دعوت صديقاتك ؟
روشن     : نعم .
هجار       : كلهن ؟ 
روشن     : نعم كلهن  .
هجار       : ألم تنسي إحداهن ؟
روشن     : ( بتخابث ) آ …بلى . واحدة منهن لم أدعها . لقد نسيتها تماماً .
هجار      :  ومن هي ؟
روشن    : هي صديقة غير مهمة بالنسبة لي . أعتقد أنك لا تعرفها ، أو تسمع باسمها
هجار      : ما اسمها ؟ ربما عرفتها . فأنا أعرف كل صديقاتك .
روشن    : اسمها يا سيدي …نسرين. نسرين بنت أوصمانو البقال .. ها ..هل سمعت بهذا الاسم من قبل يا أخي العزيز ؟
هجار      :  آه أيتها الشقية !
               ( يضحكان . يخرج هجار . روشن تزفر بحسرة وهي شاردة )
الجدة        : (تقلدها )  آآخ .ما هذه الزفرة الحرى أيتها العروس العجوز ؟
روشن       : لو تدرين من تذكرت الآن يا جدتي .
الجدة         :من يا ابنتي ؟
روشن       : أمي و أبي . آه لو كانا بيننا هذه الليلة ، لكان للعرس معنى آخر.
الجدة        : (تشرد ويربد وجهها ) أبوك وأمك  ؟ آه يا ابنتي .
روشن      : ليرحمهما الله . إنه نصيبي المكتوب يا جدتي .
الجدة       : ( تتذكر بتأثر وقد شحب وجهها تماماً ) عبدي ..ولدي ..إنه يغرق . ابنك يغرق يا أبا عبدي .
               (تتدافع في مخيلتها أصوات المياه الهائجة، استغاثات هلعة يستبد بها انفعال غريب ) .
روشن      : (مرعوبة ) ما بك  يا جدتي  ؟ جدتي  ؟!
الجدة        : (بانفعال )  المياه تبتلع ولدي .. أنقذوه با ناس .
روشن      : ( تهز جدتها بقوة ) جدتي !
الجدة       : ( تهدأ )  ها ؟ ما ذا تريدين ؟
روشن      : ماذا جرى لك ؟!
الجدة       : لا شيء ..لا شيء يا عزيزتي .
روشن     : كنت منفعلة تصرخين كأنك في حلم مزعج .
الجدة      :  أنا بخير يا حبيبتي .. اطمئني .
روشن     :  كنت تنادين أبي وجدي .
الجدة      : هذا صحيح . تذكرت يوم أغرقت المياه والديك . كان المنظر مرعباً.
روشن    : (تتذكر ) كنت يومها صغيرة . صغيرة جداً . لازلت أذكر منظر المياه الهائجة وتدافع الناس ، كنت أرى أبي وسط المياه التي راحت تبتلعه ، كان وجهه مصفراً وعيناه جاحظتين . كان ينظر إلينا أنا و هجار نظرة غربية . لا زلت أذكر تلك النظرة الرهيبة ، نعم كانت رهيبة ،ثم غاص رأسه في الماء ..فولولت أمي برعب . وفجأة اختفت بين الناس .لم أرها بعد ذلك أبداً … ثم علمنا أنها غرقت أيضاً ، فبكينا أنا وهجار كثيراً…(تبكي )
الجدة    : ( تمسح دموعها )  ايه يا حلوتي، لا تبكي يا عزيزتي ، البكاء ليلة العرس شؤم . هيا انهضي ورتبي أمتعتك ، اليوم بالذات يجب أن تكوني فرحة . رشيقة كغزالة . ( تدفعها إلى الغرفة الأخرى .. تناديها ) روشن .
صوت روشن :  نعم يا جدتي ؟
الجدة           : أين رفيقاتك ؟ لقد تأخرن .
صوت روشن : لم أدع واحدة منهن .
الجدة          : (باستغراب ) لماذا ؟ !
صوت روشن : سيحضرن عند الوداع فقط .
الجدة          : عند الوداع ؟! ومن سيعتني بزينتك  ؟ ثم من سيرقص أو يزغرد في الحفلة غيرهن ؟ ( تضحك )  لا تقولي أنت يا جدتي .. من سيرقص أو يزغرد . كنت أتمنى أن أفعل ذلك  . لكن الناس سيسخرون مني . أنت تعرفين العادات جيداً .
روشن      : ( تدخل ) أية  زينة ، وأية حفلة ستقام لمن ستعبر الحدود سراً ؟ وماذا لو وقعت العروس في أيدي الحراس يا جدتي ؟ أو أصابت رصاصاتهم العروسين .
الجدة       : (منتفضة )  لا تقولي ذلك يا بنيتي  ، ستصلين إلى هناك بالسلامة . وسيقام لك عرس عظيم . لبيت عمك صيت طيب في قرى أومريان كلها ،سيطل الطبل والمزمار يشقان عنان السماء سبعة أيام بلياليها .      (يتصاعد صوت الطبل والمزمار، زغاريد مع دخول بعض النسوة اللواتي يأخذن بيد روشن ويخرجن بها . تبقى الجدة وحدها . يتلاشى صوت الطبل والمزمار ..إظلام تدريجي ..)                                 (إضاءة تسلط على الجدة . تبدو حزينة وقد هرمت بعض  الشيء )
الجدة      : (تنادي بصوت عال ) هجار .. أين أنت يا ولدي ؟  ( لنفسها ) لا بد أنه خرج كعادته كل يوم . منذ  رحيل أخته لم أعد أراه إلا نادراً. آه يا روشن ..تركت جدتك  وحيدة مع أحزانها بين هذه الجدران الصماء اللعينة ، ثمانية أشهر لم أرك فيها ، لم أسمع صوتك العذب .كنت الروح التي أعيش بها . ( تفكر ) لكن ما حالك الآن ؟ كيف يعاملونك هناك ؟ آخ يا حمو . أنت لا تعرف أية امرأة رقيقة وطيبة هي زوجتك ؟ كن طيباً معها . فأنت شاب طيب . وكذلك أبوك ؛ إنه رجل طيب و مسكين . أما عدولة ..أمك ..إنها امرأة سفيهة ، كم أخشى على ابنتي منها . الله يستر يا عيشي .
صوت هجار :  جدتي . أين أنت يا جدتي .. ( يدخل ، بعتب ) أوه يا جدتي متى 
                  سينتهي هذا الحزن ؟ متى ؟ روشن تزوجت .تزوجت و لم تمت .
الجدة       :  (تنتفض خائفة ) لا قدر الله . ( تتمتم بالدعاء ) أليس من الأفضل يا ولدي أن تزور أختك لتطمئن عليها ؟
هجار       :  ( ممازحاً ) هل تريدين مني الذهاب إليها حقاً ؟ طيب .ها إني ذاهب إليها  حالاً. (يهم بالانصراف ) .
الجدة       : ( تتمسك به خائفة ) لا . لا تذهب يا ولدي ، كنت أمزح فقط .
هجار      : جدتي الغالية ،أنا مثلك مشتاق إلى روشن . لكن روشن تزوجت ، تزوجت  مثل كل البنات وأنا أيضا سأتزوج ، أعني يجب أن أتزوج .
الجدة       : ( بسرور ) متى يا ولدي.. متى ؟
هجار       :  عندما أجد العروس المناسبة .
الجدة       : (تمسك بأذنه ) أليست نسرين العروس المناسبة أيها الشقي؟
                  (يضحكان ، يهم بالانصراف ) إلى أين ؟           
هجار       : لن أتأخر يا جدتي الغالية .
الجدة       : قلت لك لا تذهب يا ولدي . ابق أرجوك .
هجار       : سأبقى . لن أذهب إلى روشن . (بتردد ) لدي عمل هام . سأقضيه وأعود حالاً . ربما تأخرت قليلا ، لا تقلقي علي .
الجدة        : وما هو هذا العمل الهام ؟ 
هجار       :  ( بتلعثم ) مجرد عمل . عمل خاص جداً .
الجدة       : (بحسرة )  أعرف تماماً ما هو العمل الخاص والهام يا ولدي .
                ألسنة الناس لا ترحم ، وأنا أخشى عليك .
هجار      : أتظنينه موعداً مع نسرين ؟ أقسم ..
الجدة      : ( تقاطعه) لا تقسم . أعرف أنه ليس موعداً مع نسرين . ( تتلفت حولها بحذر . تهمس له ) ما تفعله يا ولدي جعل عيون الناس تراقب بيتنا ليل نهار . انتبه إلى نفسك . من أجل أن أطمئن عليك .
هجار      : (مرتبكاً ) حزنك على روشن جعلك تتوهمين أشياء كثيرة ..اطمئني يا جدتي . ( ينظر إلى ساعته ) يجب أن أذهب حالاً. لقد تأخرت .
الجدة      : (برجاء ) هجار،أنت ولدي الوحيد وعزائي في هذه الدنيا الملعونة . ابق إلى جانبي ..أرجوك .
هجار    : لا تخافي يا جدتي . الخوف مرض ..عدو.. (لنفسه ) لو خاف الطائر من  السقوط ما حلق علياً . ولو خاف القمر من الظلمة ما سطع ليلاً .    (لجدته ممازحاً ) اطمئني يا خالة عشي . سأعود إليك شامخاً كالجبل . (تنظر إليه بهلع ، يودعها . يخرج ..)
الجدة    :  (بفزع ) هجار …
             ( صمت . تتلفت حولها زائغة النظرات . تهبط الظلمة فجأة .تدخل المجوعة  )
المجموعة   : ايه يا جدة
                  الشمعة الأخيرة انطفأت                 
                  والظلام ساد                                               
                  ابحثي
                  اسألي                   
                  الناس يسمعون ولا يجيبون
                  الأبواب المقفلة تتلقى الضربات
                  ولا تفتح  
                  أين ستبحثين ..
                  ومن ستسألين …
                   الجواب في فم القمر
                  والقمر في جوف الحوت 
                  و الحوت في السماء      
                  و السماء عالية
                  عالية . عالية … يا جدة
                 (تنسحب المجموعة . تخرج الجدة إلى الشارع منهكة ، شاردة الذهن .
             تصادف أطفالاً يلعبون ..)
الجدة   :   من منكم شاهد هجار يا أولاد ، هجار ولدي .
              ( الأطفال يسخرون منها ، يكملون اللعب ، تنادي هجار ، تسأل أناساً
              وهميين ..) لا أحد يجيب ،لا أحد  يعرف ، ( تجلس أمام باب الدار ) أنا
              السبب ، أراد أن يطمئنني على أخته فذهب إليها . لكن كيف عبر الحدود.
              والنقود .. من أين حصل عليها ليدفعها إلى المهربين ؟ لا.لا..هذا غير
              معقول . ( بخوف مفاجئ)
              ربما ..ربما اختطفه أصحاب العيون الحمراء التي كانت تراقب البيت ليل نهار .. يا ويلي  (يزداد خوفها ) ساعده يا رب إنه وحيدي،لا أحد يساعدني
             غيرك . لا أحد على الإطلاق . لو كان جده حياً لساعدني . لبحث عن
             حفيده بنفسه . لكن أولاد الحرام قتلوه وهربوا ،طحنت عجلات سيارتهم
            عظامه. آخ يا أبا عبدي تركوك تتخبط في دمك كديك مذبوح
           وهربوا .. ايه يا عيشي . لم تبق مصيبة في الدنيا إلا وحلت عليك .
                 ( تستغفر وهي تدخل الدار .. تغفو . يظهر طيف الجد )
طيف الجد : عيشي .. أم عبدي .
الجدة       : رمو . رمضانو. كيف جئت ؟!
طيف الجد : هس. أين هجار؟
الجدة      : هجار ضاع يا أبا عبدي .
طيف الجد : حفيدي ضاع ؟!
الجدة       : لا تغضب  يا أبا عبدي .
طيف الجد : كيف ضاع منك يا امرأة ..كيف ؟      
الجدة       : لا ذنب لي في ذلك . صدقني .
طيف الجد : (ينسحب ) هجار . ولدي . أين أنت ؟
               (يتلاشى الطيف .. تستيقظ الجدة مذعورة )  
الجدة       : أبا عبدي . انتظر يا رجل . أنا.. أنا خائفة . 
            ( تندفع نحو الباب .تصيح بصوت مرعوب ) أم سيامند .
             شيرينة . جارة حليمة . أيها الجيران .
             ( تدخل الجارتان أم سيامند و شيرينة لاهثتين ,خائفتين )
شيرينة    : خيراً. خيراً . يا خالة عيشي  ؟
أم سيامند : ما الذي جرى يا جدة ؟
الجدة       : ( مشتتة الذهن ) رمو .. أبو عبدي كان هنا .
الجارتان   : ماذا ؟
الجدة      : نعم كان هنا الآن وخرج يبحث عن هجار . (الجارتان تتبادلان نظرات الدهشة ) لكنه غضب مني . قال لي : كيف ضاع منك يا امرأة . أنا لا ذنب لي . نعم .أنا….(تغمغم مضطربة..) 
شيرينة    : اطمئني يا جدة .إنه مجرد حلم .
الجدة      : لا. لقد رأيته بعيني هاتين .نعم . رأيته .
أم سيامند :  (  لشيرينة ) كثرت أحلام المزعجة هذه الأيام .
شيرينة    :(بهمس )و كثرت إزعاجاتها  لنا .
أم سيامند : فعلا ، وما من فائدة ترجى منها .
شرينة     : أتدرين يا أم سيامند ! في الصيف الفائت قلت لها : يا خالة عيشي يدا زوجي تؤلمانه كثيراً في الشتاء . وهو يحتاج إلى قفارين .
أم سيامند : وهل صنعت له القفازين ؟
شرينة     :  لا .
أم سيامند  : وأنا أيضاً طلبت منها قبل شهر أن تصنع جورباً لسيامند .
شيرينة    : لابد أنها صنعته ،إنها تحب ولدك كثيراً . تقول إن سيامند يشبه هجار .
الجدة      : (كمن تستيقظ ) هجار. أين هو ؟ أريد أن أراه .
الجارتان  : نامي  يا خالة .غداً سيعود هجار و ترينه.
الجدة      :  أنا حائرة . ماذا. ماذا أصنع الآن ؟
أم سيامند: ولم الحيرة يا خالة . اصنعي جورباً لابنك سيامند .ألا يشبه هجار كثيراً ؟
شرينة     : ( تجر الجدة نحوها ) بل اصنعي قفازين لجارك المسكين حليمو .
الجدة       : ( بذهول ) يجب أن أصنع له شيئاً ، شيئاً جميلًا يليق به ، وعندما يعود غداً سيطير به من الفرحة .
الجارتان  : ( باستغراب )  عمن تتحدثين ؟
الجدة      : كم سيفرح هجاري بما صنعت له من .. من..
                ( الجارتان تتبادلان نظرات الخيبة ..)
شرينة    : هيا يا أم سيامند ، لقد خرفت الجدة تماماً .
أم سيامند : فعلاً .أصابت الجميع بالنحس وصارت كالبومة تنعب وحدها في الخرابة . (تخرج الجارتان . الجدة تنكمش على نفسها ، يبدأ وجهها بالاحتقان . تتردد كلمات الجارتين في مسامعها.تتدافع في مخيلتها أصوات المياه الهائجة .صراخ.استغاثات صوت فرامل سيارة مسرعة .صوت طيف الجد ..تختلط الأصوات بعضها ببعض وتعلو .تصم أذنيها .يتجسد كل ذلك أمام ناظريها .. تتلوى وكأني بها تساط . تطلق صرخة مرعبة . تسقط أرضاً . هدوء . ترفع رأسها .تنظر فيما حولها ببلاهة . تدخل المجموعة .)
المجموعة: لا تهتمي يا جدة
                هكذا صارت الناس
               همك وحدك احمليه
               وإن كان جودي عن حمله يعجز
               لا تشكي يا جدة
               لا تبكي
               إن كنت كريمة فأنت سيدة وغزالة .
               وإن شكوت فأنت بومة
               لا تهتمي يا جدة
               هكذا صار الناس
              ( تنسحب المجموعة .)
الجدة    : ( بهمس و حذر )  هس .هجار نائم . ( تتلفت يمنه ويسره ) أين بنطاله . لابد من تنظيفه . نعم .هجاري  أصبح شاباً .
             ( تجد السروال . تتفحصه ,. بإستغراب )  يا للمصيبة ؟! من الذي مزق البنطال ؟ لماذا فعلت ذلك يا ولدي ؟ لم تعد صغيراً .لا.لا  هذا الفعل القبيح لا يصدر إلا عن  ..
             عن فأرة لعينة .( تبحث عن فأرة وقد أمسكت بالمكنسة ) ألا تخجلين من نفسك أيتها النتنة ؟ هيا أرني وجهك و سترين بعدها ما سأفعله بك .          ( تضرب الأرض بيدها غاضبة، يتعالى الغبار . تسعل .تحدق في الغبار المتصاعد )  أف .. ما هذا الدخان يا أبا عبدي . الولد نائم وأنت تدخن !( تنفخ في الهواء وهي تطارد سحب الدخان الوهمية ) الولد مريض ،لن يتحمل هذه السموم . ( تهدأ ) ها . لقد بدأ يستيقظ . هسس .  ( صمت . تبتسم ) عاد إلى النوم ثانية . الحمد لله . (بقلق ) أخشى أن يصيح ديك أم سيامند الآن فيوقظ الولد . يا لصوته المزعج . إنه النهيق بعينه . ( تقلد صوت الديك ) يجب أن أنبه أم سيامند . ( تقترب من الشباك . تنادي بصوت خافت و حذر ) أم سيامند .. أم سيامندو… لا أحد يرد . ( ترفع صوتها )  أم سيامند .. شرينة .. ش.. ش. اللعنة . إنهم لا يردون ( تنظر إلى مكان نوم الطفل )  وأخيراً أستيقظ الولد . لا حول ولا قوة إلا بالله  ( تتوهم حمله بين ذراعيها . تهدهده و تغني له ..)
             (  إطفاء تدريجي .. تغفو . )
             ( طرق على الباب . إضاءة  تسلط عليها . تستيقظ  فزعة . الطرق يستمر ، يداخلها  سرور مفاجئ . تشرق عيناها بالفرح )
الجدة :   إنهم هم. لا بد أنهم تذكروني أخيراً . جاؤوا لزيارتي . ( الباب يطرق بإلحاح ) ها أنا قادمة . (تهرع نحو الباب تقف فجأة ) لا. لن أفتح الباب . سيقولون لي مرة أخرى: أنت بومة . ( الطرق على الباب يشتد ..بصوت مشروخ ) هيا ،هيا عودوا من حيث أتيتم ، لن أفتح الباب لأحد أبداً. ابتعدوا عني . ابتعدوا عن البومة . أنا . أنا بومة .
صوت طفلة : افتحي الباب يا جدة .
الجدة         : ( باستغراب )  من ؟!
ص الطفلة   : أنا نسرين .
الجدة          : ماذا تريدين يا .. قلت ما أسمك ؟
ص الطفلة   : اسمي نسرين يا جدة  . أنا نسرين .
الجدة        : نسرين ؟! ( تتذكر ) نسرين ..نسرين ..هل أنت حقاً نسرين ؟
ص الطفلة  : نعم يا جدة . أنا نسرين . افتحي الباب .
الجدة       : ( تندفع نحو الباب ) ها أنا قادمة يا بنيتي . انتظري .لا تذهبي . لم أعد أرى جيدا . ( تفتح الباب ) تفضلي يا نسرين . ( تنظر إلها بإمعان ) هل أنت هي؟! لكنك طفلة . مازلت صغيرة .
الطفلة  :   أنا لست صغيرة يا جدة . أنا شابة . انظري . (تقف على رؤوس أصابع قدميها )
الجدة    : ما شاء الله ..ما شاء الله . أنا لم أعد أرى كالسابق . اسمعي يا نسرين (تهمس في أذن الطفلة ) روشن ،روشن أخت هجار .. صديقتك ..أخبرتني بحكايتكما كلها (تضحك بسرور)
الطفلة  : خذي هذه الوردة يا جدة . إن رائحتها منعشة .
الجدة    : كم أنت رائعة يا بنتي . اجلسي بقربي يا عروس .
الطفلة   : استنشقي الوردة يا جدة . هيا بسرعة .
              (تدفع الوردة إلى أنف الجدة وهي تنظر بخبث إلى أطفال تواروا خلف الباب )
الجدة   : (تتفحص الطفلة بنظراتها ) سيكون  ثوب الزفاف رائعاً  عليك . ستكونين اجمل عروس .
الطفلة  : ( تكتم ضحكة  ساخرة ) هيا يا جدة . استنشقي الوردة بسرعة، إن رائحتها عطرة. 
الجدة   :  يبدو أنك سعيدة . نعم ستكونين سعيدة مع هجار. إنه شاب طيب وشهم  . لقد
            ذهب إلى .. إلى السوق لشراء حوائج و لوازم الحفلة وسيعود قريباً .
            لا داعي للقلق . لننتظره .
 الطفلة(تبادل الأطفال نظرات ماكرة ) هيا يا جدة ،استنشقيها بسرعة .
الجدة :   (بسرور) حاضر يا روح جدتها ،سأستنشقها، لكن ما رأيك أن نحتفظ بها لهجار ؟ سيفرح بها هجاري كثيراً، سأقول له : هذه الهدية من وردتك نسرين .
             (الطفلة تبادل الأطفال نظرات الخبث ونفاد الصبر،تقرب الوردة من أنف الجدة وتلح عليها أن تشمها )
               حاضر يا عزيزتي ،حاضر يا عيون جدتها..سأشمها.
            ( تشم الجدة الوردة بعمق فيحتقن وجهها فجأة،تعطس بألم ، الطفلة تضحك عابثة ،تنادي الأطفال الذين كانوا قد تواروا خلف الباب ،يضحكون بصخب
              الجدة تحدج الفتاة بنظرة عتب وهي تتنفس بصعوبة )
              حتى أنت يا نسرين ؟! لماذا يا بنيتي..لماذا ؟
              (تترنح في أرض الغرفة ، تندفع في مخيلتها أصوات فرامل سيارة مسرعة،وأصوات استغاثات،وهدير أمواج هائجة،وضحك الأطفال العابثين وحديث الجارتين،..يختلط ذلك كله بعضه ببعض..تسقط بعدها على الأرض جثة هامدة ،صمت..الأطفال ينسلون خارجين بخوف، إطفاء تدريجي أصوات من الخارج تنادي الجدة.. يقرع الباب بشدة )
الأصوات : أم عبدي. خالة عيشي.. يا أم عبدي..عيشي .أيتها الجدة ..عيشووو.

                 ( تتلاشى الإضاءة مع الإظلام التام الذي يسود المكان )

                                   روشن ..روشنتي ، هيا استفيقي يا                  عروس جدتها الحلوة . هيا ابنتي .دعيني أنم قليلا يا جدتي .تنامين ؟! إذا لازمتك هذه العادة في بيت عمك أيضاً   فسترجعين إلى جدتك والحنة لا تزال على يديك . هيا .. هيا يا طفلتي .         هجار . قم يا ولدي ، لا تكن كسولاً مثل أختك . أوه ..ما بك يا جدتي في هذا الفجر . قومي يا روشن ..قم يا هجار ..ما هذا ؟ أف . اليوم عرس أختك يا عين جدتك . والمدعوون سيفدون بعد قليل .وهل جاء العريس ؟لا .إذن ما الفائدة من حضور المدعوين إذا كان العريس غائباً .حمو سيحضر يا ولدي . قم ولا تكثر من الأسئلة أيها الكسول.      : وربما لن يحضر . ما هذا الفأل السيئ ياولدي ؟أقول ربما . إن اجتياز الحدود ليس نزهة .أعرف يا ولدي ، لكن أحدهم لا بد أن يحضر اليوم . حمو ، أو أخوه ، وربما عمك أبو حمو .. وإلا فمن سيرافق أختك إلى هناك ؟ بسيطة يا أختي ،امتطي صهوة غيمة وردية وطيري إلى حمو أيتها العصفورة . مجرد عمل . عمل خاص جداً .  أعرف تماماً ما هو العمل الخاص والهام يا ولدي .       ألسنة الناس لا ترحم ، وأنا أخشى عليك . أتظنينه موعداً مع نسرين ؟ أقسم .. لا تقسم . أعرف أنه ليس موعداً مع نسرين . ما تفعله يا ولدي جعل عيون الناس تراقب بيتنا ليل نهار . انتبه إلى نفسك . من أجل أن أطمئن عليك . حزنك على روشن جعلك تتوهمين أشياء كثيرة ..اطمئني يا جدتي . يجب أن أذهب حالاً. لقد تأخرت . هجار،أنت ولدي الوحيد وعزائي في هذه الدنيا الملعونة . ابق إلى جانبي ..أرجوك . لا تخافي يا جدتي . الخوف مرض ..عدو.. لو خاف الطائر من  السقوط ما حلق علياً . ولو خاف القمر من الظلمة ما سطع ليلاً .    اطمئني يا خالة عشي . سأعود إليك شامخاً كالجبل . هجار …             ايه يا جدة                   الشمعة الأخيرة انطفأت                  والظلام ساد                                                                  ابحثي                  اسألي                                      الناس يسمعون ولا يجيبون                   الأبواب المقفلة تتلقى الضربات                  ولا تفتح                     أين ستبحثين ..                  ومن ستسألين …                   الجواب في فم القمر                  والقمر في جوف الحوت                    و الحوت في السماء                         و السماء عاليةعالية . عالية … يا جدة ..)من منكم شاهد هجار يا أولاد ، هجار ولدي .              (لا أحد يجيب ،لا أحد  يعرف ، أنا              والنقود .. من أين حصل عليها ليدفعها إلى المهربين ؟ لا.لا..هذا غير              معقول . )              ربما ..ربما اختطفه أصحاب العيون الحمراء التي كانت تراقب البيت ليل نهار .. يا ويلي  ساعده يا رب إنه وحيدي،لا أحد يساعدني             غيرك . لا أحد على الإطلاق . لو كان جده حياً لساعدني . لبحث عن             حفيده بنفسه . لكن أولاد الحرام قتلوه وهربوا ،طحنت عجلات سيارتهم            عظامه. آخ يا أبا عبدي تركوك تتخبط في دمك كديك مذبوح           وهربوا .. ايه يا عيشي . لم تبق مصيبة في الدنيا إلا وحلت عليك . أبا عبدي . انتظر يا رجل . أنا.. أنا خائفة .  أم سيامند .              شيرينة . جارة حليمة . أيها الجيران . خيراً. خيراً . يا خالة عيشي ما الذي جرىيا جدة ؟رمو .. أبو عبدي كان هنا .ماذا ؟نعم كان هنا الآن وخرج يبحث عن هجار . لكنه غضب مني . قال لي : كيف ضاع منك يا امرأة . أنا لا ذنب لي . نعم .أنا….  اطمئني يا جدة .إنه مجرد حلم لا. لقد رأيته بعيني هاتين .نعم . رأيته . كثرت أحلام المزعجة هذه الأيام .  و كثرت إزعاجاتها  لنا .فعلا ، وما من فائدة ترجى منها . أتدرين يا أم سيامند ! في الصيف الفائت قلت لها : يا خالة عيشي يدا زوجي تؤلمانه كثيراً في الشتاء . وهو يحتاج إلى قفارين . وهل صنعت له القفازين ؟  لا . وأنا أيضاً طلبت منها قبل شهر أن تصنع جورباً لسيامند . لابد أنها صنعته ،إنها تحب ولدك كثيراً . تقول إن سيامند يشبه هجار .هجار. أين هو ؟ أريد أن أراه .نامي  يا خالة .غداً سيعود هجار و ترينه.       :  أنا حائرة . ماذا. ماذا أصنع الآن ولم الحيرة يا خالة . اصنعي جورباً لابنك سيامند .ألا يشبه هجار كثيراً ؟ بل اصنعي قفازين لجارك المسكين حليمو . يجب أن أصنع له شيئاً ، شيئاً جميلًا يليق به ، وعندما يعود غداً سيطير به من الفرحة .  عمن تتحدثين ؟ كم سيفرح هجاري بما صنعت له من .. من.. هيا يا أم سيامند ، لقد خرفت الجدة تماماً . فعلاً .أصابت الجميع بالنحس وصارت كالبومة تنعب وحدها في الخرابة . لا تهتمي يا جدة                 هكذا صارت الناس                همك وحدك احمليه                لا تشكي يا جدة                لا تبكي                إن كنت كريمة فأنت سيدة وغزالة .               وإن شكوت فأنت بومة                لا تهتمي يا جدة                هكذا صار الناس               هس .هجار نائم . أين بنطاله . لابد من تنظيفه . نعم .هجاري  أصبح شاباً .  يا للمصيبة ؟! من الذي مزق البنطال لماذا فعلت ذلك يا ولدي ؟ لم تعد صغيراً .لا.لا  هذا الفعل القبيح لا يصدر إلا عن  .. عن فأرة لعينةألا تخجلين من نفسك أيتها النتنة ؟ هيا أرني وجهك و سترين بعدها ما سأفعله بك .           أف .. ما هذا الدخان يا أبا عبدي . الولد نائم وأنت تدخن !الولد مريض ،لن يتحمل هذه السموم . ها . لقد بدأ يستيقظ . هسس . عاد إلى النوم ثانية . الحمد لله . أخشى أن يصيح ديك أم سيامند الآن فيوقظ الولد . يا لصوته المزعج . إنه النهيق بعينه . يجب أن أنبه أم سيامند . أم سيامند .. أم سيامندو…لا أحد يرد .  أم سيامند .. شرينة .. ش.. ش. اللعنة . إنهم لا يردون  وأخيراً أستيقظ الولد . لا حول ولا قوة إلا بالله إنهم هم. لا بد أنهم تذكروني أخيراً . جاؤوا لزيارتيها أنا قادمة .لا. لن أفتح الباب . سيقولون لي مرة أخرى: أنت بومة . هيا ،هيا عودوا من حيث أتيتم ، لن أفتح الباب لأحد أبداً. ابتعدوا عني . ابتعدوا عن البومة . أنا . أنا بومة . افتحي الباب يا جدة .  من ؟! أنا نسرين . ماذا تريدين يا .. قلت ما أسمك ؟ اسمي نسرين يا جدة  . أنا نسرين . نسرين ؟! نسرين ..نسرين ..هل أنت حقاً نسرين ؟ نعم يا جدة . أنا نسرين . افتحي الباب . ها أنا قادمة يا بنيتي . انتظري .لا تذهبي . لم أعد أرى جيدا . تفضلي يا نسرين . هل أنت هي؟! لكنك طفلة . مازلت صغيرة . أنا لست صغيرة يا جدة . أنا شابة . انظري . ما شاء الله ..ما شاء الله . أنا لم أعد أرى كالسابق . اسمعي يا نسرين روشن ،روشن أخت هجار .. صديقتك ..أخبرتني بحكايتكما كلها خذي هذه الوردة يا جدة . إن رائحتها منعشة .     : كم أنت رائعة يا بنتي . اجلسي بقربي يا عروس .  : استنشقي الوردة يا جدة . هيا بسرعة . سيكون  ثوب الزفاف رائعاً  عليك . ستكونين اجمل عروس .هيا يا جدة . استنشقي الوردة بسرعة، إن رائحتها عطرة.يبدو أنك سعيدة . نعم ستكونين سعيدة مع هجار. إنه شاب طيب وشهم  . لقد             ذهب إلى .. إلى السوق لشراء حوائج و لوازم الحفلة وسيعود قريباً .             لا داعي للقلق . لننتظره . :  هيا يا جدة ،استنشقيها بسرعة . :   حاضر يا روح جدتها ،سأستنشقها، لكن ما رأيك أن نحتفظ بها لهجار ؟ سيفرح بها هجاري كثيراً، سأقول له : هذه الهدية من وردتك نسرين .                            حاضر يا عزيزتي ،حاضر يا عيون جدتها..سأشمها.                          حتى أنت يا نسرين ؟! لماذا يا بنيتي..لماذا ؟              : أم عبدي. خالة عيشي.. يا أم عبدي..عيشي .أيتها الجدة ..عيشووو.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…