نارين عمر
حينما كانتِ الشّمسُ منشغلة بتثبيتِ أجهزةِ الرّادار لديها صوبَ كلّ اتجاهٍ التقى بها في تلك الزّاوية المعتمة التي تعجزُ كلّ راداراتِ الشّمس رصدها,أو التّسرّب إليها.
كان الحديثُ مقتضباً, سريعاً, لِمَا للشّمس من سطوةٍ ومهابة وإن لم تخترق إشعاعاتها جدار العتمة.
قالَ:
الشّمسُ تفضحُ الأسرار, لنلتقي حيثُ القمرُ يحط رحاله, فهو مخبأ الأسرار.
قبلَ وداعهِ أحاطها بهالةٍ من لآلئ النّطق كان تلقفها من أفنان عشّاق الليل كانت كافية لترسم من حولها حلقاتٍ مخملية للعوم والتّحليق, وتهوي بها في دوّامة الذهول, وزوبعة الدّهشة والحيرة.
لملمتِ الشّمسُ أمتعتها ورحلت على أمل لقاءٍ آخر.
ذهبَ إلى حيثُ الموعدُ والوصال…انتظرَ…اضطرب…انتظر من جديد ولم يجنِ من انتظاره سوى خياله المتراقص على وجه الصّخور المتقعّرة التي باتتْ أشبه بكهوفٍ قادرةٍ على إخفاءِ كتيبةٍ كاملة العدد والعُدَد من جيوش الليل وسمّاره.
غضِبَ, وللمرّةِ الأولى شتم الليل, عاتبَ القمر, عبسَ في وجه النجوم.
عادَ إلى البيتِ وهو في فراشه جرّبَ كلّ حالت التّقلبِ, طالَ عليه الليل, فكرِهَ سكونه. ظلّ يتوسّلُ إلى الشّمس أن تطلعَ قبل أوانها.
-لابدّ من أن أراها …لا بدّ أن أتلمّسَ عوائقَ غيابها. وهو في صراعه مع النّعاس
وتهديداته تملكه الأخير.
نهضَ, فتحَ عينيه, نظرَ إلى ساعته, لعنَ النّوم, أسرع نحو…؟
-انتظرتُكِ طويلاً.
-صدقني لم أستطعِ المجيء.
-لماذا؟؟؟
-لا أدري تملكني خوفٌ رهيب, فأنا لم أتعوّد على فعل ذلك من قبلُ, أهلي والناس
قاطعها قائلاً:
-انتظري حتى يتمكنّ النّعاسُ من إرهاق جفون أهلكِ, ثمّ تسللي بهدوءٍ.
سألته:
-لِمَ كلّ هذا الإصرار على اللقاء المضمر؟ الليل بسكونه يخيفني, شمسُ النّهار
تمنحني الأمان.
ألقى على مداراتِ سمعها وحسّها كلّ مراوغات نطقه, وزادَ عليها ما استقطبته مخيّلته من كتب العشّاق والمغرمين.
-الليلُ لا يخيفُ لا يرهبُ…انتهى زمنُ الأساطير والخرافات…ولى يا حبيبتي نعيشُ زمناً تمكنّ من إخضاع الليل ونجومه, وإذلال قمره…ألم تسمعين بغزو الفضاء وحرب النّجوم؟؟ والآن فلأخاطبكِ بلغةِ عشّاق الليل, فهو يعني القمر المشعّ المزهوّ باحتضان الكواكب والنّجوم.
كان كثير الكلام, مدافعاً عن المرأة, مناصراً لها كما أرادَ أن يوهمها. كان يحاولُ أن يجعلَ الحديثَ عن المرأة جوهر نقاشه:
(يا جماعة المرأة كالنّسيم العليل علينا ملامسته برفقٍ, المرأة….و…. المرأة……)
-أجل…أجل سأحاولُ. قالتها بلهجةٍ مضطربة, وتوجّهت نحو البيت.
وقعتْ أسيرةً لمخيّلتها, وكأنّها تفكرُ للمرّة الأولى, أو كأنّها لم تكن ترغبُ في السّماح لذاكرتها التّفكير به من قبلُ.
انتظرتْ رحيلَ الشّمس, خُيّلَ لها لأوّل وهلة أنّها تلاحظ مراسمَ الوداع بينها وبين القمر لأوّل مرّة, فالأولى ترحلُ كئيبة, والثّاني يتبخترُ مختالاً.
احتدمَ العراكُ بين فكرها وفؤادها. قرّرتْ أخيراً الرّضوخَ لإيحاء قلبها…بدت الخطا بطيئة في البدء, وثقيلة…ثمّ انسلختْ عن فكرها تماماً ليتقمّصَ البطء روح السّرعة.
وجدته بابتسامته المغرورة. بدتْ قلقة, خجولة, مضطربة الخطوات.
ابتسامته…سلخت من أعماقها بعض الاضطراب…تحدّثَ لها عن القمر …والنّجوم
لمَسَ يدها…بدا القلبُ طائراً دائم التحليق. قالت:
-الليلُ ما أجملَ سكونه, والقمرُ كأنّي ألمحه الليلة فحسب…حقاً إنّه مبعثُ الطّمأنينة
كما يقولُ هو(ردّدت ذلك بينها وبين نفسها).
تكرّرتِ المرّاتُ…..
في إحداها …؟؟ لمَسَ يدها, اضطربت من جديد, شاركتها الاضطرابُ خلايا وجهها
استسلمتْ لأحلامها…غرقت في محيطِ التّداعيات المنبثقةِ من فيضِ الشّعور. كشريطٍ سينمائيّ…تخيّلتْ نفسها زين ومموها, ليلى ومجنونها, جولييت منتظرةً مجيء
روميو ممتطياً سرعة جواده المزركش.
تحلقتْ روحها في لانهاياتِ المدى…إلى ما وراء كلّ الأفق المرئيّةِ منها والمجهريّة.
ظلّ جسدُها مخاصماً عنيداً لروحها في غضون لحظاتٍ, كانت كافية لنسج حكاياتٍ وحكايات عن أبجديةِ العشق والجنون.
حينما حاولت روحها المصالحة مع الجسد المنهك, أصيبتْ بحالةٍ من الإغماء و…. والهلوسة. نهضتْ…ثمّ هوتْ أرضاً…الأرضُ باتتْ تدورُ و…تدورُ بكلّ مكنوناتها
لا…لا…الكلّ ساكن, وحدها مَنْ تلفّ …و… تدور.
ألقت باللومِ على روحها التي غادرت جسدها وتركتها فريسة للمجهول…هربتْ…
سارتْ…تعثّرتْ…نهضتْ إلى أين؟؟؟ لاتدري…ضلتْ طريقها…وبعد…
وجدتْ نفسها أمامَ بابِ الدّار, ووقعُ صدى همسِه يهزّ فكرها:
-سأراكِ في الغد, وفي نفس المكانِ والزّمان.
كادتْ تجهشُ بالنّحيب لولا خوفها من أن يحسّ بها أحد. تذكرّتْ أنّ عليها التسلل إلى غرفتها كما خرجتْ منه من قبل.
-يجب أن ألتقيه غداً
خلق فكرها صراعاً مريراً بين خيوط الفجر وستائر الليل بينما نشّطتْ دائرة الخيال من حركتها ولعبها وراء الكواليس, وأمامه حتى تمكنتْ من أن توقعها في شباكها
سوف يقدّمُ لها الأعذارَ بعد أن يقابلها بفتور…تعمّقتْ تعرّجات الفتور أكثرَ فأكثر حين طلبتْ إليه إيجادَ حلّ سريع.
-أيّ حلّ لمشكلتنا؟؟
-أيّة مشكلةٍ تقصدين؟؟ سيقولها بإحساس معمّدٍ في بحر الجمود.
-تعلم ما أقصده.
وما ذنبي أنا؟
ـالحبّ…لقد أحببتكَ مثلما لم أحبّ أحد, وإلا لما كان ما كان.
ـأنا أيضاً أحببتُكِ.
-تتحدّثُ بضمير الماضي, أتقصدُ…؟أين حديثكَ عن الحبّ؟؟ وثقتُ بكَ مثلما لم أثق
بأحدٍ سواك.
وهذا ما أخشاه عليكِ تماماً, الثقة المطلقة بالآخرين…أخشى أن تقودنا إلى عواقبَ غير محمودة النتائج…وسوفَ يمشي…مسرعاً غير آبهٍ بالمصير الذي ستؤوّلُ إليه
-أرجوكَ …سوف أنتحر…قلتُ لكَ قد أنتحر…نعم سوف….
لم يخترق سماء مخيّلتها سوى صوت أمّها الذي جاء كالبلسم الشّافي.
-يجب أن أعاقبَ نفسي…أن أحاكمها…تسللت إلى المطبخ أمسكتْ بسكينٍ حادّة صوّبت
برأسها نحو صدرها: وداعاً يا دنياي…وداعاً أحلامي…طموحاتي… ارتجفتْ يدها…ارتعشَ جسدها تضامناً مع خفقاتِ قلبها التي بلغتْ أوجها بعد أن
خاطبت السّكين بلهجة الواثق:
-هيّا أيّتها السّكين أرجوكِ …ساحة صدري تنتظرُ عناقكِ لأغوصَ في سباتٍ أبديّ
هادئ….خُيّلَ لها أنّ السّكين قد تقمّصتْ روحَ جنّيّ رحيم:
-لا لن أفعل ذلك…كلّ مَنْ عانقتهم سرتُ بهم إلى حيثُ الهاويّة, ربّما أمنحكِ راحة
جسدية, لكنّ روحكِ ستظلّ تحومُ حولَ روحي, تسلبها هدوء البال.
-الكهرباء…نعم …أنتِ الوحيدة القادرة على منح روحي جواز سفرٍ إلى عالم الأمن والطّمأنينة يا مَنْ تهبينهم نور العقل والرّوح, ولكنّ بدورها بدتْ أكثر رأفة
وشفقة حين غزلتْ من نورها مرآة شفافة تقتبسُ منهاأنوثتها وبراءتها الطفولية.
لم تأبه بكلّ ذلك , بل عاتبت الكهرباءَ ونعتتها بالمتواطئة مع الزّمن والقدر عليها.
تذكّرتْ شقيقها الذي سيفقدُ في لحظةٍ ما نبض الإحساس ويمارسُ على جسدها الغضّ كلّ دروس المصارعة والملاكمة التي تلقفها من هنا وهناك, سوف تحاولُ أمها أن تجعل من جسدها المرتعش مظلة تحمي جسدَ فلذةِ كبدها المنهك, فتنالَ ما تنال من الإهانة والملام العنيف كونهاالمذنب الحقيقيّ, فالمرأة هي محور كلّ الكوارث التي تلحقُ بالبشرية.
والدها…؟؟ سوف يدغدغُ مشاعرها بخطابٍ مخضّبٍ بالتشفّع:
بنيّتي…ما هذا العداء الذي تضمريه لنا حتى تصبغي شرفنا في الوحل الملوّث بوقع أقدامِ ذلك النذل؟؟؟
فجأة وهي تصارعُ اللكمات والإهانات وقنابل الاتّهامات لاح لها ذاكَ المخادعُ يتفنّنُ في اصطيادِ حمامةٍ أخرى أشبه بحماماتِ السّلام التي طالما يتغزّلون بها.
كان الصِّدامُ يشتدّ…يحتدُّ…بين منطقتي الحسّ واللاحسّ, كانتا تتقاسمان الغَلبَة فما أنْ تشعرَ جبهة الحسّ بالنّصر المؤكد حتى تشمخَ جبهة اللاحسّ عالية الهامة.
الصّراخُ يتماوجُ بين علوّ وانخفاض تِبْعاً لمشاحناتِ الجبهتين.
السِّلمُ بدت درجاته حزينة, وخطواته كئيبة, وكأنّها تعيشُ في عشّ انفعالاتها. بدأ بصرُها يتمايلُ يمنة ويسرة, ثمّ طولاً وعرضاً وإذ بابنةِ الجيران تبثُّ ابتسامة
جوابية لابنِ الجيران الذي يلاعبُ رأسه ظهوراً وإخفاءً وكأنّه سبّاحٌ يعومُ بين أعتى الأمواج…شاركتهما الابتسام…اتسعتْ دائرة بسمتها حين نظرتْ إلى ساحةِ الدّار
التي ستتحوّلُ خلال أيّامٍ إلى…؟؟؟
سيتهافتُ المدعوون من شتّى الأجناس…سوف يخيّمُ على الجميع السّواد شكلاً ومضموناً وسوف يكثرون من الإطراء عليها, ويوسمونها بسماتٍ لم تولد بعد.
تذكرت قانون الجاذبية, لماذا نرفضُ جاذبية الأرض؟ فمنها جُبِلنا, وإليها نحن رادّون.
مرّة أخرى ألقت نظرة فاحصة, ما زالَ ابنُ الجيران يلوّنُ ثغر جارته بشهدِ البسمات.
امتطتْ فضاء خيالها من جديد, ليتحوّلَ ابنُ الجيرانِ إلى قدَرٍ ملائكيّ, ينقذ ابنة الجيران من مخالبِ قدَر شرّير, يحاولُ حفر بصماتِ البؤس والموتِ في صميم جارته
وكلّ كائنٍ تسمّى/الأنثى/. والرّوحُ ظلتْ تتناثرُ في الأفق الفسيح لتنثر ما تحمله من ذرّاتِ الودّ والصّفاء.
غضِبَ, وللمرّةِ الأولى شتم الليل, عاتبَ القمر, عبسَ في وجه النجوم.
عادَ إلى البيتِ وهو في فراشه جرّبَ كلّ حالت التّقلبِ, طالَ عليه الليل, فكرِهَ سكونه. ظلّ يتوسّلُ إلى الشّمس أن تطلعَ قبل أوانها.
-لابدّ من أن أراها …لا بدّ أن أتلمّسَ عوائقَ غيابها. وهو في صراعه مع النّعاس
وتهديداته تملكه الأخير.
نهضَ, فتحَ عينيه, نظرَ إلى ساعته, لعنَ النّوم, أسرع نحو…؟
-انتظرتُكِ طويلاً.
-صدقني لم أستطعِ المجيء.
-لماذا؟؟؟
-لا أدري تملكني خوفٌ رهيب, فأنا لم أتعوّد على فعل ذلك من قبلُ, أهلي والناس
قاطعها قائلاً:
-انتظري حتى يتمكنّ النّعاسُ من إرهاق جفون أهلكِ, ثمّ تسللي بهدوءٍ.
سألته:
-لِمَ كلّ هذا الإصرار على اللقاء المضمر؟ الليل بسكونه يخيفني, شمسُ النّهار
تمنحني الأمان.
ألقى على مداراتِ سمعها وحسّها كلّ مراوغات نطقه, وزادَ عليها ما استقطبته مخيّلته من كتب العشّاق والمغرمين.
-الليلُ لا يخيفُ لا يرهبُ…انتهى زمنُ الأساطير والخرافات…ولى يا حبيبتي نعيشُ زمناً تمكنّ من إخضاع الليل ونجومه, وإذلال قمره…ألم تسمعين بغزو الفضاء وحرب النّجوم؟؟ والآن فلأخاطبكِ بلغةِ عشّاق الليل, فهو يعني القمر المشعّ المزهوّ باحتضان الكواكب والنّجوم.
كان كثير الكلام, مدافعاً عن المرأة, مناصراً لها كما أرادَ أن يوهمها. كان يحاولُ أن يجعلَ الحديثَ عن المرأة جوهر نقاشه:
(يا جماعة المرأة كالنّسيم العليل علينا ملامسته برفقٍ, المرأة….و…. المرأة……)
-أجل…أجل سأحاولُ. قالتها بلهجةٍ مضطربة, وتوجّهت نحو البيت.
وقعتْ أسيرةً لمخيّلتها, وكأنّها تفكرُ للمرّة الأولى, أو كأنّها لم تكن ترغبُ في السّماح لذاكرتها التّفكير به من قبلُ.
انتظرتْ رحيلَ الشّمس, خُيّلَ لها لأوّل وهلة أنّها تلاحظ مراسمَ الوداع بينها وبين القمر لأوّل مرّة, فالأولى ترحلُ كئيبة, والثّاني يتبخترُ مختالاً.
احتدمَ العراكُ بين فكرها وفؤادها. قرّرتْ أخيراً الرّضوخَ لإيحاء قلبها…بدت الخطا بطيئة في البدء, وثقيلة…ثمّ انسلختْ عن فكرها تماماً ليتقمّصَ البطء روح السّرعة.
وجدته بابتسامته المغرورة. بدتْ قلقة, خجولة, مضطربة الخطوات.
ابتسامته…سلخت من أعماقها بعض الاضطراب…تحدّثَ لها عن القمر …والنّجوم
لمَسَ يدها…بدا القلبُ طائراً دائم التحليق. قالت:
-الليلُ ما أجملَ سكونه, والقمرُ كأنّي ألمحه الليلة فحسب…حقاً إنّه مبعثُ الطّمأنينة
كما يقولُ هو(ردّدت ذلك بينها وبين نفسها).
تكرّرتِ المرّاتُ…..
في إحداها …؟؟ لمَسَ يدها, اضطربت من جديد, شاركتها الاضطرابُ خلايا وجهها
استسلمتْ لأحلامها…غرقت في محيطِ التّداعيات المنبثقةِ من فيضِ الشّعور. كشريطٍ سينمائيّ…تخيّلتْ نفسها زين ومموها, ليلى ومجنونها, جولييت منتظرةً مجيء
روميو ممتطياً سرعة جواده المزركش.
تحلقتْ روحها في لانهاياتِ المدى…إلى ما وراء كلّ الأفق المرئيّةِ منها والمجهريّة.
ظلّ جسدُها مخاصماً عنيداً لروحها في غضون لحظاتٍ, كانت كافية لنسج حكاياتٍ وحكايات عن أبجديةِ العشق والجنون.
حينما حاولت روحها المصالحة مع الجسد المنهك, أصيبتْ بحالةٍ من الإغماء و…. والهلوسة. نهضتْ…ثمّ هوتْ أرضاً…الأرضُ باتتْ تدورُ و…تدورُ بكلّ مكنوناتها
لا…لا…الكلّ ساكن, وحدها مَنْ تلفّ …و… تدور.
ألقت باللومِ على روحها التي غادرت جسدها وتركتها فريسة للمجهول…هربتْ…
سارتْ…تعثّرتْ…نهضتْ إلى أين؟؟؟ لاتدري…ضلتْ طريقها…وبعد…
وجدتْ نفسها أمامَ بابِ الدّار, ووقعُ صدى همسِه يهزّ فكرها:
-سأراكِ في الغد, وفي نفس المكانِ والزّمان.
كادتْ تجهشُ بالنّحيب لولا خوفها من أن يحسّ بها أحد. تذكرّتْ أنّ عليها التسلل إلى غرفتها كما خرجتْ منه من قبل.
-يجب أن ألتقيه غداً
خلق فكرها صراعاً مريراً بين خيوط الفجر وستائر الليل بينما نشّطتْ دائرة الخيال من حركتها ولعبها وراء الكواليس, وأمامه حتى تمكنتْ من أن توقعها في شباكها
سوف يقدّمُ لها الأعذارَ بعد أن يقابلها بفتور…تعمّقتْ تعرّجات الفتور أكثرَ فأكثر حين طلبتْ إليه إيجادَ حلّ سريع.
-أيّ حلّ لمشكلتنا؟؟
-أيّة مشكلةٍ تقصدين؟؟ سيقولها بإحساس معمّدٍ في بحر الجمود.
-تعلم ما أقصده.
وما ذنبي أنا؟
ـالحبّ…لقد أحببتكَ مثلما لم أحبّ أحد, وإلا لما كان ما كان.
ـأنا أيضاً أحببتُكِ.
-تتحدّثُ بضمير الماضي, أتقصدُ…؟أين حديثكَ عن الحبّ؟؟ وثقتُ بكَ مثلما لم أثق
بأحدٍ سواك.
وهذا ما أخشاه عليكِ تماماً, الثقة المطلقة بالآخرين…أخشى أن تقودنا إلى عواقبَ غير محمودة النتائج…وسوفَ يمشي…مسرعاً غير آبهٍ بالمصير الذي ستؤوّلُ إليه
-أرجوكَ …سوف أنتحر…قلتُ لكَ قد أنتحر…نعم سوف….
لم يخترق سماء مخيّلتها سوى صوت أمّها الذي جاء كالبلسم الشّافي.
-يجب أن أعاقبَ نفسي…أن أحاكمها…تسللت إلى المطبخ أمسكتْ بسكينٍ حادّة صوّبت
برأسها نحو صدرها: وداعاً يا دنياي…وداعاً أحلامي…طموحاتي… ارتجفتْ يدها…ارتعشَ جسدها تضامناً مع خفقاتِ قلبها التي بلغتْ أوجها بعد أن
خاطبت السّكين بلهجة الواثق:
-هيّا أيّتها السّكين أرجوكِ …ساحة صدري تنتظرُ عناقكِ لأغوصَ في سباتٍ أبديّ
هادئ….خُيّلَ لها أنّ السّكين قد تقمّصتْ روحَ جنّيّ رحيم:
-لا لن أفعل ذلك…كلّ مَنْ عانقتهم سرتُ بهم إلى حيثُ الهاويّة, ربّما أمنحكِ راحة
جسدية, لكنّ روحكِ ستظلّ تحومُ حولَ روحي, تسلبها هدوء البال.
-الكهرباء…نعم …أنتِ الوحيدة القادرة على منح روحي جواز سفرٍ إلى عالم الأمن والطّمأنينة يا مَنْ تهبينهم نور العقل والرّوح, ولكنّ بدورها بدتْ أكثر رأفة
وشفقة حين غزلتْ من نورها مرآة شفافة تقتبسُ منهاأنوثتها وبراءتها الطفولية.
لم تأبه بكلّ ذلك , بل عاتبت الكهرباءَ ونعتتها بالمتواطئة مع الزّمن والقدر عليها.
تذكّرتْ شقيقها الذي سيفقدُ في لحظةٍ ما نبض الإحساس ويمارسُ على جسدها الغضّ كلّ دروس المصارعة والملاكمة التي تلقفها من هنا وهناك, سوف تحاولُ أمها أن تجعل من جسدها المرتعش مظلة تحمي جسدَ فلذةِ كبدها المنهك, فتنالَ ما تنال من الإهانة والملام العنيف كونهاالمذنب الحقيقيّ, فالمرأة هي محور كلّ الكوارث التي تلحقُ بالبشرية.
والدها…؟؟ سوف يدغدغُ مشاعرها بخطابٍ مخضّبٍ بالتشفّع:
بنيّتي…ما هذا العداء الذي تضمريه لنا حتى تصبغي شرفنا في الوحل الملوّث بوقع أقدامِ ذلك النذل؟؟؟
فجأة وهي تصارعُ اللكمات والإهانات وقنابل الاتّهامات لاح لها ذاكَ المخادعُ يتفنّنُ في اصطيادِ حمامةٍ أخرى أشبه بحماماتِ السّلام التي طالما يتغزّلون بها.
كان الصِّدامُ يشتدّ…يحتدُّ…بين منطقتي الحسّ واللاحسّ, كانتا تتقاسمان الغَلبَة فما أنْ تشعرَ جبهة الحسّ بالنّصر المؤكد حتى تشمخَ جبهة اللاحسّ عالية الهامة.
الصّراخُ يتماوجُ بين علوّ وانخفاض تِبْعاً لمشاحناتِ الجبهتين.
السِّلمُ بدت درجاته حزينة, وخطواته كئيبة, وكأنّها تعيشُ في عشّ انفعالاتها. بدأ بصرُها يتمايلُ يمنة ويسرة, ثمّ طولاً وعرضاً وإذ بابنةِ الجيران تبثُّ ابتسامة
جوابية لابنِ الجيران الذي يلاعبُ رأسه ظهوراً وإخفاءً وكأنّه سبّاحٌ يعومُ بين أعتى الأمواج…شاركتهما الابتسام…اتسعتْ دائرة بسمتها حين نظرتْ إلى ساحةِ الدّار
التي ستتحوّلُ خلال أيّامٍ إلى…؟؟؟
سيتهافتُ المدعوون من شتّى الأجناس…سوف يخيّمُ على الجميع السّواد شكلاً ومضموناً وسوف يكثرون من الإطراء عليها, ويوسمونها بسماتٍ لم تولد بعد.
تذكرت قانون الجاذبية, لماذا نرفضُ جاذبية الأرض؟ فمنها جُبِلنا, وإليها نحن رادّون.
مرّة أخرى ألقت نظرة فاحصة, ما زالَ ابنُ الجيران يلوّنُ ثغر جارته بشهدِ البسمات.
امتطتْ فضاء خيالها من جديد, ليتحوّلَ ابنُ الجيرانِ إلى قدَرٍ ملائكيّ, ينقذ ابنة الجيران من مخالبِ قدَر شرّير, يحاولُ حفر بصماتِ البؤس والموتِ في صميم جارته
وكلّ كائنٍ تسمّى/الأنثى/. والرّوحُ ظلتْ تتناثرُ في الأفق الفسيح لتنثر ما تحمله من ذرّاتِ الودّ والصّفاء.