شجرة التوت.. قصة قصيرة

فيفيان أيوب / مصر 

بعد مرضها، أشفق عليها أبناؤها من الوحدة، فقرروا اصطحابها معهم إلى المدينة. حزمت امتعتها القليلة، وأخذت تودع منزلها الصغير، وجوارها الهادئ. 
تتجول في بيتها، الذي قضت فيه أكثر من أربعين عامًا، هي تقريبًا كل عمرها الواعي. هنا عرفت طعم الحياة. في هذه الغرفة، كانت أول نظرة تعانق عيني زوجها، أول كلمة تخترق عزلة قلبها، وتستدعيه للحياة، أول لمسة أدخلتها عالم الأنوثة. هنا مازالت تحادث زوجها، حب عمرها، الذي رحل منذ سنوات، لكنه لم يرحل من قلبها، فهو حاضر، في كل ركن من أركان بيتهما. أما هَنَا فكانت فرحة أول أبنائها، وتعلمت أن تكون أمًا، وهَنَا ثانيهم وثالثهم ورابعهم. مازالت تسمع صرخاتهم، وضحكاتهم وتتذكر أعوام دراستهم، نجاحهم ثم أفراحهم. 
وهَنَا ليالي الأعياد واجتماعاتهم، فرحة الصغار وشقاوة الشباب وعقل النضوج، صوت الحياة ينبعث من الجدران، والأثاث القليل المتهالك. تمرر أصابعها على كل قطعة منه، فتجيبها بحكايات، وحكايات عاشتها معها. تضحك وتدمع، لكنها تشعر بالحياة تتدفق في أوصالها، فكيف تحزم كل هذا، لتأخذه معها عند الرحيل.
حضر ابنها، وهمَّ بجمع حقائبها. أمسكت بيده، واصطحبته لخارج الدار، مشيرة بيدها لشجرة التوت، الرابضة في شموخ، كشموخ الزمن، على ضفاف الترعة، المنسابة في هدوء، تبث الروح في الزروع والغيطان، متسائلة إذا كان يستطيع أن ينقلها، إلى جوار منزله في المدينة. نظر اليها ابنها، في دهشة وعدم فهم، لكنه أجاب باستحالة ذلك، فالشجرة عجوز وجزورها ممتدة، ومتشعبة لمسافات داخل الأرض، ولو حاول اقتلاعها لماتت. فابتسمت مجيبة، أنها هي هذه الشجرة. جذورها تحتضن كل يوم، مر عليها في هذا المكان. روحها سارية داخل الجدران، وأنفاسها من رائحة ذكرياتها، التي تعيشها في كل شبر، في منزلها الصغير هذا، المنزوي على أطراف قريتها. ثرثرة السيدات، صوت الأطفال، التي تحملها لها، هذه الشبابيك القديمة، هي روح وحياة، كأنغام الموسيقى تطربها. سمر الرجال في الليالي المقمرة، ونس وأمان. مغادرتها له كاقتلاع هذه الشجرة العتيقة، نتيجته المحتومة موتها.
تحير ابنها أمام ما تقول، لكنه أحس كل كلمة، خارجة من داخلها، تحمل جزءًا منها، وربما جزءًا منه هو أيضًا، لكن الواقع يقول، لا يستطيع تركها. بنظرة صامتة متسائلة، عمَّا يجب فعله، احتضن أمه، هامسًا في أذنها، أن كل تلك الذكريات ليست في المكان، إنها محفورة داخلها هي، منقوشة على جدران قلبها وعقلها، تتنفسها مع الهواء، تغمض عينيها فتراها، يمكنها أن تعيشها ألف مرة، في أي مكان. أما جذور الشجرة العتيق، فتتجدد بأحضان الأحفاد، جذور جديدة فتية، تمدها بالحياة، وتوصلها بها من جديد، وتربطها بالأرض الجديدة.
صمتت لم تجب، جرت دموعها ساخنة، تلهب قلبه قبل وجهها، واستسلمت لإصرار ابنها، فحمل حقائبها إلى السيارة. أغلق باب الدار، أجلسها بجواره، وتحرك. وعند مغادرة آخر طريق البلدة، أمالت رأسها في هدوء.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…

شكري شيخ نبي ( ş.ş.n)

 

والنهد

والنهد إذا غلا

وإذ اعتلى

صهوة الثريا وابتلى… ؟

فما ضل صاحبك

ولا جرى في الغوى… !

 

والنهد

اذا علا

حجلين اضناهما

الشرك في اللوى

او حمامتين

تهدلان التسابيح في الجوى… ؟!

 

والنهد

اذا غلا

عناقيد عنب

في عرائش السما… ؟

توقد الجلنار

نبيذا في الهوى… !

 

والنهد

اذا غلا

وإذ اعتلى صهوة الثريا والنوى

تنهيد في شفاه التهنيد…؟

كالحباري

بين مفاز الصحارى

اضناه

مشاق اللال والطوى… !

 

والنهد

اذا علا

وإذ اعتلى كالبدر وارتوى… ؟

فما ضل صاحبك

ولا وقع في شرك…