إبراهيم محمود
سأتحدث عن الكُردية مزكين حسكو Mizgîn Hesko
سأتحدث عن الكُردية مزكين حسكو Mizgîn Hesko” 1973-…”، عن الشاعرة الكردية مزكين حسكو، وهي في قوام الامتلاء بوجع القول وجرح الصوت. هكذا دون مقدمات. ولماذا المقدمات، إذا خلت كتابة نصوصها الشعرية من الأبواب التي تتطلب طرْقاً عليها؟ كونها تحتاج دراية لها قرابة بروح الشعر، نوعاً من ” كلمة المرور ” ليتسنى لقارئها أن يقيم معها علاقة حوار، ككاتبة، كشاعرة، دون أن تكون هي نفسها، إنما هذه التي سعت إلى أن تكون المقيمة في الشعر. والإقامة في الشّعر، إحالة بالروح من خاصية الموجود إلى عمومية الوجود، وتبعات النقلة النوعية هذه. هنا يكون الفن مؤتى اسمه، بمقدار ما يكون المعرَّف به معطىً له من الداخل، بما يستحق.
ما سأتحدث عنه هو هذا الهيام بالكلمة، بتطعيمها لتكون متنكرة لأصلها واقعاً، لتكون خلافها، وهي في نبرتها الروحية الجديدة. أليس قول الشّعر استشرافاً لهاوية، واحتضاناً لقمة معاً؟
أليس الذي يحوَّل تنسيباَ لصالح الشعر، هو أن يكون وراء كل جملة شعرية أكثر من وتر لا يتوقف عن العزف، وأفق لا يتوقف عن لفت النظر، والدفع باللغة لأن تحلّق بأكثر من جناح؟
مزكين حسكو امرأة، ربما أعرفها عن بُعد، لم أجالسْها، لا ذاكرة قريبة لي تفيدني بمعلومة لدحض هذا التوصيف، لعلّي أعرفها عن قرب، دون إلغاء مسافة الرؤية بيننا: هي بصفتها كاتبة وشاعرة، وأنا باعتباري قارئاً ويحاول أن يكون ناقداً. هذا النوع من القرب هو ما يهم من يريد تأكيد علاقة تغْني الكتابة المحرَّرة من المباشرة في المعرفة الشخصية، استناداً إلى بعض من القراءات التي أريدَ لها أن تكون مأهولة بغياب الذات الشخصية، وحضور الذات الأدبية، استجابة لشرط الشعر: إزاحة صورة الشاعرة، وإقرار ظلها، وما في معرفة كهذه، من طرب اللامألوف.
ما أريد التعرض له، ليس الدعاية لمنهج في طريقة القراءة. الكتابة عينها تسمّي منهجها، وما ترتكز إليه طريقة التعامل مع الأمثلة المختارة، وسياسة المكاشفة النقدية، تعرّف بنوعيتها.
ربما هي شذرات كتابة. وفي ذلك يكون للشعر صمته الناطق، وخروج داخله في بعض منه.
وهو الاعتراف الأول على أن المقروء شعرٌ، وأن جاري النظر فيه، هو في بعض وجوهه، وفي الوقت نفسه، ليكون المقروء تعبيراً عن أن الشعر لا يحاط به، إنما بمعنى يختص فيه، تاركاً ما عداه لسواه. إن كل وصف لشعر بأنه كذا وكذا، خرْق لحقيقة الشعر، وسوية الكتابة عنه.
ومزكين حسكو امرأة كما تُقرأ في نصوصها الشعرية، كأيّ كانت من نساء العالمين، لكنها امرأة كردية. لا تقولها عن نفسها مباشرة، فهي شاعرة، والشاعرة تتكلم بظلال لها، تاركة نورها في الداخل” حبرها الروحي ” الذي لا ينبغي توصيفه في كلمات ، وما يقال شعراً، وما يقال في الشعر، معايشة لمختلف معين، ليتحقق شرط شعري، هو شرعية الحوار معه: متعة التشارك. كردية حسكو منزوعة السجلّ المدني بمفهومه الحسي،أو العياني، الوظيفي، إنها تشكّل تعابيرها التي تنسج بها نصوصها وهي تنسّبها إلى عصرها. إلى كردية لها أفقها المؤرّخ له راهناً .
ليس من أول بداية:
ليس هناك إمكان القول بالبداية إلا ما يراه القارئ متجاوباً مع زاوية نظرته إلى نصه. لهذا أقول: ليس المطلوب تأكيد قول ما في العبارة الشعرية، بعبارة نثرية، وإنما إخراج معنى يتوقف عليه اسم القارئ- الناقد، ويبقى المقروء الشعري جانباً، ليغري الآخر بقراءة موازية، أو تحريضه على تحرّي المختلف، حيث الشعر يسجَّل له نسَب وهو في تعددية وجوهه.
ألم يقل الشاعر والناقد جان ميشيل مولبوا( الكتابة هي السير على طول خيط ، خيط صوتي ، في جهل مزدوج بالأصل والنهاية.)؟
حسن، لنشدد على هذه الكلمة، ولنلاحظ بما تفيدنا من إقرارات محقة حول المتقدَّم به:
لا بد من توازن دقيق، يقظ، صاح، مرهف، زلال الروح، فضائي، محرّر من خرافة المسافة بين نقطتين، بما أن الشعر ضد ما هو حدودي، وعلامات على الطريق ؟
في حال حسكو، بصفتها شاعرة، مفْردة، وتتنفس على أرضها، مظللة بسمائها بالمقابل، وفي ضوء ذلك يتقدمها شعرها، أوسع من مساحة شخصيتها حجماً، شكلاً، وظلاً، ملبّية شرط كتابة الشعر. تظهِر فيما تقول شعراً، وتتنفس عالمَه المتنوع هيئات، وتلازم النتيجة المترتبة في كل معايشة، ولادة جرْح تعنيها واقعاً، وهي تقول قصيدتها، وهذه تتركها في الخلف، كما لو أنها خارج ملِكية الاسم الشخصي مباشرة، لأن النرجسية القائمة تتنحى جانباً.
في نص شعري لها من سقوط الورق إلى انبعاثه” Ji pelweşînê ta bi pelvejînê. ” ما يختصر الشجر في ورقه بالنيابة، وما يبقي في الورق حسَّ الشجر، قيافته، أبدية الرمز في معناه، وشكيمة الحضور في أصله:
والخريف..
بكل وقاره
يحمل قفطاناً على هيئة العلَم
في انتظار طرق منفعلة
وبقايا ورود النار
وهي تتوهج ذاهلة
في أمواج الدخان
في مقدور القارئ أن يحيط علماً أو بعضَ علم بمناخات لهذا المقطع، حيث يوجد سهم يتوقف عند( قفطان على هيئة العلم ) يتداخل الآني بالسرمدي، ما يجعل الجامد حركياً مميَّزاً بالروح في العلم، ما يجعل للوجود نَفَس آخر غير الذي يعرَف به في طبيعته. إن علامة الشعر الفارقة هي أن أنه يعرّي الكلمة من خاصية الاسم المعطى لها في المجتمع، استجابة لاسم مركَّب، من لدن الشاعر، أكبر من كونه اسماً عادياً، في سجل النفوس، كما تقدَّم، فلا يعود المقروء في المثال علامة مكان وزمان مؤطرين.
القصيدة تقيم عالمها داخلها. كل قصيدة لها صنافتها، تسمّي القصيدة عالمها، وهو من نسجها، تجاوباً مع خيوط الحرير بالغة الرقة والشفافية، من روح شاعرة لا تبيت في جسد عادي، بشهادة الخيال النشِط. ثمة إملاء لفراغات. إملاءات يستحيل عليها أن تعبَّأ بكاملها. للفراغات في وضعية الكتابة مقام مسامات الجلد. هناك إقرار بواقعة جمالية، لها شكلها، وزنها، طعمها، رائحتها، وصدى صمتها الداخلي، تكويناً مدشناً بإمضاءة الشاعرة ، رفضاً للعرَضي. إنها قضية ذات لا ترفع دعوى لها باسمها الشخصي، فثمة من يتكلم بين جنبيْ روحها جمعاً غفيراً، وعبرها دائماً .
الشاعرة لا تُسأل عما تقول، لقد قالت ما أرادت قوله روحها الشعرية، وعلى قارئها العثور على لون ذوقي يعنيه تبعاً لنوعية علاقته بالنص هنا( وأساس الإبداع الشعري هو القدرة على تمييز العلاقات وتأسيسها ومضاعفتها وكشفها.)، تأكيد آخر لمولبوا، حول علاقة خطرة ومهمة كهذه.
الشعر اكتشاف لمجهول دائماً وجعله معلوماً ما بطريقته، وقراءته معايشة لهذا المعلوم النوعي، دون أن يفقد ” ماء وجهه ” دون أن يستنفد روحه التي تتوهج داخله، فثمة فيض قائم في المعنى.
سأثير نقطة هنا، ربما أعتمدُها لأول مرة في كتاباتي، وهي في وجوب أن يكون القارئ – الناقد ذو العلاقة بالشعر ” هنا ” في مقام القرصان ( لا بد أن هناك من تستفزه هذه الكلمة!. مهلاً). القرصان سيد البحار والمحيطات، كما يقول تاريخه. له هيبته، إنه شبح، طيف، كائن حي كذلك بمفارقاته الكثيرة. القرصان عالم كبير، وخبير بأحوال المحيطات والبحار التي يمخر فيها باعتباره معلوم الاسم كثيراً، يسبر كل حركة مائية، حتى العمق طبعاً. غطاس، ماهر في السباحة، لديه ملَكة ساحرة، ومقدرة لغوية في اعتماد مفردات من عجينة مائية، ومحيط بحركات السفن وكل الذين يقطعون المساحات المائية بتنوع أنشطتهم، وكيفية الاقتراب والتمكن منهم. دون أن نفقِده روح الدعابة، والحدة أحياناً، وميله إلى الشراهة والدنيوية أحياناً أخرى.
القارئ- الناقد، هوذا القرصان الذي يصل ما بين طبيعة الماء في عمقه وأفقه، وتغيرات أحوله، وما يتحرك على سطحه، وحمولته بالمقابل، ونوعية هذه الحمولة. القرصان هو المرجع الأكثر إغراء لمؤرخ البحر والمحيط، في تدوين الكثير مما يجهله المعنيون بالموضوع.
أرأيتم كم هو مفيد جلْب اسم ” القرصان ” إلى حقل قراءة الشعر وتذوقه.
ربما نتلمس وضعاً شعرياً كهذا في عام فعام (Sal û sal. )، الشعر الذي لا يحاط بسره، وإن أحيط به في دعوى معينة، انعدمت العلاقة النقدية. تتطلب القرصنة وعياً مضاعفاً ودقة مجهرية في مكاشفة المقروء:
صوب العدم
عام يمضي في طريقه
وصوب الوجود
عام جديد
يحقق إنجازات
وصهيل أمل
الأحصنة الجوالة
دون توقف
عاماً فعام
محمَّل
بأحلام الوجود..؟!
نحن جميعاً مسكونون بالسنين، إننا جمْعها، تفاعلاتها، علامات شهودها وشهادتها بنا وفينا، تلويناتها وتبايناتها أيضاً. وما تم إيداعه داخلاً متنوع، وما على القراءة إلا أن تظهِر نباهة مهمتها في تحميل ما هو لافت، في تلك الصيغ الشعرية التي فعَّلها خيال الشاعرة، وما يجعلها تعتنق الوجود في كليته دون أن تنتهي فيه، فثمة دائماً ما يبقى خارجاً، ثمة ما يتابع في الوجود، إحالة إلى خاصية الروح النارية المشتعلة هنا وهناك. في كل جملة ثمة مشهد احتراق، ومشهد خمود، لا يلبث أن ينقلب أواراً، واشتعالاً، كأنما الألسنة نبضات الروح هنا داخلها.
نتحدث عن حصاد السنين دائماً، ولكننا نمنح السنين تمايزاتها، علامات تشير إلينا وقطافنا .
هناك شعور ما يجسّد نوعية المعايشة مع الكتابة بالتاكيد. من تكون واقعاً؟ أين تكون فعلاً؟ المعنى مستمر في الدفق! هناك صحراء معلقة في بنية كل قصيدة، إنما الواحة مرفقة بها كذلك!
هناك دائماً إعلام، أو إبراز فراغات، لا ينبغي نسيان مفعولها، وجانب التحريض في وجودها، كما تقدَّم. بقاء فراغات في كل قراءة إشعار بأن القصيدة أدت ” واجبها ” المتعوي بجدارة.
ثمة مثال ثالث، لا يخفي مأساويته، والشعر دائماً في نبل معناه مأساة، والمأساة تجليات ومراتب.
والمثال المنتظَر هنا يخص فجيعة كردية تشغل ذاكرة كل كردي وتاريخه، والتعبير مختلف.
إنها كارثة ” حلبجة ” ذات الصيت الصادم، وفي قصيدة جلية بعنوانها: زهرات عباد الشمس حدائق طيور العنقاء( أربعون عاماً، ولازال الجرح مشتعلاً )
Gulberoyên baxên Sîmiran. ( 40. sal enfal û birîn hîn jî vêketî ye ..?!!! )
ربما يشار في الحال إلى أن هناك مباشرة” خطاطة إعلانية، تعبوية في حبكة العنوان ” سوى أن مقبض الجمر هو في العنوان دون تحديده” زهرات عباد الشمس حدائق طيور العنقاء ” ما يجعل القصيدة في مقام بلاغة جرحها الملتهب والعصي على الالتئام. حيث العلاقة بالنسبة للشاعرة تنبني على حالة متدفقة بسيولة المودع فيها فنياً بين المرئي واللامرئي ، والعكس”. هذه الخاصية(من مرئي إلى غير مرئي) بتأكيد الألماني ريلكه، هو ما يؤمم للروح قابليتها لأن تكون محرّرة اسمها من كل حصر للمعنى، رغم أن الموسوم له زمانه ومكانه، لكن صرخة المصاب الجلل أخرجت الموجود من رقعة الجغرافيا الضيقة، ليأخذ الوجود بكامله به علماً. بالطريقة هذه يكون الشاعر بروميثيوساً وهو يتمرد على الذاتي الضيق فيه، على نوعه ذكورة أو أنوثة، على عمره، اعتماداً على القوة الإبداعية التي وهِبت له وهو يعيش مخاض الألم وصعقة المأخوذ به. ما هو مرئي. حسٌّ، ما هو لامرئي تجاوز لعتبة الوجود، للحسي، إنه الفعل المتعدي للحدثي العادي. وما حدث لم يكن عادياً، وعلى الشعر لكي يسرمد حقيقة اسمه، توقيعه، أن يحقق قفزته: في إقلاق راحة العالم، لوجود من يتهدد العالم وهو في المعتبَر إنسانياً بمجموعه: كارثة حلبجة، لا تسمّي الكردي وحده، إنما تشكل الجرح الرهيب في روح كونية.
الكردية التي تترجم في لغة الشاعرة الكردية سماؤها الشاهدة على عمق جرحها، أرضها التي لم تعبُر بعد وطأة الحداد على الذين مثّلوها تجسيداً لوطن لم يأت بعد، الكردية لغتها المعتبَرة.
هنا، ليس من ماض حرْفي، لا دائرة مغلقة. هناك حرب على الدوائر، حيث إن الزمن محرر من متتاليات الزمن المتداول: ماضياً، حاضراً ومستقبلاً. الشعر يخيف بالطريقة هذه. دون ذلك يكون الصفر الشعري، أو ما يكون دون الصفر درجة اعتبار.
لأورد هذا المقطع:
من داخل شقوق حذاء طفل مجهول الاسم
كل تموز
زهرة عباد الشمس
تبحث عن وجودها…؟!
صباح الخير
أيا زهرة عباد شمس مجنونة وشرسة
أيا زهرة عباد شمس حديقة طيور العنقاء..!!!
ليس من طفل، هناك مفرد بصيغة الجمع. ليس من حذاء، هناك كلمة لها دلالتها، وتضيء بيدراً من الأحذية بالصيغة المأساوية عينها. وثمة تموز المستمر على مدار العام، ثمة زهرة عباد الشمس الشرسة اليقظة، المعبَّدة بالوجع وهي تيمم شطر الشمس أنى اتجهت. إنه جرح الحلبجاوي، صرخته، إدانته الجماعية لمن كانوا سبباً في الذي جرى، وتفعيلاً لهذا الحدث في تاريخ لا ينبغي إغلاق صفحته، واعتبار النزف قائماً، حيث الحديقة لا تخفي جرأة حضورها المكانية، ولا طائع العنقاء( يموت الكردي ضحية جلاده، ويخلّد بموته اللاطبيعي هنا ).
ما يلاحَظ في لسان حسكو الكردية تعدد ألسنة، في لسان واحد، لأن مسمى القول يوحي بذلك.
إنها خاصية مقايضة مقرَّرة بمأثرة التعبير الشعري، إن دُقّق في مفهومه والممكن تبيّنه عميقاً: الجلاد أداة طاغية، يحتكر مكاناً وزماناً، لكنه أعجز من أن يستمر في الزمان والمكان، فالذي اشتحال ضحيته، هكذا، هو الذي ينقلب معرّياً إياه ومن معه، ويُعهَد بالوجود إلى اسم المتحول ضحية، قرباناً، شهيداً، ومطالبة مستمرة بالوجود في أن ينعطف عليه لا على جلاده.
ثمة ما يذكّرني بقول مضيء بدلالته لمالبوكس( في غابة ليسينيتشي ، يبدو أن آثار الإبادة الجماعية يمكن ملاحظتها الآن حتى في المناظر الطبيعية التي لا ينجح هدوءها الأخضر في إخفاء الصم والحضور الهائل للموتى لمن يعرف ويأتي هناك للتأمل بينما يواجه صمتًا رهيبًا .)
وما يعطي العبارة مقدرة أمضى في التنوير(هذا الصمت بالذات هو ما تسمعه القصيدة.).
تصمت الشاعرة كثيراً، ليكون لجرح الكردي- الكردية في روحها إمكان الظهور بشهادته، ليكون للقصيدة مقامها، والواقع المنشود مفارق الروتيني فيه. كل عبارة شعرية تصدح بصمتها.
إن إجراء تغيير بسيط في بعض الكلمات، يصبح الصوت مترجماً لمأساة الشاعرة، يكون اللسان لسانها، والصمت الذي أشير إليه صمت القصيدة التي تخفي زلزلة الأرض وأثقالها المنقذفة إلى السطح، وما أوسع مساحة هذا السطح، الذي يمكّن القارئ الفعلي من معايشة رحابته.
ربما كانت القصيدة بالهيئة هذه تمهّد واسعاً لطريق الشاعرة وأهليتها، في أن تكون مفرداً في تمثيل جمع غفير يشهد لها بالاستمرارية أكبر مما تعرَف به جسداً واسماً، وانتماء إلى الوجود الإنساني ومكابداته. ونحن إزاء وجودات، مما يعزز اختلاف الشاعرة عن غيرها.
من قال إن الشعر قد فقد رصيده الاعتباري؟ الشعر موجود دائماً. الرهان على من يوهَب روحَه.
إضاءة جانبية
ما حاولت التوقف عنده، هو التوقف عند بعض النماذج الشعرية الأحدث نشراً للشاعر ” موقع ولاتى مه “. إنها نصوص ذات طول نسبي، سوى أن القاسم المشترك هو أنها تومىء إليها. أي إنها تحمل إيقاع روحها، ما يكون لخيالها بمفهوم الذائقة الشعرية الملمس الحار باستمرار.
وفي الإمكان أخذ فكرة أوسع وأكثر قابلية للقراءة، لحظة النظر في نصوص شعرية أقدم، منشورة هنا وهناك، وحتى سماع صوتها، وهي تكون كينونة صوتية بنبرتها المغايرة.
تُرى، كيف كانت الشاعرة تقيم علاقاتها النفسية مع الشعر؟ أو : كيف الشعر يتنفس طوع خيالها؟
قبل أكثر من عقدين من الزمن، يمكن تبيّن الفارق، ومع ظهور مجموعات شعرية لها، بين ما كانته حينذاك، وما هي عليه الآن، من باب التأكيد على أهلية الشاعر لأن يصبح أكثر حضوراً بمعناه ومبناه. في التوقف عند هذه النماذج، يمكن للصور أن تشهد على مثابرة مضطردة.
إن كثافة الرؤية معزّزة في المسافة الفاصلة، مسافة تكون معنوية، أبعد مما يكون حسياً بمجرد النظر في المقروء. إذ إن المسافة الفاصلة تترجم حالات مخاض الشاعرة روحياً، وأنها انسكنت بخميرة الشعر في عجينة أيامها المتتالية، والصعود بذاتها إلى المتوخى الشعري أكثر فأكثر.
تُرى، كم مرة حاولت الكردية حسكو أن تنحّي العرَضي في روحها حباً بالأبدي المحتفى به؟ كم مرة صعدت بجمرة الكتابة إلى مرتفع الرغبة شديدة السخونة، تجاوباً مع نداء الكردية المحررة من التهميش والتعتيم والتبعيض والاختزال؟ كم مرة أماتت داخلها ذلك التاريخ الضيق الأفق، وأسلست القياد لخطى نصها الشعري، كما يليق بسمعة الشعر، والرهان على روعته؟
من ناحية أخرى، ثمة ما يوجّب التشديد على ما يعني قضية الكتابة عموماً، وجهة صفتها: الكردية، وبصدد الموقف من المرأة بالذات. كيف ينبغي النظر إلى المرأة، عندما يكون لسانها الشعري وهو يمتلك مؤهلات حياة تشهد على أنها كينونة لها علامتها الفارقة، أنها مثلما أذاقت ” حواء ” ” آدمَـ:ـها ” من ثمرة المعرفة، وليس الإيقاع به كما هو متصور هنا وهناك، وأبصرته بحقيقته، تستطيع المرأة، وفي المضمار الكردي، أن تذيق ” حواء ” الكردية ” ” آدمَـ:ـها ” الكردي، إن كان في وطنه الممزق، أو في الشتات، ليس ثمرة المعرفة التي تنقصه كثيراً، وإنما وهي تطلق عليها الاسم الذي يشير إليها، ليضاء من خلالها، لنكون أكثر أهلية للحياة .
وبغية أخذ فكرة أوسع عن الشاعرة مزكين حسكو، وهي ترجع بنا إلى مطلع القرن الذي نحن فيه، أوردُ ثلاث قصائد كاملة، منقولة عن موقع انترنتي، وقد قمتُ بترجمتها إلى العربية، ومقابلها: عناوينها بالكردية:
يارا Yara
تتألم الصغيرة
تصعد من مهد الموت
حيث السماء..
جرّاء هذه الصرخة انذهلتْ
الوالد والوالدة
أصبحا لقمة.. في فم مصاصي الدماء
قلب” يارا “
احترق بسببهما
من يوم ولادتها
هي دون ربيع
-أماه، لماذا لا ترضعيني ؟
-أين اللعبة؟
-لماذا هذا الصيف
برود علي هكذا؟
” 23-8/ 2001
دون عدالة Bê Dadee
إذا كانت فصولك
بكاملها شتاءات
وأيامك
كانت رياحاً وأمطاراً
كيف ستزينها
سوف ترحل
في فصول سوداء كهذه
ولن تتبرعم أي زهرة
11-10-2001
زهرة الحب Kulîlka Evînê
مثل سهم دون هدف
أصبحتُ أمام ناظريك
انحدرتُ تدريجياً نحو الأسفل
حللتُ في قلبك
في مكان حار تماماً
حيث لم أعد أشاهَد
أصبحت شلالاً
باشر معلاقك بارتشافي
رشقة رشقة
حتى ضياعي
حفرتُ جذوراً
في جسمك
ضممت أغصاناً إلى بعضها بعضاً
مثل غزْل العجوز
توزعتُ في أوردة الدم
حينها تبرعمتْ
زهرة حبي
باسمك