الرحلة التي لم تنته

إبراهيم محمود

كفّوا عن إيذائي كفوووا..
صرخت قدْر استطاعتها، وهي تتعرض لتلك الأرجل الصغيرة لمجموعة الأولاد الأشقياء، متقافزين في المكان، عابثين برمادها، ناثرين إياه في الجهات الأربع، ونشوة صيحاتهم تتمازج مع تطاير الرماد في الهواء.. صراخها كان مكتوماً.. أكثر من ذلك، والأهم، هو أن لا أحد يسمعها. منذ متى كان الرماد يتكلمّ آه لو أنهم يسمعون صوتي، وكم أتألم وأنا أتناثر هنا وهناك، لكان لي وضْع آخر.. قالتها ثانية، إنما في صمت، وهي تعلم تماماً أنها وحدها فقط من تعلم بحقيقتها. رأت أن أفضل مؤاساة لها هي أن تستعيد شريط حياتها، لتخفف عنها ألم تبعثرها.
لا تستطيع حتى أن تخمّن منذ متى وكيف، وأين بدأت حياتها الفعلية. أعجزَها تحديد الزمان والمكان. أمن بذرة أم شتلة ما، وهذه نفسها كيف كانت؟!
كانت تتوقف كثيراً بين الحين والآخر، لتستطيع الربط بين مراحل حياتها التي عبرتْها في رحلتها الطويلة، وهم تجهل بدايتها، كما أنها لا تعلم أي نهاية حقيقية ستكون لها.
ما تعلمه جيداً هو أنها وجدت نفسها في هيئة شجرة.. شجرة جميلة، شقت الأرض، أو الأرض سمحت لها في أن تخرج وتشمخ إلى الأعلى. مفردة” الأرض ” أوقفتها كثيراً، وهي تتخيلها حنوناً للغاية، وأن لمْستها كانت تمنحها المزيد من عطفها عليها، وتقديرها لها. لا بد أنها هي التي دفعت بها إلى الخارج بأكثر من يد داعمة إياها ومثبتة لجذورها في أعماقها، وكلما شمخت وتفرعت، ناظرها تشعب جذورها في مساحة أكبر وأكبر من التربة.
لكم كبرت هذه التي كانتها ذات يوم باسم الشجرة، وهي تسد الأفق، والأفق يظهِر روعتها، وهذه الروعة أكدت جمالها الذي لا يخطئه النظر، وهذا النظر كان يجمع بين ظهورها بهيئتها بهية القوام، وفراغات تتراقص في الضوء، كما تتماوج في الظلال المتدرجة في لونها، فراغات تتخلل أغصانها المشكَّلة بأصول أوراق متباينة الأحجام، ذات العروق الخضراء الندية والفاتحة،  وهي تصطفق تارة، وتارة تتباعد عن بعضها بعضاً، كأنها في مشهد رقص.
حاولت تذكّر عمر المرحلة هذه، بعمرها الطويل، بما حملته ذاكرتها الموزعة في كامل جسمها النباتي، من مشاهد دالة على زهوها ولهوها بالذات في المكان. لم تستطع حصر الطيور التي احتمت بها، أو اتخذتها منازل معلَّقة لها في أماكن متجاورة، وبأعشاش متفاوتة الأحجام، طيور ذات أجناس، لم تتضايق من ثقلها، حيث كانت ثابتة وقادرة على القيام بواجبها في ملازمتها لها. حيوانات ذات أجناس تقاسمت محيطها. احتكت بها، حيوانات تسلقتها، تعمر البهجة أجسامها ذات الخفة، وحيوانات لم تدخر جهداً في قضم أوراقها أو شلع أغصان لها، وحتى قشر لحائها هنا وهناك، وحتى بالنسبة إلى ساقها التي جرى العبث بها كثيراً، إنما حافظت على ثباتها. وبشر كثيرون بدورهم، عبروا المكان، واتخذوها عنواناً لهم، وأمضوا أوقاتاً متباينة بالقرب منها، والتقطوا صوراً لهم  أسفلها، أعلاها، وعلى مقربة منها، وتناثروا في الجهات. وقد أسعدها ذلك، لا بد أن كلاً منهم، وبلغته، وبطريقته، ومع آخرين، كان يأتي على ذكرها، أو يصفها وهو يظهر قائمة الصور التي تظهرها في الواجهة ..
يااااه.. أي عمْر أعطيَ لها، ليكون لها هذا الاستمرار في الحياة، وبمثل هذا التنوع والثراء ؟!
هي لا تعلم كيف بدأ الوهن يدب في أوصالها، ولماذا، وبسرعة قياسية. ألأن جذورها لم تعد تقوم بواجبها، أم جذعها قصر في الوصل بين أعلاها وأدناها، أم لعلة في الأغصان نفسها، أم في التربة بالذات..؟  لم تفلح في معرفة السبب الحقيقي وراء وهنها المعتبَر مفاجئاً لها، وهي تحاول تذكر حقيقة ما آل إليه أمرها. كأن ذاكرتها نفسها عجزت عن تقديم السبب وراء ذلك، وهي تجد نفسها عارية من كل الأوراق.. وقد تملكها اليباس، وتشققت كاملة وبدت وكأنها متهالكة على نفسها. لكم ارتعبت لهذا المشهد، والذي قابلته بما كانت عليه في أوج حيويتها. والوجع الأكبر حين رأت نفسها معرضة لذلك المنشار الذي كان يغرز أسنانه الحادة فيها، ويحيلها إلى أشلاء متباعدة، وليجري استئصالها من جذورها، وبدت النقطة التي شكلت مساحة بيتها الأرضي على هيئة عين مفقوءة وقد انقلب جفنها دائرياً.
وفي زمن قصير، جرى تقديمها وتطعيمها للنار، كأنها لم تكن يوماً شجرة وهي تجتذب عالماً بكامله إليها.
وها هي تجد نفسها رماداً بارداً ملعوباً به دون أي اعتبار لها .
كانت تشعر بحزن شديد. لا أحد يستطيع تقدير حزنها سواها، وحزنها ليس كأي حزن كان، وطالما أن لا أحد يسمع صوت صراخها وأنينها.
وصمتت لبعض الوقت، كما لو أنها توقفت عن ندب روحها التي استحالت مجرد رماد بارد .
واجهت نفسها لبعض الوقت، وكأنها تعلّق : لماذا أنا أشدّد على نفسي هكذا، طالما أنهم يجدون متعة حتى وهم ينثرون برمادي، وبما أن الذين قبلهم أسعدهم الدفء الذي كنت مبعثه!
أصبحت أكثر هدوءاً عند النقطة هذه.
والغيمة التي ظللت الرقعة التي تناثر فيها رمادها، أشبعتها مطراً، حيث تحلل رمادها في قطرات المطر حتى قبل أن تستقر في تجمع مائي صغير، لا لبث أن تشربته التربة، والرماد داخله، جعلها في وضع آخر، وهي تكف عن ندب نفسها كما كانت!
من يعلم، ربما تنتظرني بذرة، أو شتلة أخرى، أنفذ إلى داخلها، وأستحيل شجرة مجدداً، وكما كنت، وربما عشت هكذا سابقاً، مرات ومرات. رددت جملتَها هذه في سرّها، وهي تعيش متعة رحلتها الطويلة التي لم تنته بعد…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…