سماءٌ على أرضها: «قراءة في كتاب الشاعرة الكُردية مزكين حسكو: من صُرَّة الحياة» (4)

إبراهيم محمود

وللجنس لسانُه المركَّب

إضاءة
بوعيها الإنساني، تعيش مزكين حياة تريدها ممنوحة للجميع بنفس القيمة والاعتبار، ليس فيما يخص البشرية عموماً، وإنما على صعيد العلاقات الجنسية” في الذكورة والأنوثة “. في الحالتين تكون الإنسانية قائمة، أو تتعرض للخراب والتشوه والظهور بمظهر آفاتي ومهلِك أحياناً، حيث لا تراعى في وحدة اسمها” الإنسانية: من الإنسان ” ومركّبها الهندسي” رجالاً ونساء ” وأن فهم الحياة، التفاعل معها، وتفهمها، قوى نفسية موجودة، كامنة وظاهرة لدى الطرفين في تكاملهما.
وبالتالي، فإن الجنس يقوم في أصله على خاصية ثنائية لا فصل بين حدّيهما، فهما يكونانه، وفي واقعه اليومي، وكما هو مشهود له، يوجَّه تبعاً لمفارقة قائمة في التفريق بينهما، الأمر الذي يستدعي استنفار ذاكرة جماعية تنقسم على نفسها، ويجري التأسيس لجنس ناقص، حيث يتواجه كل من الرجل والمرأة، أو يتجابهان، وللرجل من خلال تسييد الذكوري فيه، موقع اعتباري هنا.
تعبيراً عن هويتها الجنسية ، كامرأة عموماً، وكامرأة كردية، خصوصاً، تحاول مكاشفة تلك المفارقات” أو المفارقة، بمفهومها الجمعي ” التي تبث فوارق بين الاثنين، وتلك القائمة الطويلة من الأوهام، والأساطير المركَّبة، والحكايات التي تجذر تلك الذهنية الذكورية الطابع، وتأثيرها التاريخي، الاجتماعي، النفسي الثقافي على المجتمع ومصيره ، وبطريقة تستعرض بها موقفها.
يعني ذلك أن في صرتها الحياتية، وكما هو الممكن تبيّنه جنسانياً، كإيديولوجية موجهة، هناك ما يجدر التعرض لها، ومساءلة المؤثر النفسي والاجتماعي، أو القيمي فيما تقدم. 
يسهل الكشف عن مشاهد تترى لصورة المرأة التي تتسلسل معاناتها في نوعها وواقعها:
المرأة المسكينة.. كلما قالت لزوجها العنيد والمتشدد:
عزيزي، ألا ترى؟ حقيقة، اللبَن أبيض..؟
يرد عليها زوجها المتشدد بالصيغة نفسها:
قسماً بطلاقك مرات ثلاثاً، وبطلاق المرأة. اللبن أسود، ويصبح أبيض، عندما تصرحين قائلة: سيدي..حقيقة، اللبن أسود!!!؟؟؟ ص28 .
مشهد يمكن معايشته في أمكنة كثيرة كردياً، وخارج هذا المضمار، أي ما يخرج المرئي عما هو عليه، تأكيداً لعناد الرجل الزوج، وفرض ” سلطة أمر واقعه ” عليها، كونه يمثّل الحقيقة . 
لا تخفي الذكورة علامتها الفارقة بمرجعيتها التاريخية المأثورة، وخلفيتها الاجتماعية الداعمة لها، لتصبح المرأة” الزوج ” ساحة حرب مفتوحة ومنكوبة ومنذورة للرجل وهو يتسيد عليها:
في غالب الأحيان، ذلك الزوج المتشدد نفسه، واللوام والعصبي، يستعرض ذكورته حصراً أمام زوجته.
وهذا الزوج” الذكر” نفسه، في داخله، ونفسه، يكون متصدعاً، منكسراً، وليس رجلاً.ص30 .
ذلك يحيلنا إلى ما هو تاريخي  واجتماعي، إلى القهر الذي يشهِر ثقافة فاعلة في ذلك سلباً، أي اعتماداً على مرجعيات دينية ” فقهية ” وسياسية، وثقافية متداولة، لتهميش المرأة .
المجتمع مفتوح أمام الرجل كونه ذكراً، ولكن أي رجل يكون في قرارة نفسه عملياً؟
الرجال الذين يقيمون علاقات غير شرعية مع نساء رخيصات، هم رخيصون.
وتتساءل عما يبقي المرأة تحت الضوء في شبكة علاقات تقلّل من قيمتها، كما لو أنها في مساءلتها تعطي الجواب بالمقابل:
إنما لماذا يبقى ذلك الرجال الذين يرتكبون أخطاء مع النساء أنفسهن..في علاقات غير شرعية..محل اعتبار، وتقدير..؟
أترى الموضوع… موضوع سلطة الرجال أم ماذا ..؟!. ص 32 .
لأن السلطة لها نفوذها، ولها حماتها ورعاتها ودعاتها، فهي تكون ناطقة باسم المعنيين بها مباشرة، والقيّمين عليها، هو ما نتلمسه في جهات مختلفة، وعلى الصعيد الكردي بجلاء. 
ولأن السلطة تستعرض قوتها دائماً، الساحة ساحتها، والكلام المسموع يعنيها، ما الذي يبقى في يد المرأة؟ القهر الداخلي، التحسر على الجاري، التشكي، واللوم، دون تعميم طبعاً:
ثمة أزواج، حيث تشتكي نساؤهم وتلوم، هم أزواج صم عميٌ.
حيث لا يستمعون إلى زوجاتهم، وليس في مقدورهم أن يؤكدوا لديهن الحاجة إلى الحب والإصغاء إليهن.
جرّاء ذلك تضطر النساء هؤلاء إلى التبرم واللوم..ص33 .
في خاصية القهر هذه، تكون المواجهة سلبية، قائمة على تعارض عالمين لا تكافؤ بينهما، والرجل الزوج هو المسئول، وهذا يؤدي مع الزمن إلى المزيد من المشاكل العائلية وتبعاتها الوخيمة وهي تمتد في الزمان والمكان. 
مفارقات جنسية الطابع
في سياق المكاشفة للعلاقات المتوترة بين الرجل والمرأة، وبالنسبة للكرد، ثمة تاريخ طويل، ومتشعب، يضيء الصفحة الساخنة لتفكير موجه ، سلطوي ذكورياً:
إن أغلبية نساء الكرد، إن كن يعملن خارج البيت، أو كنَّ داخل البيت ” ستات ” مثل “ماكدونالد” دون توقف ..
وفي النهاية نجد فاسدين وهم يقولون:
تُرى أي جهد بذلته نساؤنا ؟ص56 . 
لتقول بصيغة تأسف:
للأسف..
هناك من هم موجودون من ” الطينة  ” هذه
حيث إنهم يتبعون القطيع دون تدقيق.
والعدد الكبير لا يعني بالضرورة على أنه يمثل الحقيقة . ص 57 
ذلك صحيح، ولكن العدد الكبير في نسبته، ربما يُحدث بلبلة، ويعزز مواقع الذين يعيشون وفق ذهنية أحادية كهذه، والدفع بآخرين يرون في الحضور الكبير علامة حقيقة، بما أن القطيعية في مجملها سائدة، استناداً إلى ثقافة لها ” عراقتها ” الضاربة في هذا المجال . 
هناك جملة ناقصة باستمرار في لعبة الحياة، عندما يجري التعتيم على طرف دون آخر،أو لحظظ التباهي بما هو قائم، بوصفه الحقيقة، ولكن النظر عميقاً يظهر المغاير .
الشهوة نفسها لا تعود مجرد حالة غريزية، إنما وهي تحمل علامتها الاجتماعية والغنية بمحتواها طبعاً، شهوة روحية، طالما أنه عبْرها يكتشف كل طرف اكتماله في المقابل.
تبقى اللغة مؤثرة، وهي تنوه إلى ما يمكن التفكير فيه، بغية تحقيق الأسلم.
كثيراً ما تقول النساء الكرديات:
الكلمة الحلوة ربيع القلب
كثيراً، ما يردد الرجال  أيضاً:
بالكلمة الحلوة، تنخدع النساء.
والنساء أنفسهن، وكذلك الرجال، يعيشون بالمقابل مع بعضهم بعضاً لسنوات..!!!!؟ . ص170.
وجه آخر، معلوم بسيمائه الاجتماعية، والثقافة التي تقيّمه، وتخرجه عن ” لحميته وعظميته “
أي حيث تسود الثقافة، تتراجع الطبيعة إلى الوراء، والكلفة الحياة تكون باهظة.
المفارقة، أن الطرفين يعيشان هذه التناقضات كما لو أنها طبيعية. ثمة تاريخ طويل وراء ذلك..!
الطبيعة تعلّم
لو جرى النظر إلى الطبيعة، وكيف تتضمن مكونات في غاية الاختلاف والتنوع، وتتفاعل مع بعضها بعضاً، لكان هناك القدر الأكبرى من التفاعلات الإيجابية، ومن السعادة المجتمعية، ويظهر أن مزكين مسكونة بتلك الطبيعة التي تضيء روح الإنسان وتعلّمه بالكثير مما يجهل:
الطبيعة موطن التغير
لا أحجار تبقى في أماكنها، ولا العشب يبقى تحت الصخور.. البيئة حساسة وحيَّة.
الأشجار التي تكبر فصلياً، وفي كل فصل تتزين بشكل مختلف.. هي حيَّة.
… لهذا فإن الناس الممتلئين حباً، يحاولون دائماً الحفاظ على البيئة بجعلها جميلة ونظيفة.
إن حماية الطبيعة الجميلة، حماية الطبيعة واجبنا نحن جميعاً ..ص85 . 
لا تحديد لشخص معين في نوعه أو جنسه، الوعي يصل ما بين الجميع، لأن الطبيعة تقول بذلك، وفي الطبيعة ما يعلّم ويحفّز على الحياة، ومنها وإليها يكون مصير الناس جميعاً.
في الطبيعة ما يخرجنا عن نطاقنا الشخصي، ما يجعلنا أكثر كفاءة وفهماً للحياة بالمقابل، والطبيعة تصهِر في بنيتها كل أوجه الحياة بقانونها الأزلي، ولكم هو رائع إن احتوينا بكل ذلك.
أبعد من الزواج الغريزي
مزكين في سياق معايشتها لحياة امتدت عقوداً حتى الآن، وبوعي مركَّب ، ومنفتح، وبصيرة تترجم عالمها الداخلي دون رتوش، كما هو الملاحظ بصراحة لافتة.. تلفت النظر إلى خاصية جنسية، ومن خلال إقامتها في أوربا، حيث تشير إلى تلك النساء الأوربيات التي تعلمن من تحربة الحربين العالميتين، ومارسن مختلف المهن، أو الأعمال في مجتمعاتهن.. أي لم تعد الصغة الجنسية حائلاً دون بروزها في مواقع أو مناصب معتبَرة.
والعبرة هي في كيفية التعلم من هذا المثال الحي، بالنسبة إلى النساء الكرد، وما ينبغي عليهن القيام به، والتنوّر من خلاله، وكيف ينبغي للرجال الكرد أن يكونوا في مستوى العصر، أي تجاوز حدود الجنس بمفهومه الغريزي، وربطه بخاصية ذكورية، حيث تقول :
بالنسبة إلي، أنا فخورة إذ أكون أنثى، أماً وزوجة.
لا أجد نفسي أبداً في عقدة نقص في المجالات كافة.
الله هو الذي خلقني، وأنا من جهتي حملت ثلاث حيوات في رحمي..
هنا ، أقول علانية وبشفافية:
ليس مقصدي أن يكون واجب النساء الزواج وإنجاب الأطفال..
مقصدي مختلف عن ذلك جداً وأعمق . ص162 . 
وراء كل صرة أكثر من جرح، كما يظهر، أكثر من واقعة مشاهدة، ومكابدة، أكثر من وجع روحي أيضاً، بالنسبة لمن وهبت نفسها ، إلى جانب أعمالها المختلفة والعامة: بدءاً من العائلية، لثقافة شخصية لا تتوقف عليها كفرد، إنما اعتبارها الثقافة قضية مصير اجتماعية، وجهة الرجل الكردي الذي يعيش بعيداً عما هو مأخوذ به في عصره:
لقد سمعت بنفسي كذلك، هذا الموقف غاية في الغرابة، من ألسنة بعض الرجال الكرد:
( هل نساؤنا نحن الكرد، مثل النساء الألمانيات والروسيات..؟)
لتقيّمه:
مسوّغ موقف كهذا خطأ.. مهما حصل…
وثمة المواجهة والتحدي، في مخاطبة الرجل الكردي ممثل موقف كهذا، حيث جرى الحديث عن التغيرات التي شهدها المجتمع الأوربي عائلياً واجتماعياً، على صعيد الجنس أبعد من الغريزي فيه:
تُرى، هل الرجل الكردي، مستعد لتغيرات كهذه..وهو أن تصل المرأة الكردية إلى مستوى المرأة الأوربية، وتتنشط بحرية غير محدودة،، وحتى على صعيد العلاقات تكون حرة أيضاً..؟ . ص 163 . 
ثمة حقيقة قائمة، تراها مزكين جديرة بأن تسمّى، دارجة في مثال كردي، لكم يتردد هنا وهناك، ولكن، ضمن أي نطاق، وبأي سوية يجري تطبيقه:
الأسد.. أسد، إن كان أنثى أو ذكراً
الرجل الواثق من نفسه لا يخاف من المرأة المتعلمة.
المرأة التي تكون أنثى الأسد” لبؤة “
لا تكسر ظهر الرجل الفعلي. ص 185 . 
ثمة البحث عن مخارج لمَا هو عالق من المسائل، وثمة تفكير في قائمة المشاكل القائمة ولها تاريخها، على الصعيد الكردي، وخارج هذا التصنيف.
الجنس مفهوم طبيعي وثقافي. ولكم أسيء إلى الأول بتقويمات قسرية، ذكورية الطابع من الآخر.
الرجل والمرأة اسمان لمسمى واحد، هو الإنسان.
الجنس بميزته الغريزية، الطبيعية، لا يتوقف عند حدود الجسد دون توصيفه بما هو اجتماعي، وثقافي، في ضوئه يجري الحديث عن كرامة الإنسان، شرفه الفعلي، حريته.
الجنس يسمّي تاريخه، هو المعطوف على ما هو إنساني، ويترجمه بسلبيه وإيجابيه.
مزكين حسكو، تعرّي في الجنس ما هو عبء عليه جهة جملة القواني، الأعراف والتقليد التي شوهته من الداخل، وتراهن على الإنساني فيه، حيث يكون الرجل والمرأة معاً معنيين بالحياة، وبهمها، وفيهما تكون الحياة، وتكون السعادة أكثر تجذراً في النفوس..
خارج هذا المضاء سياق ما تم التوقف عنده، ماالذي تخفيه صرة الحياة، سوى التوق إلى الحياة عينها، وهي في أوج تفتحها وازدهارها وسلميتها…؟؟؟
يتبع

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…