إبراهيم اليوسف
اتصل بي قبل أكثر من ثلاث سنوات الشخصية المعروفة كاظم حسين أسعد، عندما كان في تركيا، ليحدثني عن مشروع مخطوط مذكراته الذي أنجزه عن طريق أحد أقربائه، آملاً أن أقوم بكتابة مقدمة لكتابه، بعد إعداده وتدقيقه، بعد أن حصل على رقم هاتفي من الصديق د. سراج جوي، وكان آخر لقاء بيني وأ. كاظم قد تم في مدينة مندن قبل بضعة أعوام في مجلس عزاء لآل ميرزا، وهو ما أفرحني مرتين: مرة لأن هناك شخصية كردية ذات ثقل معروف اجتماعياً، ولها مكانتها، ودورها، ولديها ما تسرده في مجال معاناة ونضال أبناء شعبنا في مواجهة سياسات محو الهوية، قد ساهمت في كتابة مخطوط مذكرات نحن أحوج إلى معرفة تفاصيل تلك المرحلة التي تغطيها زمنياً، كشاهد عيان، ولأن هذه الشخصية قد منحتني التقدير لأكتب مقدمة الكتاب، بالإضافة إلى شهادة ذاتية من قبلي بدور الرجل الذي عملت مع بعض ذويه في الحزب الشيوعي السوري، كأسرة واحدة، ومن هؤلاء: نايف فرحان وشقيقه نوري فرحان، رغم الخلاف في الرؤيا مع الأخير منهما، في آخر سنوات عهدي مع الحزب الشيوعي الرسمي قبل ربع قرن، بالإضافة إلى ما رحت أتذكره من حكاية لوالدي مع المرحوم والده الشخصية المعروفة: حسين أسعد والتي تتردد في عائلتنا، وكان بيت العائلة في الشارع الملاصق لشارع بيتنا في قامشلي، ناهيك عن العلاقات التاريخية بين بعض عمومتنا وعائلة أسعد، سواء أكان في كردستان تركيا أو في الوطن، كما كان يرويها العم مجيد فرمان والد الشاعر الراحل عبدالكريم فرمان، ومنها ما يخص الأديب الشهيد موسى عنتر. القريب منه ومن أسرته، رحمهم الله جميعاً.
هنأت أبا حسين على هذا الإنجاز، وراح يحدثني في مكالمات متواصله، وبحماس ولهفة في انتظار باكورته السيروية، على مدى حوالي سنة كاملة وما تتناوله من بعض ذكرياته في الوطن و أوربا، ومن بينها بعض تفاصيل أول مظاهرة في قامشلي قادها الشاعرالراحل جكرخوين- بالتنسيق مع الحزب الشيوعي السوري- وبحضور صديق أبي وعائلتنا المقرب العم الملا سيد رمضان برزنجي وآخرين، وراح يواصل الحديث عمن قدموا شهادات في سيرة أ. كاظم، وأكثر أصدقاء ومقربون ومعارف. عرضت عليه أن يقوم بإفراغ التسجيلات الصوتية الزميل خورشيد محمد ملا سعيد الذي لم يكن يعرفه، وطمأنته أن هذا الزميل الذي قدمته له، سيستطيع أداء المهمة، على أكمل وجه، لاسيما إنني حولت إليه- قبل ذلك- مخطوطات عدد من الصديقات والأصدقاء ليدققها، ويعدها للطباعة، بعد أن اعتذرت لهؤلاء، عن قيامي بالتدقيق الذي أقوم به، بشكل مجاني، لكل من قصدني، إلا إن تراكم مخطوطاتي في انتظار تدقيقها، وقيامي بتدقيق مخطوطات غيري على حسابها قد وصل حداً لم يعد يحتمل، وتفهم هؤلاء الأصدقاء اعتذاري، واشتغل أ. خورشيد على كتب هؤلاء، لقاء أجر متفق عليه بينه وكل طرف على حدة، بعد اتصال مسبق من قبله حدثني عن استعداده لهكذا تعاون.
بعد وصول بعض أجزاء المخطوط إلي، عن طريق أ. خورشيد الذي بات تواصلنا مستمراً، توقفت عند بعض النقاط التي تمنيت ألا تنشر في المخطوط، وقلت له سنناقش أ. كاظم بخصوصها، ولدي فكرة كافية عن حيثيات مثل تين الملاحظتين، وكان أ. خورشيد أكثر حماساً مني، أشهد له بذلك. في هذه الفترة حدثت أمور عديدة، لا أريد خوض الحديث فيها، من بينها مرض أ. كاظم، وقلقه الذي كان يبديه خلال تواصلنا بأن الكتاب تأخر، كما أن شقيقه الراحل د. فوزي أسعد ظل يسألني عن مصير المخطوط، وكنت بدوري أشدد على أ. خورشيد ليستعجل في إعداد المخطوط، وكانت المهمة- في الحقيقة جد صعبة- فيما يتعلق بالجزء الرئيس من الكتاب ألا وهو ما تم تسجيله صوتياً، تحت إشراف أ. فرهاد فرحان أسعد!
أول مظاهرة في العام ١٩٥٤ في قامشلي بقيادة جكرخوين.
حدث أمر ما، من جهة أ. كاظم وراح يلح علي أن يجد مدققاً آخر كي ينجز المهمة، وكنت أحاول التوفيق بين الطرفين، لاسيما إن المخطوط شارف على الانتهاء، وكان أحد أصدقائنا الكتاب اقترح اسم كاتب آخر، إلا إن أ. كاظم رغم قلقه على المخطوط الذي تأخرت طباعته، لأسباب منها ما يتعلق بمرضه، قائلاً له: يمكن للزميل الآخر أن يشتغل على جزء ثان من المذكرات، وهو ماتم.
أفرحني أن الكتاب قد أنجز، وطبع أخيراً، ولا أدري حقيقة هل تم تلافي الملاحظتين اللتين كانت استوقفتاني أم لا؟ لأن المخطوط لم يعرض علي- في صيغته النهائية قبل الطباعة- من قبل الزميل المعد المدقق كما كنا اتفقنا، لكي أقدم له، وأدلي بشهادتي، وظهر بمقدمته هو.
قبل يومين سألني أ. كاظم- في اتصال هاتفي- عن رأيي في الكتاب، فأعلمته أنني لم أطلع على نسخته الأخيرة، ولم أضف إليه شهادتي، ولم أكتب المقدمة- وكان قد علم بذلك- إلا إنني باركت له إصداره هذا، ويمكن استكمال ما بقي في ذاكرة أ. كاظم مما لم يجىء في هذا الكتاب من سيرة صباه، وشبابه، ورحلاته، وهجرته، في كتاب آخر، من قبل من يتم اختياره.
أعرف أن أ. خورشيد- رغم انقطاعه عن التواصل- إلا إنه بذل جهداً كبيراً، في إعداد وتدقيق الكتاب، كما فعل أ. فرهاد أسعد الذي أشرف على تسجيل فصول الكتاب، على أمل أن يسدَّ هذا المنجز جزءاً مهماً من المكتبة الكردية التي تعد أحوج إلى كتابة مثل هذه المذكرات، لاسيما وإننا خسرنا كتابة التاريخ، وها نحن نفوت على أنفسنا تأريخ الماضي القريب وحتى الأمس واليوم، إذ إنني- مثلاً- بت أنسى الكثير من الوقائع والأحداث التي حدثني عنها أبي عن جدي وجدودي، وبت أستعين بمن ظلوا أحياء من العائلة في استذكار حكايات وقصص كثيرة.
بهذه المناسبة، فإنني أوجه ندائي إلى كل من لديه الإمكانات في مجال الكتابة والتوثيق كتابة ما سمعوه، ورأوه، بأم أعينهم من أحداث على صعيد: أسرهم. قراهم. شوارع بيوتهم. الأحياء التي عشوا فيها. مدنهم، لأنها ستساهم في تشكيل جزء مهم من مكتبتنا الكردية، شريطة أن يكتب كل ذلك، بعيداً عن الأهواء، والعواطف، والأخيلة، ومدح الأهلين، وإخفاء خصال المحيط!
ألف مبارك أ. كاظم!
ألف مبارك أ. فرهاد!
ألف مبارك أ. خورشيد!
وهنيئاً للمكتبة الكردية هذا المنجز، على أمل أن يكون حافزاً لنا جميعاً لكتابة مذكراتنا سير ذوينا ومحيطنا، لأنها ستصبح لامحالة خطوطاً مهمة في المدونة التاريخية التي تعد من مستلزمات الهوية المهددة بالمحو.