إبراهيم محمود
الاسم : عائشة حمو. العمر: أكثر من خمسين سنة، كردية الأم والأب، محل الولادة: خربة عنز التي تبعد عن قامشلو في جهتها لجنوبية الغربية قرابة ” 25 كم ” وهي القرية نفسها التي شهدت ولادتي فيها. العلامة الفارقة: تعرّضها وهي لم تشب عن طوق الطفولة، لإصابة بالغة، جرّاء انسكاب الشاي بسكّره المرفوع عن النار مباشرة، على جسمها، ليجعلها بعد ذلك مُقعدة، حتى وافتها المنية، كما جاءنا نبأ رحيلها الأبدي، في أحد مشافي قامشلو، ليل الأحد”31-3/ 2024″، لتحمّل إلى بيتها” بيت أهلها في حي الكورنيش – قامشلو ” ثم لتوارى الثرى..
أهذا كل شيء؟ ثمة الكثير من الأشياء التي كانت وراء كتابتي لهذا المقال بطابعه الرثائي عن وردة بريئة، وكبرت لتكون فتاة مأهولة بحب الحياة، حتى آخر رمق لها، كما لو أنها معافاة” سليمة الجسم والقوى النفسية” وتعيش عمرها فتاة بمدد حياتي، وهي تحلم بحياة عامرة أسَرياً، وبعائلة لها سهْم في بنائها، وتكون لها ” خِلْفتها “، تكون لها ذرّية كغيرها، يكون لها بيت، شريكة إنسان يقاسمها هموم الحياة الزوجية.. غير أن شيئاً من هذا لم يحصل.
ماالذي دفع بي، لأن أكتب عنها هذه ” السُّطيرات ” وأنا في دهوك، وهي في ” كورنيش- قامشلو ” ولم أرها منذ سنوات” لم أزر قامشلو منذ خمس سنوات “إن لم يكن في مثال حياتها ووفاتها ما هو مؤثر، ما يستحق الكتابة في حياة كائن من روح ودم، كائن” أنثوي”، حيث يعلم المعني بحقيقة عبارة كهذه، ماذا تعني ” أنثى” تتعرض لحالة مداهمة، مباغتة، في غفل من الحواس المركزة، وتعيش ألم اللحظة تلك عقوداً من السنين، ويمثُل مشهد الحرق الجسمي أمامها، في داخلها، ليل نهار، وتعيش الألم هذا في صمت؟ يا لها من رواية عائلية مؤلمة بحق !!
كيف لهذا الكائن الحي، الموفور السلامة الحسية والقوى العقلية، تلك التي كانت في خفة الفراشة تنقلات بين أمكنة متجاورة في بيتها، وتحلّق بروحها صحبة هواء يمضي بها إلى جهات شتى، أن يعيش انعطاف حياة مغايرة” بزاوية كاملة ” دون إرادة منها، أو أهلها ” يا لخطأ حسابي بسيط، مجرد غفلة وامضة، يغيّر كلياً في حياة أي منا، هنا وهناك! “، وتنظر في أفق بعيد، كما ترى من حولها وهي تتنقل برجليها السليمتين، وجسمها المفعم بالنشاط والفضول لمعرفة كل ما في محيطها، وهي تمد إليه يدها لتقيم معه علاقة طفلية بريئة، ثم تؤكد وجودها، ويمضي بها ما ليس في الحسبان، نصف كائن، عاجزة عن المشي، أي مقعدة، برجلين معطوبتين رغم وجودهما؟!
ما يستحق الذكر هنا، هو المعطوف على الجسم الذي لا يستسلم للحياة سلبياً، ما يجري الحديث عنه جهة المتعرض لإصابة معينة، وكيفية التعويض ” أي بصدد أصحاب الاحتياجات الخاصة، وليس ذوي العاهات طبعاً ” حيث اللجوء إلى قوى أخرى تمثّل رفعاً من شأن الجسم وشخصيته، وتلفت النظر بمقدرة لافتة .
كان هذا الحرق بمثابة تنبيه قوى نفسية أخرى في حياة عائشة: عَيشى – عيشتا، بالدارج كردياً ” وهي تهتم بجسمها، بمظهرها، وتقاوم هذه ” العلة ” العضوية الطارئة عليها، وتمتلك من قوة الحس والحديث ما يعجز عن إبرازه آخرون ممن يتميزون بسلامة الجسم والحواس .
كانت تحاول القيام بكل ما تجد نفسه قادرة على فعله في أمور البيت: ترتيباً منحه حيوية .
كانت ملَكة الخيال التي وهِبتها، تبز بها كثيرات ممن في عمرها واكثر. وهي تسترسل في الكلام، وتناقش، وتحلل، وتؤانس، وتشارك في أحاديث شتى، وتبهج زائرتها أو زائراتها، أو زوار بيتها صحبة أهلها ” بيت أخيها الأكبر الذي ودعه الحياة قبل كل سنوات، لتصبح محل اهتمام ورعاية أبناء وبنات أخيها وزوجته وغيرهم.
كان الناظر أو المستمع إليها، وهي جالسة، وهي تتحمس للحديث بوجه بسيم، وقدرة لافتة على الكلام، دون إساءة إلى من حولها، كما لو أنها خضعت لأكثر من دورة في إدارة أحاديث كهذه وإضفاء الطرافة عليها .
لا أستطيع الزعم أنها لم تكن حزينة، وتعيش حِداداً على نصف جسمها المطوب: عزاء نفسياً في روحها، وتعيش ألمها في صمت، حين تكون بمفردها، أو ترى الآخرين من حولها عائلياً، وتكون مع نفسها في الليل، أو أوقات نهارية وغيرها، لا أستطيع الزعم أنها كانت تتكلم، كانت تتناول الطعام، وتتابع ما يجري في الخارج عبر وسائل مختلفة، كما لو أنها عائشة التي ولدت ، وعاشت سنوات وهي بكامل عافيتها وسلامتها الجسمية.. هذا غير ممكن. ما أستطيع قوله، هو أن عائشة هذه، عائشة التي أحبها المحيطون بها، لا بد أنها رحلت شهيدة تلك اللحظة غير المحسوبة، وقد صار لحياتها معنى آخر، ودخلت في سياق حياتي، نفسي، وعقلي واجتماعي وأهلي آخر، وأنها بإرادة مدهشة منها، كانت تظهر للخارج أن الحياة التي تعيشها، تتطلب منها أن تعيشها كما يليق بها، لها شخصيتها، وهي معتدة بنفسها، ومن حقها ذلك، وقد أجادت كثيراً في إبراز هذا القوام النفسي، فثمة أكثر من طريقة للحياة.
سيتذكر الكثيرون هذه الشهيدة، كما أسمّيها: عائشة، ويترحمون عليها، وسيكون الفراغ الذي تركه رحيلها الأبدي، ربما لزمن طويل شاهداً على أنها أحبت الحياة وأحبها أهل الحياة، حتى ودّعت الحياة برصيد حياتي مقدَّر..
بوركت حياتك يا عائشة، لتكوني فردوسية يا عائشة، كما هو التمني لأهليك ممن رحلوا، ولتشملك الرحمة حيث يكون مقامك الأبدي، وعزاؤنا العائلي لأهلك كباراً وصغاراً، والذين شملوك برعايتهم ومحبتهم كذلك .