تجنيس الزمان في إمارة بوتان.. قراءة في كتاب: إمارة بوتان في عهد الأمير «بدرخان» دراسة تاريخية- سياسية، 1835-1847 « للبروفيسور الدكتور صلاح محمد سليم محمود » حلقة 3 ، وأخيرة


إبراهيم محمود
في مشغل البحث التاريخي
يحاول الباحث أن يستنطق اقتباساته، والجمع فيها بينها، إلى جانب إحالاته المرجعية، وهي على مستويات مختلفة، وذلك مسافةً من موضوعه الرئيس: بيضة قبّانه” الأمير الكردي بدرخان” وأن يمنحها حضوراً ثلاثي الأبعاد وبثقلها الاجتماعي والسياسي النوعي، لتقول كلمتها، وهي المنتظرة في صفحات تترى، في متونها وهوامشها معاً وذلك التداخل فيما بينها، لتُسمِع صوتها المقدَّر لقارئه أو الساعي إلى معرفة ما يريد نقله مما يتخيله ويتفكره ويتدبره، في تأريخه للحدث البوتاني المعلوم بمساحته الزمانية- المكانية، والأمير البوتاني ضمناً، بحمولته النفسية وفطنته السياسية: من قوى مختلفة بدورها، وهي المراهَن عليها.
يتكلم الباحث من وراء هذا الكم من المصادر بتنوع لغاتها، في محاولة إبعاد نفسه عن أي  تقويل، أو شبهة ” تواطؤ ” من موقع التماهي مع نموذجه البحثي، ودور الميل العاطفي، أو الثقافي، والاجتماعي والسياسي في ذلك، ولكي يحافظ في مجرى الكتابة على تلك المسافة التي تضمن له مثل هذا التقدير للآخر: قارئه، أو ناقده، ليكون موضوعه أكثر توازناً. تلك هي الخاصية الأكثر تعبيراً عن حضور أخلاقية الكتابة التاريخية في فضاء البحث، وبدءاً من المقدمة، أو التقديم، ثمة تلمُّس لمثل هذا الإجراء. هناك الجماعي في الفردي، وفي الفردي ما يتجاوزه كذات قائمة بنفسها، عبْر التاريخي الذي يتعدى بمنْطقه البحثي تلك المساحة الجغرافية المسماة” إمارة بوتان ” وأدوارها المرفقة أو الكامنة فيها داخلاً وخارجاً طبعاً، عدا عن وجود مؤثر ثقافي في أصل العمل هذا، وهو أنه بحث أكاديمي ” أطروحة جامعية ” وهي في بنيتها، تترجم كمّاً من العلاقات الجانبية المعلومة، ونوعية تفاعلاتها الفكرية والمنهجية ومراميها بين المشرف والطالب، والأكثر من ذلك- ربما- ما ينوّه إليه، ومن باب اللزوم التاريخي وطبيعة المناخ الجامعي، جهة تعليمات قائمة بحدودها القيمية، أي تلك المؤثرات المؤسساتية القائمة والمرصودة، والمعمول بها هنا وهناك، ومدى تأثيرها في توجهات ومستوى الجدّية ومآلها البحثي، وحضور الشخصية الباحثة الفعلي فيها.
كل ذلك يؤخَذ في الحسبان، وبخاصية الزمانية، وهي مثقلة بمتغيرات المجتمع والجوار.
ربما استرسلتُ في مثل هذه النقطة، إنما، وكتقدير فكري أو ثقافي، وجدتُني ملزَماً بذلك، إعلاء من أهمية بحث كهذا، وهو في موقعه، وبينه وبين سمت عمله الحي، قرابة قرنين من الزمان، لكن المسافة المكانية بمأثرتها الفكرية والنفسية واستقصاءاتها الميدانية والجانبية بالمقابل، دون ذلك، ناحية المبتغى منه طبعاً.
 
وهو ما يمكن التوقف عنده ، مما يدخل شخصية الأمير في نطاق العوامل المساعدة على حلوله أميراً بالعلامات الفارقة لاسمه ومسماه، وهي شخصية بداية.
ذلك يسهّل مهمة الكتابة لدي أيضاً، في مفهوم ” تجنيس الزمان ” وأي نوع منه يتفعل هنا.
الحراك الزماني- المكاني معزّز في أصل البحث، عندما يشير إلى أن ( ظهور الأمير ” بدرخان ” في بنية الحدث في بوتان لم يبرز فجأة، إنما ربما هناك أسباب كثيرة ساعدته ليصبح حاكماً للإمارة)، وهذا يتوازى مع تلك ( الخصال المتعلقة بشخصيته، ليصبح حاكماً من الدرجة الأولى..ص53 ).
عبر هذه المقومات الزمانية، والمناقب المسماة في شخص الأمير، يبني الباحث فكرته، ويطرحها خارجاً، وما يقوله يفصح عن ذلك، حيث إن (المؤرخ ليس هو الذي يجعل الناس يتكلمون عن الزمن الماضي ولكنه هو ذلك الذي يتركهم يتكلمون. عندها فإن الوثيقة تحيل إلى الأثر، والأثر إلى الحدث .) ” 27 “
طبعاً حتى الوثيقة لا تُترَك لحظة سماع شهادتها، إنما تقوّم في ضوء ” صاحبها ” ومجال عملها، والمراد استيفاؤه منها حساباً جارياً باسم السلطة المالكة لها ضمناً.
ولقد تابعنا معه سابقاً، نوعية مسلكه البحثي، وكيفية رصده لأحداثه زمانه ذاك، والحراك المكاني ضمناً، من ذلك شمائل الشخصية التي تقربه مما هو كردستاني كما يقول:
-مساعيه الاجتماعية المستمرة.
-تأليف قوة كردية تابعة لسلطته.
-شخصيته القيادية والعسكرية ” ب . ك. ص54 “
وهناك ضعف الدولة العثمانية ، والتي شهدت تغيرات في الدولة هذه، وهي عسكرية وسياسية وإدارية، كانت عنصراً مساعداً على تولّيه حكم الإمارة “ب. ك. ص55 “
ليس من حاجة، كما أرى، لأخذ اقتباسات داعمة لمثل هذه النقاط، فهي موجودة في متن الكتاب، وتلك الهوامش الساندة والشارحة لها كذلك.
وهناك التنظيم السياسي في كوردستان، ويتمثل في ذلك التقسيم السياسي في بداية القرن التاسع عشر، وعلى صعيد زعامة كردستانية، بين الإمارات الكردية( أردلان، بابان، بادينان، سوران، بوتان وهكاري ) حيث حدودها كانت تتغير، وجرّاء الصراعات فيما بينها ” ب. ك. ص57).
وثمة متابعة تنويرية لمثل هذه النقاط بالمقابل، تفصح عن خلفية ما كان تاريخياً وسياسياً.
مثل هذا المسطور لا ينفصل عن ” نبض القلب ” الاجتماعي الذي يعمل بسرعات متباينة في الجسد التاريخي والسياسي راهناً، إن ما يشغلنا ماضياً، هو ما له أصول حاضراً، أو بالعكس، ما يشغلنا حاضراً، ما يمد بجذوره في ماض معين، وبناء عليه تجد الأسئلة نفسها مطروحة بأشكالها، ألوانها، أحجامها، كماً وكيفياً تعبيراً عن هاجس معرفي وغيره، حيث الصراعات باختلاف مضامينها، وتمثيلاتها الاجتماعية، السياسية والشخصية مستمرة.
قوانين الواقع وثبْت الواقع
ثمة عبارة لها مغزاها قالها ميشيل فوكو وهو  أن ( القوانين وسائل لخدمة المصالح ) ” 28 “، في بنية العلاقات التي تتشكل المجتمعات تبعاً لها، وتنبني مؤسساتها، وتعرَف بها تلك، يكون لصدور القوانين، بتعابيرها الدستورية والقضائية والجنسية والنوعية استجابة لمقدرات القوة واقعاً، فالقوانين تتكلم جهاتها السياسية، والجانبية والشخصية، وليس من قانون بمجرد، إنما يكون لحم القانون اجتماعياً وسياسياً، وربما كان الحاكم في البلاد هو الذي يمنحه جسداً بقوام معين، أو يخضعه لحياة وموت تبعاً لطبيعة نظامه، وموقعه في المجتمع، ونظرته إلى من حوله، وبرنامج العمل السياسي لديه على مستوى ” دولته “
ذلك يسهّل النظر في تلك الإجراءات القائمة، والتي تصدم أحياناً من يتعرف عليها، بما فيها من عنف، أو ما فيها من دلالة عن العنف الصادم، ومدى بؤس الأخلاق فيها، وربط كل ذلك بسيرورة الحياة وصيروتها، يترجم حركية الزمان بمفهومه التاريخي والسياسي. 
حتى على مستوى كتابة نص ما، وفي المجال التاريخي حال الباحث هنا، حين يجد نفسه في موقع سلطة تعنيه، وليس من سلطة بمتنحاة عن عناصر قوة، أو افتتان بفكرة دون أخرى، أو تفضيل عنصر على سواه، أو الاستجابة لرغبة نفسية تستهويه، أو إقصاء مصدر دون آخر، أو تفعيل أثر هذا المصدر بطريقة تأليفية خاصة به، والنص في أصله كيان مجتمعي، ولكنه مقام في عالم المتخيل والفكر بالذات، والصراع لا يخفى هنا.
ربما هو الممكن تبينه في قول تودوروف(إن عمل المؤرخ، شأنه كأي عمل حول الماضي، لا ينحصر فقط بإثبات الوقائع، بل أيضاً باختيار الأبرز منها والتي لها مدلول، ثم بإنشاء الصلة بينها..) ” 29 “.
مجرد تهجئة ” العمل ” كقول، كفكرة، كمفهوم، يستدعي مؤثرات صراعية، أشبه ما تكون بفاعل قانوني مرفوع الشأن، فدونه يصعب السير بالعمل وتأكيد نتيجة في المحصل,
إن العنف المشار إليه، يبرز بنسَب متباينة، تبعاً لواقعه، وما يراهَن عليه، ويظهر أن أمير بوتان، وكما يتعقب الباحث خيوط تاريخه ومهبط السياسي في فكره، لديه خيارات من هذا النمط المتوارث تاريخياً، تقليداً لا غنى عنه، بتطبيقات تتناسب والمراد منها.
في النطاق الكردي، ثمة ما يبعث على الألم، جهة تفكك قوامه الجغرافي، وتباينات قواه.
حين يقول أكرم جميل باشا، في مذكراته(وإذا استثنينا نحو عشرة من العلماء المحترمين أمثال خواجه حمدي أفندي وخواجه كومرجي، كان هناك مئات الملالي في زي العلماء والمشايخ اللصوص والملعونين والخائنين) ” 30 : وهي شهادته على بني قومه، لم يقلها تمتعاً سادياً، وإنما للتعبير عن وجع روحي، وسخط على الجاري، ولفشل المتوخى قومياً بالمقابل.
ما يفصح عنه جليلي جليل عما كان سائداً من قيم وقتذاك، يمنح القول السالف حضوراً قيمياً أكثر:
(إن البنية الاجتماعية للسكان الأكراد في الامبراطورية العثمانية وخارج حدودها كانت تتسم بحفاظها على رواسب العلاقات العشائرية والتي لم تنحصر فقط في السكان الرحل وشبه الرحل فحسب، والسكان الحضر وفي مناطق محددة أيضاً وبالتالي فإن مصطلح ” عشيرة ” يجب فهمه هنا بمعنى أكثر شمولاً.) ” 31 “
تُرى، هل اختفت هذه البنية، أم أنها تمارس أدواراً مستجدة لها عدا عن تلك الأدوار التليدة لها والفاعلة في استمرارية التفكك؟
حتى على مستوى البدرخانيين، شأنهم في ذلك شأن أي عائلة كردية من أصغرها إلى أكبرها، وليس العكس، ليسهل النظر في طبيعة العلاقات التي ترسم حدود التعامل بين فرد وآخر، نجد مثل هذا التنوع في الصراعات، أو التفكك  في صيغ شتى:
(البدرخانيون حالة تنوع واختلاف: ففي الوقت الذي يمكن الحديث عن الجهود السياسية  والدبلوماسية التي بذلها عبدالرزاق وكامل بدرخان في كردستان الشرقية ” كردستان إيران ” وأرمينية وجورجيا وروسيا وانتهاء بما بذله ثريا بدرخان في مصر وغيره من البدرخانيين في استانبول وأخيراً في سورية إنما هي المساعي والجهود المشكورة التي يعرفها كل من له أدنى صلة بالحركة القومية الكردية في رأس القرن الذي نعيشه، هذا ومن جهة أخرى فإن ثمة من المنتمين إلى هذه الأسرة ممن اتفقوا مع حكام الدولة العثمانية والجمهورية التركية، وأنهم فيما كان يغتصب كل نوع من الحقوق القومية لشعبهم إذا بهم يتعاونون مع أولئك الغاصبين، ولعل المدعو واصف جنار الذي تصدر منصب وزارة التربية والتعليم العام 1924 و1929 في الجمهورية التركية، أصدق مثال على ما نقول.) ” 32 ” 
وما يأتي الباحث نفسه على ذكره، يعزز مثل هذه الدينامية في العنف المذكور: العائلي منه، والاجتماعي، فالسياسي وخلافه:
(إن الخلافات الأسرية التي سبقت تولي الأمير بدرخان، تمثلت بانتزاع ابن عمه الأمير سيف الدين الحكم من أبيه عبدال، وبمساعدة الدولة العثمانية، بعد مذبحة مروعة نجا منها بدرخان الطفل باختفائه في الجبال القريبة من شرناخ..ب. ع. ص 47) .
ليس من استثناء لهذا العنف، أو الصراع حتى كتابة هذه العبارة، وهو يمثل الفيروس الأكثر تخويفاً وتهديداً للجسد الكردستاني الطابع، بالنسبة إلى كل من السياسي حين يجد نفسه في مواجهة هذا السيل الجارف، وخزّان المكبوتات النفسية، والذاكرة المنقسمة على نفسها بنسبها القبلي والطائفي ومسالكها الاجتماعية والسياسية، والتمثيلات الفكرية والثقافية التي نعيشها هنا وهناك.
في ضوء ذلك يظهر أن الباحث ” أن نقول يبدو؟” في حله البحثي وترحاله التخيلي والفكري، واضع نصب عينيه مثل هذا ” الفيروس ” الذي لا أحد يتمناه في مجتمعه، جرّاء خطورته القاعدية ومخاطره المهلكة، لكن التمني غير الجاري، حتى بالنسبة إليه وهو يجد نفسه جرّاء تربية قائمة، أو توجه ثقافي ضاغط، أو سلوكيات اجتماعية وسياسية سلطوية الطابع وموقع الفرد في مجتمع المدار بناء على قاعدة تعامل شاملة مما تقدم، يصعب عليه أن يُسمي كل ما أمكنه النظر فيه والتفكير انطلاقاً منه ، لنشهد نشاطاً للعنف، على وقع هذه القرابة غير المرغوبة ولكنها المعتمَدة والمرصودة بالمقابل، حيث يكون تبرير لعنف دون آخر، استناداً إلى واقع كان، لا ينفصل في الكثير من أنماط تفكيره وعلاقاته عما هو قائم. دون ذلك كيف يعايَن الأمير في ” مجلس ” الباحث؟
منعطف التاريخ الشخصي
في شخصية بدرخان كان الانعطاف التاريخي الذي يشد إليه انعطافاً  تالياً يضفي عليه حضوراً كاريزمياً  في مسار تاريخه ، بصفته الشخص المنتظر ليحيل الذاكرة الكردية لديه بأوجاعها ومآسيها وحسراتها النفسية، إلى تاريخ قائم يتكلم بصوت مرتفع، تعبيراً عن شعور بولادة كينونة قومية هنا( استلم الأمير بدرخان حكم إمارة بوتان سنة ( 1835 )، وانطلاقاً من الحس القومي والاستقلال الكردستاني من السلطة العثمانية، كان عهد حكمه في تاريخ بوتان عهداً جديداً. ب.ك. ص 69 ).
ذلك ما نتعرف عليه من خلال متتاليات القوة الصاعدة باسمه كردستانياً، وليس كردياً، كما هو ملاحَظ في بنية الكتابة:
جهة الحكم الذي استقام على تثبيت عناصر إيجابية فاعلة واستبعاد غير الصالحة، وبنا ء مشروع سياسي يستجيل لمستجدات المجتمع المنشود كردياً، وأن تكون الحكومة كردية، بحدودها الواسعة ” ب. ك. ص71″.
وهكذا الحال في التنظيم السياسي، والذي يشدد عليه الباحث، ولا يخفي ” سعادة ” فكرية لديه، تعبيراً عن إحالة نفسية لها صلة بواقعه، وبتاريخه، وانطلاقاً من دوره المتمثل في قول ما يراه جديراً بتسميته من خلاله كفرد فاعل وحريص عليه، فالخطوة المهمة المجسدة في التنظيم السياسي لحكم الأمير في ضمان وحدة الإمارة  واتحادها ” اتحاد ميمون في بعض المصادر”، وهذه نقطة البداية كما يتبين من مسلك الأمير السياسي صوب الأهم وهو حلم يستمر إلى اليوم، إن نظِر في بنية القول( استقلالية إمارة بوتان وكردستان عن سياسة العثمانيين . ب. ك. ص72) . 
ذلك ما نقرأه بوضوح مواز وأكثر في مكان آخر(كانت توجهات الأمير بدرخان وأعماله السياسية والسكرية والاجتماعية والاقتصادية دليل واضح على  رغبة الأمير في سعيه لإيجاد كيان كردي مستقل، كما عبَّر غي عدة مناسبات عن طموحه السياسي، ولا سيما عندما كان يستقبل ممثلي الحكومات الأجنبية والرحالة المارين بأراضي إمارته..) “33 ” 
هل نستطيع القول أن لدى الباحث، وفي واعيته بالذات، الكثير مما يريد قوله، من خلال موضوعه، بما أن هناك فرصة مواتية لتسميته زماناً ومكاناً؟ هل من قول، وفي مضمار كهذا، يتموقع دون وجود مبرر زماني ومكاني، دون شرعنة تثبيت، في حدود الواقع الاجتماعي والسياسي والتاريخي في الصميم الذي يعيشه أي منا، وليس الباحث استثناء هنا؟
هذا الإقبال على التاريخ، وتحري كل صغيرة وكبيرة منه وفيه، في الجامعات الكردية في إقليم كردستان العراق، وعبْر مئات مؤلفة من الكتب والدراسات والمقالات والأنشطة المرافقة والمتاخمة بمحتوياتها ألا يستجيب لمثل هذا العطش الروحي بطابعه الجماعي، وليس السياسي وحده، وفي الوقت الذي يشعر الكاتب” الباحث ” عنه، ومن خلال وعيه الواسع نطاق رؤية، أن ثمة واجباً معرفياً يصله بمجتمعه، ويقول فيه قوله، تأكيداً لسلطة رمزية، أو ” رأسمال رمزي ” يلفت النظر إلى مكانته، وفيما يعرفه طبعاً. 
معابر تنوير
في تناوله لموضوع البدرخانيين نجد أنفسنا إزاء تفكير من نوع ملحمي في ذاكرة الباحث، وكما هو مسطور في أعمال مختلفة له، كما سبق القول، والتنويع في العناوين، مجرد أفراد تاريخيين ينتمون إلى العائلة الاجتماعية، السياسية والثقافية عينها، وما في كل متابعة من تعميق لخطوط الاتصال بمجتمع القول الحي” مجتمع البحث التاريخي “، حيث إن الحديث عن الإمارة لا ينفصل عن الحديث عما هو داخلي، وهو يمور بأنشطة تترجم أسلوبها في الحياة وتعاطيها مع الأحداث، وتلقيها للمؤثرات، وردود أفعالها تجاه التحديات المختلفة.
وفي الصدارة، ما يمكن إخراجه من خاصية المجهول إلى المعلوم، من خلال مفهوم” الأسرة ” ونصابها من القيم الخاصة بها ومقام فعلها المجتمعي والسياسي، ولتأتي عبارة ” الأسرة البدرخانية ” من هذا المنطلق، وكما هو مطروح اسمها لدى غيره” مالميسانج في الواجهة ” في تلك التفاصيل العائلية الدقيقة، بغض النظر عن حقيقة المرسوم فيها، ولكنها توفّر على الباحث الكثير من الجهد، في تلك المرجعية التي تمثل موسوعة عائلية مصغرة.
ولم يدخر جليلي جليل جهد في عمل له في هذا الشأن جهة التلحيم بين السياسي والاجتماعي، بين هذين والثقافي، بين الأخير والأخلاقي على مستوى الواجب الروحي والذي يبقينا على تناظر وتفاعل مع مجريات الحياة في المجتمع، وحقيقة دورنا فيه، وما لتلك الجمعيات الكردية من دور في تنشيط مثل هذه الروح الكردية وتشعباتها ” 34 “.
والذي يقرأ علاقات إمارة بوتان بجوارها والباب العالي، يتعرف على تلك الخطوط العريضة لسياسة الإمارة وفي شخص الأمير بوتان، ويحسن الرجوع إليها ” ب. ك. صص 87-95 ” اختصاراً للمساحة في الكتابة، وفي القول، أي تجنباً للاستطراد، فما يهم في هذا النوع من الحوار مع التاريخ، في نوعه، في منبعه ومصبه البحثيين، هو ، كما أشرت، تبعاً لأي ميزان ” حرارة ” تاريخي وسياسي، اختبر ” صحة ” الأمير بوتان في إمارته، وما إذا كان ضبطه لهذه ” الحرارة ” بميزانه البحثي مشجعاً على المتابعة ، وتعميق المتردد هنا؟
ماالذي تجنب الخوض في غماره، وهو ينتمي إلى خريطته البحثية في الإمارة عينها، وفي سلوك الأمير نفسه، جهة علاقاته داخلاً وخارجاً، مع الديموغرافيا البشرية لإمارته، والقيم المعمولة من لدنه، ومتابعته لأنشطة قائمة، وتلك التي استحدثها هو ومآلها التاريخي؟ حيث سعى الباحث قدر المستطاع إلى تقديم صورة نموذجية للأمير من خلال مجموعة إحداثيات تضاء بها إمارة بوتان، وتتعدى في مآثرها السياسية والاجتماعية والشخصية حدودها، وحيث أن أصداءها تتفاعل إلى اليوم، كما هو الملموس في بحثه، وفي الحديث عن أي نموذج، وكونه لا يخفي متعة الارتباط، والافتتان، بنسب معينة، ومتفاوتة، بمحور البحث، وما يترتب على ذلك من تباين في العلاقات النصية، والخيارات المرجعية وتقويمها، وهي علامة فارقة لا تنحصر في عمل الباحث، وإنما سواه، وما في ذلك من صعوبة الرهان.
ختام اللاختام للكتاب
سأتوقف عند القسم، أو الفصل الثالث للكتاب والمتمحور حول ” نهاية إمارة بوتان “.
لن أدخل في التفاصيل، فهي في بطون الكثير من الكتب والدراسات والمقالات ذات الصلة، المقصد هو في حقيقة نهاية الإمارة، ومصير الأمير الكردي” الكردستاني ” إن تجاوبنا مع منطق البحث الموسوم، وما يمكن قوله في خلفية علاقته بالباب العالي نفسه، وما قيل ويقال عن طبيعة تعامل السلطان العثماني معه، وفي حربه عليه، وأسره وتبعات ذلك.
ذلك يدخلنا في سياج زمن آخر ” أقول: سياج، لما للكلمة من معْلم حدودي قائم، ومن فضول معرفي يحفّز على السؤال عن حقيقة صنعه أو بنائه ومغزاه واقعا؟ إنه الزمن الذي خرج منه الأمير، ولكنه خروج إجرائي، فقد استمر، ولازال قائماً برمزيته هنا، ولا أظنه بجار ٍ في تحديد خط نهاية له، ووضعه جانباً، إذ لا شيء يقرَّر مصيره كلياً هكذا.
أشير إلى جملة تحديات، متوقعة، في ضوء ما سطِر في الكتاب، وما هو مسطور قبله في كتب أخرى، عن نهاية معينة، لحكم الإمارة، منها: الصراعات بين الإمارات الكردية، وداخل الإمارة الواحدة، كما نوّه إلى ذلك كثيراً، وهنا بيت القصيد، الكردي النشأة، والمعاناة الكبرى التي يعيشها الكردي في تاريخهم الطويل، وتجاه شخصية الحاكم بالذات، ومدى انفتاحه على الخارج، ومعايشة تلك المتغيرات، وسعيه إلى هضمها والاستفادة منها، إلى حاضرنا نفسه، حيث الأسماء تختلف، وكذلك المواقع، ولكن الأدوار تتكرر، والتحدي الآخر مسجّل في ذمة القوى المؤثرة والفاعلة على نطاق كوكبي، أو دولي، وإلى الآن، كما كان ذلك في عهد الأمير البوتاني، مع الانكليز، الفرنسيين الروس، بصورة خاصة، ولا أكثر من الإشارة إلى أدوار هذه القوى وأساليب تدخلها وتقسيمها لكردستان بالذات ” 35 “
والتحدي الثالث، والمهم جداً، مع السلطة العثمانية، وطبيعة صلاتها بالكرد في إماراتهم، وماالذي دفعها لأن تقبل على وضع حد لها، فيصبح تاريخ الإمارات الكردية في ” خبر كان ” وليس من ضمان أو وعد مسمى يستوجب الانتظار لعودتها أو نظيرها ، لتغير الزمان، وحتى المكان، من اعتبارات سياسية، على مستوى دولي، سارية المفعول إلى الآن، ويظهر أنها ستظل هكذا إلى أجل غير مسمى في ضوء العلاقات القائمة والسائدة دولياً.
ثمة إمكان الحديث عن الضحايا الدسمة والقادرة على تمثيل دور قرباني يغطي مساحة جغرافية واسعة، وزماناً مفتوحاً، بما يتناسب وجملة القوى الداخلة في شراكة مصالحية، فكانت كردستان، وبدءاً من اتفاقية ” سايكس- بيكو” هي الضحية الأصلح لذلك.
العثمانيون بقوتهم كدولة إمبراطورية، وتعاون الدول الكبرى في المنطقة، والتنابذ بين أمراء الكرد في المنطقة، وذلك الصراع الديني والمذهبي والاثني كذلك، وما هو مأثور في التاريخ الكردي” الخيانات العائلية ” التي  تستمر هنا وهناك، وهي في بنيتها تعبير عن صراعات على أمكنة نفوذ، ومصالح شخصية وصلتها بما هو اجتماعي( كردياً، كيف يسخر أحدهم مصلحته الشخصية في خدمة ما هو اجتماعي وقومي، أو بالعكس. لا شيء يخرج عن نطاق معادلة: إما- أو، هذه )، لحظة الحديث عن” يزدان شير . ب. ك. ص 125 “ودوره في استعجال سقوط الإمارة وهزيمة قريبه الأمير ” بدرخان “. كانت سنة ” 1847 ” نهاية الأمير السلطوية، إنما هل انتهى الأمير، بقتله مثلاً؟ كلا!
يتحدث الباحث عن كيفية التعامل مع الأمير، كما لو أنه لم يحارب الباب العالي، ولم يسم مبتغاه الكردستاني، في الفقرة التي تحمل اسم” نهاية الأمير بدرخان . ب. ك. ص128-129 “ونفيه إلى جزيرة ” كريت ” اليونانية ليبقى عقدين من الزمن هناك، دون أن يتخلى عن موقعه باعتباره أميراً ذا نفوذ، وحتى في ارتباطه بالدولة ” العلية “: العثمانية، في الصلح بين أطراف متنازعة في الجزيرة: بين المسلمين والمسيحيين، ومكافأته من قبل السلطان العثماني، وليُسمح له في أن يستقر في دمشق سنة ” 1866 ” ويموت ويدفن هناك في مقبرة الصالحة، سنة ” 1867 “.
ثمة أسطر عدة تختتم الكتاب قبل خلاصته، وهي في إشارة الباحث إلى أن الدولة العثمانية راقبت أبناءه وأحفاده حيث كان عددهم بلغ ” 90 ” شخصاً، ولم تسمح مرة لهم في أن يتجهوا إلى كردستان مرة أخرى ، إلى جانب أنهم أسهموا في الثورات والانتفاضات الكردية، إلى جانب أن الدولة العثمانية اعتمدت جملة إجراءات خاصة بصدد أفراد الأسرة البدرخانية، في مؤسسات حماية الدولة ” ب. ك. ص 129 “
يعني ذلك أن هناك إفساح في المجال لأن يطرح الباحث أكثر من سؤال حول طبيعة العلاقة بين نظرة الأمير بدرخان إلى نفسه، ووضعه بعد هزيمته، وهو في منفاه، دون أن يكون محكوماً بالملاحقة وطلب المقاضاة على تخوم الباب العالي، ونظرة الدولة بالذات إليه، حيث لم يتم القضاء عليه كلياً، كما شهدنا ذلك بصورة خاصة، بعد تحول الإمبراطورية إلى كيان سياسي قومي الطابع بعد الحرب العالمية الأولى، واعتماد القتل المباشر، أو إعدام الذين كانوا يتصدون لنظامها التتريكي، وبصورة جماعية، كما هو معلوم.
إن أقرب مثال إلى طبيعة التعامل مع الأمير بدرخان ، هو المتعلق بشخصية عبيدالله النهري الذي حارب  الدولة العثمانية، ولم يجر قتله، إنما جرى نفيه إلى الحجاز وتوفي هناك سنة  ” 1883 ” ” 35 “
كما قلت سابقاً، ما الذي يكن قوله في علاقة عدائية بين طرفين، وعلى مستوى الدولة، ويكون الختام بعيداً عن إراقة الدم، أو القتل المباشر، أو إنزال العقاب بصفته” عاصياً ” كما هو الممكن تبينه في تلك الوثائق العثمانية التي تشير إليه بألقاب نابية، والمسماة سابقاً؟
ماذا يمكن قوله في الفارق الزمني، بين حضور إمبراطوري ، وحضور دولتي تال عليه؟
أكانت السلطة العثمانية عاجزة عن قتله، كما الحال مع  التالي عليه، بأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، والمتأثر به، كما هو ممكن تأكيده: عبيدالله النهري، أم أن هناك أسباباً أخرى تستوجب النظر، وتصرّف الزمن في مأثرة قوته الاجتماعية والسياسية، كما يستحق قيمياً؟
يمكن النظر، من زاوية تاريخية، منية واسعة، إلى طبيعة علاقة الإمبراطورية هنا، بالذين كانوا يحكمون باسمها: أمراء من اثنيات مختلفة، وعبر أعمالهم وصلتهم بسلطتها. أي ما يشفع لهذا الأمير أو خلافه، في أن يحافَظ على حياته، من جهة، إشعاراً بأن له ماضياً يستحق أن يراعى، ويكون له اعتباره، فيعفى عنه، وإشهاراً لمقام الرمز الامبراطوري، جهة تسامحه المعلَن عنه، في بنية الحكْم على الأمير هنا، وربما توقع أنه ليس ذلك العدو المتربص به كلياً، وبالمرصاد، كما كان سلوكه في ” كريت “
ثمة مكاشفة أخرى تظهر الاختلاف الكبير، وعلى الصعد كافة بين سلوكية التعامل مع رعايا الامبراطورية، ونظيرها مع المنتمين إلى خاصية الدولة الحديثة أو المستحدثة، بصورة أدق، وعلى أحادية العنصر” التركي ” في تركيا.
كانت سعة الامبراطورية ووجود قوميات مختلفة في حاضنتها السياسية، إلى جانب المذاهب والأديان، وهي تشمل قارات ثلاثاً: آسيا، أفريقيا، وأورُبا، تسمح لها بتحركات أكثر، وقابلية مرونة للتعامل مع الثائرين عليها، واختيار أحكام مختلفة، وليس مجرد حكم واحد قتلاً، وبصور شتى، ومن واقع الامبراطورية ودعاية لها، وما في ذلك من إضفاء قيمة استثنائية ودعوية على دينها، وكسب الآخرين إلى جانبها، واعتبار السلطان في موقع الأب في موقعه وعلاقاته، وهو ما تجلى في علاقات تاريخية لها زمانها الوطيد مع الكرد حتى بعد سقوط الامبراطورية، من قبل ” أتاتورك” لا بل وإلى اليوم، مع مزاعم الرئيس التركي أردوغان بأن استمرار لذلك السلطان العثماني، أباً للجميع في المتن، وذلك الأسلوب الديني المنشأ في التعامل مع الكرد وخلافهم، وهو لا يدخر جهداً في حربه ضدهم..
في نطاق دولة سياسية وبالعنصر المعزز سلطوياً ونسبه القومي والمتمركز في الدولة لغة وثقافة ومؤسسات، تصبح المساحة أقل، وأسلوب التعامل يتطابق معها، وكذلك الحكْم.
الإمارة بين الرؤية والعبارة
ثمة عبارة تصوفية مأثورة، وهي( كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ) ” 37 “، ولها مغزى عميق، حيث إن الرؤية التي تتسع، تجد العبارة صعوبة في تمثيل نفسها، وتضطر إلى التدقيق في القائم أمامها، بحفّر عمودي، وصولاً إلى قاسم مشترك يصل ما بين مكونات الفكرة التي تشغل الذهن، شأن الامبراطورية العثمانية، التي صعبت الإحاطة بها مساحة، وبالتالي، النظر من الموقع الجغرافي ذاته. 
ماذا لو غيّرنا في بنيتها عكْساً( كلما ضاقت الرؤية اتسعت العبارة )؟ هذا يقرّبنا مما هو جغرافي وما يمكن رؤيته من بنية المساحة المكانية وزمانيتها كذلك. لحظة تمثيل الحدود السياسية لتركيا كدولة أحادية في نظامها القومي: التركي، حيث الرؤية تضيق تجاوباً مع المساحة التي انحصرت عما قبل، وعلى صعيد اجتماعي وسياسي كذلك، وهذا يستدعي وجوب اتساع العبارة من باب القدرة على هذا السعي، واشتمال القائم وتبيّنه أكثر، وتركيا في تاريخها السياسي مركزت سلطتها، واعتمدت عمليتين هما توأم نظامها: الصهر في بوتقة طورانيتها، واستئصال المغاير قومياً لها، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، إلى الآن.
في العودة إلى العلاقة القائمة بين الباب العالي والأمير بدرخان، يمكن مد النظر التاريخي أكثر، ومعاينة الزمن الذي لم يتوقف في حدود ساعة توقيف الأمير وأسره ورحيله الأبدي، لحظة تسمية اللعبة الاستراتيجية في تقويم السلطان العثماني للشخصية البوتانية وأفقها الزمني، وما يمكن أن يكون عليه غدها وغد التالين على السلطان في كيان سياسي آخر، جهة الكم اللافت من أفراد أسرته، وتنوعهم، وقد ظهر من بينهم، من هم أفراد خلَّص للعثمانيين وللنظام التركي نفسه، شأن آخرين من العائلات المعروفة ذات الماضي المعروف ، وهي التي تأتي على ذكرها الكتب المتوقف عليها بحثاً ومكاشفة تاريخ، أي في انقسام الذاكرة الجماعية” الأسرية ” حال البدرخانية فيه، وما يشكل حيرة لبعض الباحثين في كيفية التعرض لموضوع مركَّب، ومتعاكس البنى قيمياً في الداخل، ولآخرين سهولة في إطلاق حكم ما، ربما مبرم، أو توقيفه، في نقطة اعتبارية معينة، أو للبعض الثالث، إبقاء باب العلاقة مع واقعة كهذه مفتوحاً على مصراعيه.
وربما من المنطلق هذا، يمكن النظر في سلوك الأمير بدرخان، في علاقته التي لم يقطعها مع السلطان العثماني، حتى بعد أسره أو نفيه، وما في ذلك من تنازل ظاهري، إنما من جهة أخرى، من سعي إلى الحفاظ على أفراد عائلته، واعتماد استراتيجيا الغد، ليتمكن أفراد عائلته ممن عرِفوا بخلفياتهم الثقافية، السياسية، الاجتماعية من الاستمرار، ورفد ما هو كردي ” كردستاني ” إن تجاوبنا مع منطق البحث، والرغبة المترجمة للأمير، بما هو داعم له، وما يحفّز فيه طاقة الروح بمفهومها القومي بصورة أكبر وأكثر زخماً وأبقى تفاؤلاً.
لنكون في عهدة زمن، لم يعد محالاً شخصياً على أسماء المعنيين به، إنما الزمن الذي يحيل على ما كان، وبمدى مستدام، يحفر مجراه في التاريخ وربما في الجغرافيا الكردستانية، وأبعد منها كذلك في ضوء الانشغالات بما هو سياسي واجتماعي وثقافي  هنا وهناك. 
بقي أن أشدد على نقطة لها مداها الواسع في الدلالة، وتتمثل في أن خيار الباحث لموضوع كهذا، وهو يمضي به إلى جغرافيا كردستانية مقتطعة في ذمة ” تركيا ” ليس اعتباطاً، إنما، وكوجهة نظر، يترجم اعتباراً حياً وبصريح العبارة، بمركزية الدور التركي في العلاقة مع الكرد وكردستان، كما لو أنه يقول: إذا أردت أن تعرف التاريخ الكردي، وموقع الكرد في اللاموقع تاريخاً وجغرافيا مسجَّلين واقعاً باسمهم، فاعرف ما كان يجري في خريطة الامبراطورية العثمانية، ووليدتها المصغرة: تركيا، وتبعاتها في لعبة العلاقات الدولية.
” إمارة بدرخان ” لم تسقط رمزياً إذاً، والأمير الرمز ” بدرخان بك ” لم يمت بعد، كشخصية تاريخية كان لها زمانها الحيوي، ليصير لها زمانها المتشعب في التاريخ، كما هو حال هذا البحث الذي تمكنّا في حدود المستطاع، من تسطير هذه الكلمات. لا ختام للبحث!
واللعبة مستمرة، لعبة الزمان بساعاته وحالاته، ولعبة المكان بلاعبيه وأبعادها…!
ملاحظات عابرة، ولها قيمتها أيضاً
أشير بداية إلى اسم الباحث الذي قد يربك قارئه لحظة تناول كتابه وربطه بغيره، مثلاً في كتاب” إمارة بوتان…” كان ” صلاح محمد سليم محمود ” وكذلك ” تاريخ الكرد المعاصر ” و” دراسات حول تاريخ الكرد الحديث والمعاصر “، بينما في كتاب” الأسرة البدرخانية ” فكان” صلاح محمد سليم هروري ” وفي كتاب ” الأسرة البدرخانية .. ” الطبعة الكردية،كان” صلاح محمد سليم محمود هروري “.. وهذا يستدعي استفساراً.
إنما هناك ملاحظة تخص الاقتباسات، ويمكن الإشارة إلى بعضها، وهي تقوم على اختلاف المراجع والمصادر من كتاب إلى آخر، بخصوص النقطة البحثية عينها، ما يعني توفر المزيد منها، والشعور بحرية تحرك ومتابعة أكثر مرونة وأريحية، والإحالة على مرجع أو مصدر آخر، أكثر من سابقه، تقديراً منه أنه الأسلم، في مختلف عناوين البحث ضمناً، وذلك لحظة التذكير بتلك الصعوبات التي سماها الباحث في مقدمة كتابه ” إمارة بوطان ” على صعيد قلة الدراسات ذات العلاقة، والوعي بمفهوم الزمن الاجتماعيـ والنفسي، والرصيد الفكري والبحثي المتنامي لديه.. كلها نقاط ارتكاز معتبَرة .
وفي سياق مكاشفة حوارية، وبحثية، يظهر أن شرفة البحث التاريخي لدى الباحث تنفتح مع الزمن أكثر فأكثر على أفق المعرفة التاريخية وحيثياتها، ومعايشة الأقدر في البقاء دلالةً.
متابعة مصادر وإشارات
27- بول ريكور: الذاكرة، التاريخ، النسيان: ترجمة وتقديم وتعليق: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1، 2009 ، ص 276.
28- ميشيل فوكو: يجب الدفاع عن المجتمع ” دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس، لسنة 1976 “، ترجمة وتقديم وتعليق: د. الزواوي بغورة، دار الطليعة، بيروت،1، 2003 .، ص 120. 
29- تزفيتان تودوروف: الأمل والذاكرة ” خلاصة القرن العشرين “.. المصدر المذكور، ص 175 .
30- أكرم جميل باشا: مذكراتي،الترجمة من التركية إلى العربية: د. قدري الدياربكري، المراجعة اللغوية والتقديم: فدان آدم، بير، ديار بكر، ط3/ 2007 ، ص 27 .
31- جليلي جليل: من تاريخ الإمارات في الإمبراطورية العثمانية، دارالأهالي، دمشق، ط1، 1987،ص 18 .
32- مالميسانج: بدرخانيو جزيرة بوتان وحاضر اجتماعات الجمعية العائلية البدرخانية، المصدر المذكور، ص 8 .
33-ب. د. صلاح محمد سليم محمود: دراسات حول تاريخ الكرد الحديث والعاصر، المصدر المذكور، ص 176.
34-ثمة الكثير مما يمكن تبينه في كتاب جليلي جليل: نهضة الأكراد الثقافية والقومية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، نقله عن الروسية: بافي نازي- د.ولاتو- كدر، رابطة كاوا للثقافة الكردية- دار الكاتب، بيروت، ط1، 1986 ، حول وشائج القربى بين ما هو تاريخي، سياسي، اجتماعي، وثقافي وقومي في المتن، موسوم في كتابه، مثلاً فيما يخص صحيفة ” كردستان ” ودورها في هذا المقام ” ص 36 – 54 -86-88 ..إلخ ” وجانب الاهتمام بهذا الموضوع في كتاب” الأسرة البدرخانية” المصدر المذكور، المبحث الأول عن النشاط السياسي والثقافي لأبناء من هذه الأسرة ما بين عامي ” 1900-1908 ” ص 35، وما بعد…
35-ينظَر حول ذلك، اسماعيل بيشكجي: كردستان مستعمرة دولية، ترجمة: زهير عبدالملك، APEC،السويد، 1998،وفي تأكيد إقراره على التالي:
كردستان مستعمرة مشتركة. ص 26. ( أي ليست محكومة بدولة محددة “
وشهد تاريخ الكولونيانية نشوء نوعين رئيسين من المستعمرات: المستعمرات وأشباه المستعمرات. فالمستعمرات مجتمعات لم تكن قد بلغت بعد مرحلة تأسيس دولة مستقلة”  مثل الهند وسيلان وماليزيا وهندوراس والمغرب والجزائر…”،  أما أشباه المستعمرات فهي مجتمعات ذات دول، تأسست وفقاً لنظامها الاجتماعي ولها تاريخ طويل. فالصين والهند والإمبراطورية العثمانية تمثل أشباه مستعمرات. ص 16.
وما يوضح ذلك:  فالأكراد لم يقبلوا في أي مكان بصفتهم أكراداً، فهم أتراك في تركيا، وإيرانيون في إيران، وعرب في سورية…وعلى ذلك ، لم تستعمر كردستان، وإنما جرى تقسيم الأمة الكردية وكل ما يمت بصلة إلى الكرد وكردستان..ص17.
وهذا يحيلنا إلى أمر مهم، بطابعه الجنائي، لحظة معرفة أن قتلة شخص معين، هم كثر، فيصعب توقيفهم والمطالبة برد الدَّين، أو استرداد الحق، لأن دمه مهدور بينهم، فيصبح تأمين الحق صعباً، وبغياب القوة المواجهة لهذه القوى الموزعة بين أطراف الجناية لا يعود في الإمكان حتى تسمية القتيل بسهولة.
وليس التمثيل بالجثة التاريخية، وتجريدها من مرجعيتها الاثنية، ترجمة لهذا السلوك العنفي المباشر، وما يُعتمد من أساليب تفريغها من كل رصيد لغوي، وثقافي، وفولكلوري، والسعي إلى تشويه صورته، من أكثر السياسات عنصرية، وهمجية أبعاد، في التعامل مع الكردي في تركيا بالذات، وهو ما يأتي على ذكره بشكجي، في كتابه :  النظام في الأناضول الشرقية ” الأسس الاجتماعية- الاقتصادية والبنى القومية “، ترجمة: شكور مصطفى، دار آراس، أربيل،ط1، 2000، في الجزء الثاني منه:
( والتزوير للثقافة الكردية، كما في تحويل ” مم وزين ” إلى حكاية تركية، وبلسانم  أحمد فائق، سنة 1969، ومنع ظهور ترجمتها بالتركية من قبل محمد أمين بوز أرسلان سنة 1968. ص 276… وقد ورد في النص الشعري الملحمي كيف جاء رفض والد زين تزويجها من مم، أي باعتباره تركياً في الترجمة.ص 276…وصور كتاب الألفباء الكردية لبوز أرسلان.ص 277.. ..وفي جهات أخرى، في الجامعة” جامعة أتاتورك، عبر ملصق جداري برفض قبول الشيوعيين والكلاب، والكلاب يقصَد بهم: الكرد هنا..ثم رفِع الملصق تحت الضغط. ص 283.)..إلخ
36-ينظر للتوسع، ومن باب الربط، في كتاب وديع جويده السالف ذكره، الفصل الرابع ” شيخ عبيدالله نهري ” صص 195-252 ” وما يقوله في التمهيد لفصله هذا، عن الفراغ الذي خلفه سقوط إمارة ” بوتان ” في المنطقة، وعلى  الصعيد الكردي سياسياً( ومنذ استسلام بدرخان للعثمانيين عام 1847، كان غياب شخصية بارزة تجسد كل الأفكار المتعلقة بصفات الرجولة في مجتمع قبلي، أمراً غير طبيعي وغير مفهوم للكرد. ص 197)، وما يعزز مكانة شخصية كاريزمية تجمع بين الديني والقومي، وما في ذلك من خروج عما هو قطيعي في مفهومه العملي، أو الفعلي( جمع الشيخ عبيدالله في شخصه دور الزعيم القومي الذي كرس نفسه لمصلحة شعبه مع دور المسلم الورع المصمم على إعادة تأسيس النقاء الأصلي للإسلام في وطنه.. ص 198 )..
ويمكن النظر في مواقف مختلفة جهة هذا الزعيم الروحي- السياسي، في كتاب جرجيس فتح الله: مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيدالله النهري” دراسات عن الثورة لثلاثة باحثين “، دار آراس- أربيل،  الجمل- بيروت، ط1، 2012، والدراسة الأولى تخص مبحث وديع جويده ، آنف الذكر..
37-عبارة ذائعة الصيت، وقائلها أبرز علماء التصوف في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي: النفّري.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…