احمد عبدي / المانيا
“1”
توقف البولمان في المكان المخصص له بعد سفر دام أكثر من تسع ساعات متواصلة, تخللها استراحتان . عندها توجه ألينا المرافق قائلاً بابتسامة عريضة وهو يدرك ما عانيناه من التعب و الإرهاق أثناء السفر في ذلك اليوم الطويل :
ــ الحمد لله على سلامتكم .. تفضلوا بالنزول .
أدركتُ عندها بأن الرحلة قد انتهتْ ,وأن ساعة الفراق قد حلتْ .. يا أسفاه فهذه المــــرة الأولى التي لم أرغب بانتهـــــاء الرحلة رغم ما عانى الركاب من الإرهاق و طول المدة في ذلك اليوم, لملمت أغراضي المتناثرة التي كانت بحوزتي…. مجلة وقلم وكيس فيها حاجيات صغيرة, ثم ألتفتُ أليها وقد بدأ الركاب بالنزول قائلاً ما كان يجب أن أقوله منذ الصباح :
ــ نسيت أن أعرّفك بنفسي أنا أحمد عبد الخالق ..
ابتسمتْ…. وجاء الرد سريعاً :
ــ وأنا … نسرين ..
توقفت لبرهة.. التقتْ نظراتنا لأول مرة ومازالت الابتسامة على شفتيها :
ــ نسرين.. وكفى .
أعجبت لهذا التحفظ على أسم عائلتها وقلت متسماً بضحكة خفيفة :
ــ تشرفنا يا آنسة نسرين .. مع السلامة.
ــ مع السلامة .
ثم هممنا بالنزول كباقي الركاب وذهب كل منا إلى حيث يقصد .
********************
“2”
كان اللقاء محض صدفة .. وهي تجلس بالكرسي الذي بجانبي قبل أن يبدأ البولمان بالانطلاق , بينما لم يبدأ الحديث بيننا حتى أن قطعنا بعضاً من الطريق ..عندما بدأ المرافق بتوزيع الوجبة المخصصة علينا مع العصير قلت وأنا أناولها العلبة التي تحتوي الوجبة :
ــ تفضلي يا آنسة ..
ــ شكراً ..
ثم معلقا :ً
ــ لقد غمرونا اليوم بضيافتهم … أليس كذلك ..؟
ــ هذه الوجبة اعتادت الشركة على تقديمها لركابها منذ زمن ..
ــ أجل …أجل .
ــ أعتقد بأننا سنحتاجها في الاستراحة القادمة ..
ثم خيم بيننا صمت .. فالحديث يجب أن يتوقف ولو لبرهة كي يتحضر لجولة أخرى بعد قليل .
كنت أعلم ذلك ولكن أردت أن يكون هذا مدخلاً للحديث بيننا بعد تلك الفترة الطويلة من انطلاق البولمان منذ الصبــــــاح الباكر في ذلك الصيف الحار .
كانت تحمل بيدها دفتراً صغيراً وقلم, أخرجتها من حقيبتها منذ قليل . وبدا لي وهي تكتب بين الفينة والأخرى شيئاً مــــن الخواطر و الشعر, حيث أسعدني ذلك للغاية وأنا أرى من له ميول للكتابة أو للقراءة أو تدوين الشعر في هــذا الزمـــــــن الرديء, كنت أقرأ في مجلــة حملتها معي أثناء سفري وبين حين وآخر أسترق النظـــر إلى دفترها الصغـير دون التمعن فيهـــا فهو من خاصيتها ولا يحق لأحد معرفة ما تكتب . وكانت كلما مشينا قليلاً رفعتْ الستارة ونظــرت بعض الشـــيء عبر نافذة البولمان ثم عادت للكتابة فلعلها تستوحي أفكارها من المشاهد التي تمر بنا أثناء سيرنا نحو المدينـــــة القادمــة بعد حوالي ساعة مـــن الآن ..ثم حاولتْ مرة أخرى, وللحظة توقفتْ…… وأغلقتْ دفترها ثم ألتفتتْ قليـــلاً كأنها تعطيني فرصــة للتحدث , عند ذلك تشجعت بعض الشيء وسألتها برفق :
ــ رأيتك وأنت تكتبي في بعض الأحيان .. هل لك ميول للكتابة ..؟
ابتسمتْ بخجل وردتْ بهدوء :
ــ أحياناً … وما كنت أكتب هي مجرد ملاحظات وهوامش لا أكثر.
و استطردت قائلة :
ــ أكتب لنفسي فقط.
باستغراب سألتها ثانية :
ــ وكيف ذلك ..!؟
ــ أكتب ولكن ليس للنشر .. و أنما أحتفظ بها لنفسي .
ثم وهي تقلب صفحات دفترها الصغير وبعد أن أستقر رأيها على عمل من أعمالها قالت :
ــ ما رأيك أن أسمعك شيء مما كتبت .. هل أنت مستعد..؟
ــ بكل سرور .. تفضلي.
أسمعتني بلغة هادئة ورزينة محاولتها الأولى في الكتابة .. كانت محاولة رومانسية تميل إلى قصيدة شعر أو نثر بوصفها للطبيعة الخلابة ممزوجة بحب الأرض والوطن تعكس ما بداخلها من مشاعر زاهية .. وعندما انتهت من قراءتها صمتتْ قليلاً أو كما بدا لي بأنها مرتبكة ثم وهي تحاول معرفة رأيي سألت :
ــ ما رأيك ..هل أعجبتك ..!؟
كانت الخاطرة جميلة للغاية وأردت أن أعبر لها عن إعجابي دون أن تشعر بأنها مجاملــة مني أو أنني أمارس عليها دور الناقد الذي يختلق نقداً ولو غير واقعياً كي يبرز مواهبه أمام فتاة رقيقة مثلها, وتفهمتْ تماماً ما أربو أليه لذا شـــــــــعرتْ بالسرور, ثم راحتْ تتكلم عن الظروف التي كتبتْ فيها هذه الخاطرة وكيف بأن معلمتها طلبت ذات يوم أن تكتب كل من الطالبـات خاطرة ما , وكانت هذه…. وكيف أنها حصلت على الدرجة الأولى بينهن وبعدها راحت تكتب غيرها وغيرها ولكن لم تنشر أي منها ثم قالت والحسرة بادية على وجهها :
ــ عندما أنوي نشر ما اكتب سوف أنشر بأسم مستعار .
سألتها باستغراب :
ــ وهل لك كتابات جاهزة للنشر ..؟
ــ ليس الكثير .. مشكلتي أنني مطالعة سيئة ومخزوني الثقافي قليل بسبب ظروفي العائلية.
قلت محاولاً أن أؤكد ما قالته :
ــ أجل فالهدوء والسكينة عنصران مهمان للكاتب .
قاطعتني وهي تبتسم كأنها تسخر من فكرتي :
ــ عندما أود الكتابة لا يهمني .. حتى لو كان المكان صاخباً..!
شيء غريب …. وما قالته قبل قليل هي ظاهرة نادرة في عالم الكّتاب .. ثم بادرتها بابتسامة مماثلة ومــــددت يــدي إلى مجلتي ثم بحثت بين صفحاتها عن خبر قرأته منذ قليل مفاده : أن أديسون مخترع الكهرباء كان أصماً وعندما حاولوا أن يعيدوا له سمعه رفض بشدة وقال : لقد فكرت فوجدت أن الطرش نعمة لأنه يحمني من الضوضــــاء التي تتلف أعصابي ويساعدني على صفاء الذهن فانكب على عملي بصفاء وهدوء .
وعندما انتهيت من قراءتها تحولت ابتسامتها إلى ضحكة خفيفة وقالت :
ــ لكل رأيه .. وما قلته هو رأي صاحبه الشخصي .
وضحكتُ بدوري ……..
********************
“3”
بتوءدة وشيء من الحذر دخل قائد البولمان إلى الطريق الرئيسي الذي يؤدي إلى حيث نقصد وعندما استقام أمامـــــــــه الطريق قام المرافق ليشغل جهاز الفيديو كي يستأنف الفيلم الذي كنا نتابعه منذ أول الرحلة وشعرنا بشيء من الراحـة … ثم هيأنا أنفسنا لنعود إلى ما كنا عليه قبل الاستراحة فالذي كان يشاهد الفيلم راح يتابعه ومن كان يطالـع في جريــــــدة أو كتاب راح يكمل ما قرأه وهكذا .. ألا إنني وأنا أتظاهر بقراءة مجلتي كنت أفكر بالطريقة التي يمكن أن أسـتأنف الحديث مع جارتي دون أن أزعجها, وكنت حريصاً كل الحرص على ذلك, وفي نفس الموضوع السابق حول مواهبهــــا الأدبية وفجأة خطر ببالي أن أسألها بعد أن قطعنا ردحاً من الزمن كانت تشاهد التلفاز بغير شغف وكأنها تريد أن تقضي وقتهـــا المتبقي من الرحلة ثم أطبقت المجلة وبعد برهة :
ــ هل لنا أن تابع حديثنا يا آنسة نسرين ..!!
ــ بكل سرور . . عن ماذا كنا نتحدث ..؟
ــ عن كيفية الظروف الذي يمر به الكتٌاب ..؟
ــ وهل اعتبرتني كاتبة ..!
ــ ولم لا . . وأنت تكتبي الخاطرة بشكل جيد ..
ــ أجل ولا اخفي عليك فأنا أكتب الشعر والمقالات و أحياناً قصة قصيرة..
ــ آه .. أذن أنت متعددة المواهب …!
تشجعت أكثر وأكثر ثم راحت تسرد لي مضمون قصة كانت قد كتبتها منذ رمن ليس ببعيد … ومن أين استوحت فكرتها فقد كانت لا تقل جودة عن الخاطــرة التي قرأتها علي منذ قليل من حيث المضمون والفكرة وآلية السرد فرأيت بأن عليَ أن أبدي لها الإعجاب بتلك القصــــــة الجميلة فقلت مستدركاً :
ــ هذا جميل .. وأنك تؤكدي لي تواضعك التام فموهبتك لا يمكن لها أن تظل مخبأة إلى الآن ..
ثم وبشيء من المحاولة لأظهر مواهبها أكثر وأكثر فتحت المجلة على الصفحة التي كنت أقرأها قبل أن أبدأ معها الحديث وقلت لها :
ــ أنظري إلى هذه الكاتبة , كتبت يومياتها هنا وبشكل ممتع ومشوق للغاية .
مالت نحو المجلة وراحت تتأمل الصفحة بشيء من الفضول وقالت :
ــ أتأذن لي بقراءتها..
ــ بكل سرور..
أخذتْ المجلة من يدي.. وبدأتْ بقراءة المذكرات لفترة طويلة وشعرتُ بأنها قد اندمجت تماماً معها …..وأنقطع الحديث بيننا, كنت حريصاً على عدم مقاطعتها لقراءة اليوميات تلك, ثم ألهيت نفسي بمشاهدة التلفاز الذي أمامي حتى بدأنـــــــا نقترب من نهاية الرحلة , كان الوقت يدنو من الغروب وتذكرت لحظة ركوبنا البولمان لم أكن احمــــــــل سوى حقيبة صغيرة وضعتها بالقرب مني فيها كل حاجياتي وعندما جلست في مكاني سمعت صوتها الهادئ :
ــ صباح النور
أجابتني.. وهي ترد السلام الذي ألقيتها بحذر شديد :
ــ صباح الخير
عندهــا.. وبعد دقائق معدودة من تأكد المرافق بأن كل شيء أصبح على ما يرام , و بإشارة منه…
أنطلق البولمان …
انتهت الرحلة