إبراهيم اليوسف
في رثاء الجارة الطيبة!
في أول أيام رمضان، وردت إلى رفيقة الدرب أم أيهم مكالمة هاتفية، كانت على الطرف الآخر جارة عزيزة، من جيراننا الأعزاء في مدينة- قامشلي- الذين لم ينقطع تواصلنا معاً، منذ أن غادرنا قامشلو أو منذ أن حملنا معنا هذه المدينة في مجاري دمنا، كي تنظم دقات قلوبنا، وتضبط أنفاسنا. لا أعرف كم استغرقت المكالمة، إلا إن زوجتي توجهت نحوي وقالت:
أم رشاد تهديك السلام!
ابتهجت على الفور باستذكارها لنا-هكذا على نحو دائم- إذ إنه من المألوف أن تتصل أم رشاد على نحوخاص بأم أيهم، و تكون لي حصة قليلة من هذه المكالمة، أنى كنت في البيت، تذكرني ببعض مواقف المزاح الذي بيننا، إذ كنا نتبادل المزاح كما المزاح بين أم وولدها، فهي كما عدد من الجارات الأكثر قرباً من بيتنا، في زمن والدتي، ومن ثم في زمن زوجتي، كما جيراننا القدامى: كل باسمه وقدره. أعرف أن أم رشاد عانت من مشاكل في غضروف ركبتيها، ما دعاها تعرج قليلاً، قبل أن تضطر منذ سنوات إلى ملازمة السرير، يصلنا صوتها عبر الواتساب وهي تنشد يصوتها الجميل المؤثر- قصائد المتصوفة- أو تختارها لأم أيهم التي ترسل إليها، بالمثل، بعض ما يؤنسها في محنتها، وهي المرأة العفيفة الطاهرة التقية المتعاونة مع جيرانها، كما أكثر الجيران الذين عرفناهم في مدينة قامشلي، وفي كل محطة أقمنا فيها.
بعد استقرارنا في قامشلي، طرقت أم رشاد باب بيتنا لأول مرة، كي تعرفنا على أسرتها:
زوجي محمد علي خال أبناء عمكم السيد عبدالحكيم
أنا ابنة السيد حسين من قرية “التنورية”
أخي السيد جمال كان هنا وحدثنا عنكم!
وما إن زارنا أقرباؤنا القادمين من- قرية سحيل- ومن ثم شقيقها حتى تم التجسير بين بيتينا، فهي ابنة قريب لنا، ومن قرية مجاورة لمسقط رأس أبي وعمومتي . أنا عمتكم كانت تقول لنا. وعلى هذا النحو فإننا، ومن خلال كوكبة من الجيران بدأنا حياة تكاد تذكر بحياة القرية التي قطنا فيها: تل أفندي- ونستأنف روح وبراءة وعفوية علاقات القرية، وما أكثر المواقف التي وقفت معنا هذه المرأة الفولاذية كما قبيلة من رجال شأنها- على سبيل المثال- كما العمة بسنة أم آزاد، لاسيما عندما كنت في مطلع شبابي رب أسرة صغيرة ومعي أخوتي- طلاب المدارس- قبل أن يسكن أقرباء لنا في الحي، وكان والداي في القرية، إذ إننا كنا أحوج إلى من يقف إلى جانبنا، في تفاصيل يومية، لاسيما أثناء حالة مرض أحدنا. موت طفلي البكر حسن. إسعاف زوجتي والكثير من المواقف اليومية التي يتعاون فيها الجيران، وكنا – في المقابل- ضمن حدود إمكاناتنا مع الجيران، ومن بين ذلك: فتح دورات تعليمية مجانية- لطلبة الشهادات- ومعونة الجيران في قضاياهم أنى تمت الحاجة، امتداداً لروح التكافل التي يبديها جميعنا تجاه بعضنا بعضاً..!
جيراننا. نعم الجيران كانوا، أتذكر أم- هوادار- تنبهني أن دورية- أمن- راحت تبحث عن بيتي. أو تدخل امرأة البيت بذريعة ما:
انتبهوا الشارع مراقب
ولا أريد أن أذكر أسماء هنا الآن، لاعتبارات كابحة!
كانت الأوضاع الاقتصادية لأسرة- أم رشاد- جيدة، قبل أن تتردى، بعد فك شقيق زوجها شراكته و أبي رشاد في- معمل البلوك- الذي كانا يديرانه، والانتقال إلى حي آخر، لاسيما إن نسبة البطالة كانت جد عالية، وهوما كان يقصم ظهور من لا موارد زراعية أو تجارية لهم، ولهذا فقد وقفت أم رشاد إلى جانب زوجها وقفة ألف رجل، وهذا كان حال نساء الحي اللواتي كن أعمدة بيوتهن، في مؤازرة أزواجهن، وتربية بناتهن وأبنائهن.
ما إن انتهت المكالمة الهاتفية بين أم رشاد وأم العيال، حتى راحت أم العيال تقول حرفياً:
سبحان الله، اسمعوا، لقد حدثتني أم رشاد أنها وجدت في منامها والدي- أي الشيخ عبدالرحيم سيد محمود والد زوجتي- وهو يقول لها اجلبي معك كذا إلا إنه كان ثقيلاً فلم أستطع حمله!
وكانت المفاجأة من قبلها أنها ما إن استيقظت من نومها حتى طرقت باب بيتها إحدى أفراد عائلتنا لتزورها من دون موعد مسبق.
كانت مكالمتها عن ربط المنام بالزيارة من دون أن تعرف أن هناك فصلاً ثالثاً لهذا المنام، إذ إنني في عصراليوم الثاني، وبعد مرور حوالي أربع وعشرين ساعة على مكالمة أم رشاد، استيقظت من نوم القيلولة لأفتح واتساب كروب العائلة، وأجد صورة خيمة عزاء أم رشاد إلى جانب تبادل العائلة التعازي بوفاتها.
إنها إحدى المصادفات الغريبة التي تذكرها بنات الراحلة، وأسرتنا، وكنت شاهداً عليها، وتكاد تشبه الخرافة، كانت آخر رسالة من أم رشاد المرأة الطاهرة العفيفة رحمها الله مأواها جنان الخلد!