إدريس سالم
يمكن تبيّن الأثر النفسي للكتب عند كلّ القّراء، فهناك كتاب يقلق، وآخر يفرح، وثالث يقدّم معلومة، ورابع ينخر في الجهاز النفسي ويكشف الآلام والجراح لمعالجتها؛ فالكتب إذن وسائل علاج ذاتية هامّة للغاية، من خلالها يمكننا تجاوز خلل ما في نفوسنا، أو الذهاب إلى فكرة جديدة ما، وبالتالي ليستِ الكتب، وخاصّة الأدبية، مجرّد وسائل تسلية كما سنرى.
الأدب زمرة خامسة، لا يحتاجها كلّ إنسان، ولا تُعطى لأيّ إنسان. وهذا يعني أنه ليس كلّ إنسان بحاجة إلى الأدب، ولكن الأدب بحاجة إلى كلّ إنسان حقيقيّ، لأن الأديب – روائياً كان أو شاعراً أو قاصّاً أو ناقداً أو مسرحياً – هو طبيب يغوص في عوالم النفس والروح، ويبحث عن كلّ ما يؤلمه ويفرحه، هو يشفينا ممّا يعترينا من هواجس وأفكار وقناعات واضطرابات نفسية مزمنة وغير مزمنة، «فالأدب هو صورة عن واقعنا الاجتماعي بامتداداته النفسية والفكرية والشعورية والمادّية» ، قد يبني الإنسان وقد يدمّره؛ وهذا مرهون بذكائه ومدى تعامله مع الكتاب وشخصية الكاتب.
يقول الفيلسوف الإغريقي أبيقور عن أهمية ودور الفلسفة: «لا فائدة من الفلسفة، إذا كانت لا تزيل آلام الروح»، في المقابل يتدخّل الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجك عن دور ومدى تفاعل وفاعلية كتب التنمية الذاتية في حياة القرّاء: «أنا أحتقر هذه النوعية من الكتب التي تخبرك كيف تعيش، كيف تجعل نفسك سعيداً؛ الفلاسفة ليست لديهم أخبار جيدة لك لهذا العالم، يجب أن تصدّق أن المهمّة الأولى للفلسفة هي جعلك تفهم عمق القرف الذي تعيشه».
الكتب شفاءً:
أعتقد – ومن خلال قراءات فلسفية متواضعة وحتى في مجال التنمية البشرية – أنه ليستِ الفلسفة هي مَن تعرف كيف يعيش الإنسان، فهذا الإنسان هو من يبني ويُبنى على مكتسبات معرفية وتجاربية وقصدية غير ثابتة ودقيقة وقابلة للتطوير والتغيير، إذ أنها يغلب عليها طابع الشكّ والنقص والعجز؛ لأن الإنسان لا يمتلك أيّ حقيقة مطلقة، لا لنفسه ولا للآخرين.
في المقابل، من الخطأ أن يبني ذاك الإنسان تصوّراته ويمنهج تعاساته وخيباته وآلامه التي يقدّسها ويقتات منها نسبياً، ويفرض وجودها الحتمي من خلال تعاسات وانكسارات أشخاص فرضوا تجاربهم المريرة على فلسفتهم تجاه الحياة، فالمؤلّف والمدوّن الأميركي مارك مانسون في كتابه «فنّ اللامبالاة»، يؤكّد بأن محتواه الخاصّ بالتنمية البشرية وتطوير الذات هو لعيش حياة تخالف المألوف، وهنا عندما أقرأه فليس بالضرورة أن يفيدني فأعيش حياة جميلة سعيدة مبنية على اللامبالاة.
هنا سأطرح سؤالاً، كثيراً ما كنت أطرحه على نفسي وأصدقائي: هل الأدب يشفي الإنسان، ويرسم له دروباً للنجاة؟
قصص من الماضي:
بالعودة إلى الماضي، وللإجابة على هذا السؤال الإشكالي، لا بدّ من استعراض وقائع من الماضي، فنتذكّر جون ستيوارت مِل، الفيلسوف البريطاني، الذي شُفي من انهيار عصبي أصيب به في العشرين من عمره، فَقَدَ مِل على إثره الإحساس بكلّ لذّة وكلّ إحساس ممتع، جرّب كلّ أنواع العلاج ولم تكن ذات جدوى، واستقرّ الاكتئاب المزمن به لمدّة عامين، ثم انفرج حاله، بسبب كتاب شعري قرأه مصادفة، وتأثّر به وهو يتسامى مع جمال أبياته، ولعب دوراً وقدرة على إحداث تغيير في نفسه وشفائه من اكتئابه، وهو ديوان الشاعر الإنجليزي ويليام وردسورث، الذي يقول عنه: «بَدَت لي منبعاً، منه أستقي الفرح الباطني ومتع التعاطف والخيال، التي بمقدور كلّ الكائنات البشرية اقتسامها» .
في قصة من التاريخ، أن امرأة فرنسية شابّة تُدعى شارلوت دلبو وجدت نفسها حبيسة ووحيدة في إحدى الزنازين، تُخضع لعملية «الليل والضباب»؛ بسبب تآمرها ضدّ المحتلّ الألماني، لم يكن يحقّ لها قراءة الكتب، لكن زميلتها في الطابق السفلي تستطيع استعارة كتب من مكتبة المعتقل، فتضفر دلبو ضفائر من خيوط انتزعتها من غطائها وكانت تصعد بها الكتاب من النافذة، ومنذ تلك اللحظة سكن فابريس دل دونكو – وهو بطل رواية «شارتريه بارما» للكاتب الفرنسي ستندال – أيضاً زنزانتها، كما سكن معها لاحقاً في كتب أخرى أبطال آخرون مثل: موليير، وإلكترا، ودوم جوان، وأنتيكوني وناستاسيا وميشكين… وبعد فترة زمنية تعود دلبو إلى فرنسا وتحارب للعودة إلى الحياة والناس، اكتشفت أن أمام النهايات «أن شخوص الكتب يمكن أن يصبحوا رفاقاً موثوقين، إنهم مخلوقات أكثر حقيقة من مخلوقات اللحم والدم؛ لأنها غير قابلة للنفاد، لذلك هم أصدقائي، أولئك الذين بفضلهم نرتبط بالبشر الآخرين، في سلسلة الكائنات وفي سلسلة التاريخ» .
أما في الحرب وقصصها الغريبة والمثيرة، فنقرأ عن الجرّاح الأمريكي والقاتل المجنون ويليام تشيستر ماينور، الذي ساهم في كتابة «قاموس أوكسفورد» من داخل المصحّة النفسية التي كان يتعالج فيها، جراء إطلاقه للنار على رجل أعزل، في حيّ بمدينة فيكتوريا. عانى ماينور من أهوال وتجارب الحرب المؤلمة، ولاحقته بعد هروبه منها أوهامه وهلاوسه وخيالاته، ذلك الأمر الذي دفعه إلى قتل جورج مريت.
خدم ماينور وقاتل في صفوف جيش الاتّحاد، خلال الحرب الأهلية في أمريكا، حيث عمل جرّاحاً ضمن الطاقم الطبّي في الجيش، تلك الحرب التي أصابته بالخرف الشديد والبارانويا المزمنة، فلجأ إلى لندن؛ باحثاً عن سلام وأمان يتعايش معه ويُشفى من اضطراباته النفسية والعقلية.
في مستشفى الطبّ النفسي «برودمور» الخاصّ بالمجرمين، راسل ماينور بائعي الكتب، واقتنى من راتبه العسكري كتباً كثيرة، فقرأ في إحدى المجلّات إعلاناً يطلب فيه المحرّر الرئيس لقاموس أكسفورد جيمس موراي عن متطوعين لإعداد قاموس اللغة الإنجليزية، فبدأ ماينور بعد قراءات كثيرة وواسعة في إرسال اقتباسات وتعريفات لغوية إلى موراي، أورد فيها المئات من المفردات والملاحظات والاقتراحات، جمعها على شكل اقتباسات من كلّ كتاب كان يقرأه، ودوّنها بشكل أبجدي على قُصَاصات ورقية، استمرّتِ المراسلات بينهما كلّ أسبوع، على مدى عشرين عاماً متواصلة.
صرّح موراي بعد اللقاء بماينور عام 1891م، في غرفته بالمصحّة النفسية قائلاً: «أدركت أننا بدون مساهمة هذا الجرّاح والمثقّف المعزول هنا، والمصاب بالخرف والبارانويا، كان مكتب المحرّر العام لقاموس أكسفورد سيخسر جهود أربعة قرون من أصول المفردات».
لعل مِل ودلبو وماينور وأنا وغيري ممّن يؤمنون بالكتب، لن نستطيع الاستغناء عن الشعر والرواية والقصة والمسرح؛ فالكتب تمنحنا شكلاً ولوناً للهواجس والإحساسات والمشاعر التي نعانيها، تجعلنا نحلم وسط سيل الأحداث والأفكار الصغيرة والكبيرة التي تتشكّل من خلالها حياتنا، تمدّ لنا يدها وحضنها وأملها حينما نكون في أعماق الألم، الكتب تقنية فعّالة لعلاجات الروح، وهي نفسها مَن تدعونا أو تشعرنا في التفكير بأن نتساءل بشكل أعمق: هل حقّاً تُلقي علينا الكتب تعاويذها، فنشعر بالهدوء والسكينة مع أبطالها وأفكارها ومفاهيمها، بل ونطيعها ونأتمر من خلالها؟
أرواح الكتّاب:
إن كلّ فكرة مجنونة وهادفة، ستتحكّم في قراراتنا وخياراتنا، مهما يكن حجم تأثيرها وتفاعلها، وقد نتلبّس الكثير من شخصيات وأبطال الكتب أو هم قد يتلبّسوننا! وقد ابتكرت هيفاء السنعوسي، الباحثة وأستاذة الأدب الحديث في كلية الآداب بجامعة الكويت، عدداً من تمارين الكتابة التي من شأنها مساعدة الإنسان المريض على الاستشفاء الذاتي، إذ أسقطت السنعوسي حالات إسقاط فكري ووجداني على تفكير ومخيّلة المريض أو المتمرّن، وبالتالي تفريغ الانفعالات والمشاعر المدفونة.
هنا سأذكر مثالاً حيّاً عن آخر ما قرأته من الروايات الأدبية، والتي كانت رواية «ميثاق النساء» للشاعرة والروائية اللبنانية حنين الصايغ، التي تركت في نفسي تأثيراً عميقاً، باختراق مواضيعها وأفكارها ولغتها لعوالمي العصية واحتراقها نسبياً، مثلما فعلت بي منذ سنتين سلسلة «مقبرة الكتب المنسيّة» للروائي الإسباني الراحل كارلوس زافون، والذي سأبقى ممتنّاً له ما حييت، سلسلة أوضحت لي أن كلّ قضية قومية هي قضية إنسانية تحصل على عدلها ومساواتها وحقوقها بالعمل والمعرفة والحذر من الخيانة وبيع الضمير.
أما مع «ميثاق النساء» أدركت كم كنت ولا زلت أعاني من «الوعي الذاتي»، و«متلازمة القلق الوجودي»، و«عقدة الدونية»، دون أن أعلم بوجودها في داخلي، فرسمت الرواية طرقاً تساعدني في العلاج؛ بأن أتقبّل ذاتي كما هي، وألا أفكّر بالأمور التي لا يمكنني تغييرها في حياتي أو في حياة مَن أهتمّ بأمرهم، وأركّز على الأمور الجيدة التي أمتلكها، فتتكوّن بذلك مثالية نسبية، تجعلني أتغاضى النظر عن نواقصي وعيوبي، فأكون مسترخياً متأمّلاً، فالألم والأدب انعكاس لصوتنا الآفل وصرختنا المكتومة.
ولا يخفى على القرّاء الشرهين والكتّاب النخبة أن شفاء الإنسان يبدأ من الأدب؛ بتجسيده لفوضاه الداخلية العجائبية، فعندما تقراً كتاباً مؤثّراً ناجحاً حقيقياً، فهو يفتح آلامك وجروحك أمام بصرك وبصيرتك، ليعيد تشكّلها من جديد، لتتجسّد أفكاراً وقناعات جديدة تنمّي مخيّلتك وتمنح الحياة لروحك وعقلك، وتحرّضك إما على التخلّص من مشاكلك أو تعلّمك على كيفية إدارتها والتعامل معها، أيّ أنها تشكّلك من جديد، وهو الأمر الذي حدث معي أثناء قراءتي لرواية «ميثاق النساء»، فأنا نادراً ما أعيد قراءة الكتاب مرّتين متتاليتين، وعندما أعيد القراءة لا تكون بدافع التشويق أو المتعة؛ بل لأنني أجد شخصيتي وألمي فيها، أبحث معها عن ألمي وأملي ونجاتي، أبحث عن دواء يشفيني ممّا أعانيه من مرض أو اضطراب أو شعور سلبي ينغّص عليّ حياتي.
الأدب هو أداة للعودة إلى الذات، أداة تمسك يدك وتأخذك إلى عوالمك المظلمة التي تحتاج إلى نور وضوء. الأدب طريق حرّ مفتوح لأن تعرف ذاتك وتخلّصها من آلامها واضطراباتها ومشاكلها. يرمّم تلك المكتبة الداخلية المعطوبة ويرتّبها، بعد أن كانت تعاني التوتّر وعدم التوازن، منقذ لمَن لا منقذ له. وحتى تكتسب المهارات والخبرات فتُخلّصك من آلامك ومشاكلك تَعلّم كيفية قراءة الأدب واختيار الكتاب المناسب؛ فهناك كتب شعرية وروائية وقصصية ومسرحية تكون متشابهة/ متكرّرة في أفكارها ومواضيعها وقضاياها، ولكن أرواح الكتّاب تكون مختلفة، مثلها مثل بصمة الأصابع, فممارسة الكتابة الحقيقية تكون روحية بالدرجة الأولى، وهناك كتب قد تقتلك دون أن يكون لك قبر، فهي تجبرنا على أن نلتفت لشخصيتنا ونترك شخصيات الآخرين في حال سبيلها، تقرأنا، تختبرنا، وتؤثّر فينا.