إبراهيم محمود
أخبرها أنه يحب امرأة.
تحسستْ
كان يقصدها هي بالذات.
طبعاً ربما يكون القول لعبة نفسية، وهي بذلك لا تلام في حساسيتها، وقد كان يحاول جس نبضها، والحالة هذه تخفي تاريخاً طويلاً من العلاقات التي يلتبس المعنى فيها.
في الحب هناك ما لا يمكن حصره في التصورات والدلالات والمقاصد والمعاني.
إنه التنوع الذي يرتبط بمجتمعه، وتباين علاقاته، رغم أن الحب هو الحب، ولكنه يبقى مركَّباً.
سأتحدث عما يمكن مكاشفته من ” في حب امرأة “
ماذا يعني العنوان؟
أي حب، أي امرأة؟
من جهة الحب، ليس من حب إلا وله موضوعه، أما بالنسبة لمَا هو إنساني فليس من حصر له.
كان ماركيز يتحدث عن أن الحب يستغرق حياتنا بالكامل، وليس العقود الأولى من العمر.
للمجتمع بصمته في تلويناته ومقاماته.
أشار الشاعر الجواهري إلى جانب من هذه العلاقة الخاصة بالرجل والمرأة في مجتمعنا، وهي أن تغزل الرجل بزوجته معيب، وتبقى نظرة الرجل” بذكورته ” إلى المرأة دونية، وفي قصيدته المعروفة والتي مطلعها:
جرّبيني منْ قبلِ انْ تزدَريني وإذا ما ذممتِني فاهجرِيِني
ثمة إساءة إلى العُرف الشرقي، حيث ” جرّبيني ” تمثل خرقاً للمألوف الذكوري تجاه المرأة.
إنه حب بمقياس جانبي. والعرف يتكلم بلسان الذكورة إجمالاً.
في هذا السياق، فإن قولة أحدهم” النساء جميعاً في الليل سواء ” حكْم ذكوري، يختزلهن في مفهوم غريزي إجمالاً، قولة تذكّر بما قاله هيغل” الأبقار جميعاً في الليل سوداء “. يا للرعب!
إن النظر في الحب هو إظهار ما نعيشه في الداخل، والحب هو صلة وصلنا بالعالم، بمرئّيه ولامرئيه، وفي خاصيته البشرية هناك ما يمكن قوله، وما يبقى محفّزاً على المزيد.
الحب لا ينفد في مفهومه، وفي معناه، وفي أي تمثيل حسي تكون المرأة نموذجه !
الحب لا يستقر على إيقاع معين، لون معين، جهة معينة، صفة معينة، لهذا يستمر بنا وفينا.
يتوقف الحب على النظرة إليه وكيفية تصريفه، ومقام الشخص.
الحب خروج إلى الذات، وإلى العالم، وهو محك لما نكون ولا نكون.
الحب هو الذي يصل بنا إلى ما ينسينا أننا محدودون، تبعاً لثقافتنا وطبيعتها.
ببساطة يقول الرجل لزوجته على أنه يحبها، وتكون هناك امرأة يراها بهيئات، وامرأة يرغب أن يراها ولا يراها: في حبه لزوجته، برهانه الوحيد علاقته، في حبه للتي يراها بهيئات، أنه تقرّبه من زوجته، فيرتقي بها إلى رتبة جمالية، ينفد بها إلى روحها، وهي تزداد استقراراً فيه، وفي حبه للمرأة التي لن يراها، تكون زوجته، كمثال هنا، هي التي يزداد حباً بها وقد تجردت من كيانها المادي، وتمثّل فيها جمال من نوع آخر يبقيها في طراوتها وحلاوتها ونقاوتها ، وهي من جهتها، تراه بعين يقينها الخاص، من باب التنوع، وفي هذا التنوع تكون الحياة في رقيّ معناها.
في حب امرأة، ليس من حدود، وهو ما يجعل منه محفّزاً طاقياً روحياً يتعدى اليومي، والعادي، والجهوي، والمشخص، وفي تلك اللائحة من مسمياته:
الحب بين الرجل والمرأة، قبل الزواج، عبارة عن مسعى إلى الدخول في عقْد علاقة، وفي الزواج، كما أرى، ينبني على عقد عائلي، وفي الحالة التي يكون فيها مثالاً، هو عقد معايشة نفسية، كما في حال المأخوذين الفن أو الأدب، وفي الحالات كافة، تكون المرأة في الواجهة.
لقد كان بيرون يقول: تمنيت أن يكون للنساء جميعاً فم واحد، لقبَّته وانتهيت منهن جميعاً.
تلك رغبة لا تخفي ذكوريتها، من جهة، وإشعار بمدى شغفه الإيروسي بهن، لأن القبلة لا تتوقف على تلك اللقطة الفموية حصراً، من جهة أخرى، وجانب الحسرة فيه، وهو سلطوي كذلك، من جهة ثالثة.
تُرى، وقياساً على ذلك، أي رد فعل يتشكل لدى بني” نوعي ” الذكوري، لو قالت امرأة ما، وباسمها الصريح:
كل الرجال في الليل سواء
تمنيت أن يكون للرجال فم واحد، لقبَّلته وانتهيت منهم جميعاً؟
من المؤكد أن الصورة ستكون مغايرة، والحكْم” يا لهوله ” سيكون مختلفاً، إن أخذنا نوعية الثقافة الفاعلة في ذلك، أي حيث يصبح الرجل موضوع المرأة، وليس العكس، وما في هذه العلاقة المرتَّبة من خرق للمعتاد، أي عبْر عنوان كهذا: في حب رجل. وكما تقدّر المرأة.
الكتاب في وعن وعبر: حب امرأة، تتعدى كل ما تردَّد باسمها، ويمكن أن يقال باسمها، وما هو متخوف من قوله. ليس ” حب امرأة ” إلا إشهاراً بما هو متوارث، بما هو معمول به، وبما هو جائز التفكير فيه هنا وهناك، وما ينطوي عليه هذا التأطير من تعرية للمجتمع ولاسويته.
لقد أثرت نقاطاً كثيراً في هذا السياق، في العديد من كتبي، من ذلك” جغرافية الملذات” وأحد أسئلتي الذي استغراق صفحات وصفحات: لماذا لا يوجد الحور العين من الرجال، وليس من النساء وهن، وكما أحصيتهن في متابعة تأريخية فوق الحصر؟ أليس ذلك امتداداً للدنيوي؟ فأي حب هو هذا الذي يحرَّر في ظل ذكورة الرجل ولاتناهي شهوته، وجسد المرأة ” وليمته” ؟
أهي مبالغة إن قلت: أعطني حبَّ المرأة من جهة الرجل، وبصورة فعلية، تتجاوز خاصية المأثور الجنسي، أعطِك مجتمعاً حقيقياً؟
ليس هذا رهاناً. ليس بازاراً. ليس تحدياً. ليس تعجيزاً. ليس استعراضاً لرؤية معينة. إنما هو إجراء لا يراد منه أن يكون النموذج، بمقدار ما يكون تشخيصاً ما لظاهرة تاريخية، نعيشها هنا وهناك، كما لو أن الزمن واقف في عالم” ما دون الصرة ” وما فوقها” من خاصية الرجل “، كما لو أن الذين يعيشون ويموتون هم أنفسهم يتلخصون في وجه واحد، لسان واحد، لغة واحدة، صوت واحد، قيمة يتيمة بائسة واحدة بدورها طبعاً .
لينظر أحدنا في نفسه حين يعيش عالمه، أو في نطاق الكتابة والفن، وأي كائن يتنفس بين جانبيه، ما إذا كان يتمثل اليومي فيه، الجانبي، والسطحي فيه، أما ما يبقيه كائن الغد وأبعد مكانةً.
ربما لا يحتاج كل ذلك إلى تقديم توضيح ما، إلى تنوير ما، لأن المشهد اليومي لحياتنا، لا يحتاج لمن يشهد له، إنما هو الذي يشهد علينا، نحن الذين نعيش ما عاشه أسلاف أسلافنا، وهؤلاء عاشوا أسلاف أسلافهم، فلا يعود في المحصّلة لا سلف ولا ” من يحزنون ” طالما السلف يحدّد علاقة بين سابق ولاحق، فينعدم الخلف بالمقابل بالتأكيد، في حقيقة امرأة.
لهذا، فإن الحديث عن الحب، لا ينفصل عما هو متغير في الزمان والمكان. حرّروا الحب من مفهومه الجانبي” البيزنسي ” الأبوي الطاغي، البورصي، تعيشوا الحياة التي تعلّم وتلهِم، وحينها يكون في مقدور من يريد أن يكون نموذجاً، الحديث عن القيم المثلى في المجتمع وتقدمه…
أرأيتم كم هو شائك ومحرِج ومعلّم، وكشّاف خفايا، هذا الممثّل قيمياً في ” في حب امرأة “!؟