غريب ملا زلال
عبود سلمان أو أبو الفرات كما هو معروف في الوسطين الإجتماعي و الثقافي ، هو جزء مهم من تاريخ السجال في المدينة التي أنجبته في عام 1965 ، مدينة الميادين ، المدينة التي لا تنام في حضن الفرات فحسب بل تحرس هذا الحضن في ترحاله الطويل ، فكيف إذا كان لهذا الحضن أب متوغل فيه بهديره و نشيجه ، بهدوئه و صمته ، أب عاشق له ، لا في الظاهر فقط ، بل بحضوره الكثيف و الكبير و الدائم في نصوصه التشكيلية منها و النثرية ، فميادين تسكنه كما يسكنها هو ، حتى كادت تكون قضيته الأهم ، ينفتح عليها في الأوقات كلها ، يرتقي بها إلى ذرى كونية طارحاً فيها حشود أفكاره مع الكثير من إفتتانه بها ، و هذه تسجل له ، فهو مدرك أن الطريق إلى الآخر يبدأ من عتبة بيته ، فتحولت إلى حكاياتها الكثيرة التي يرويها لنا في مجمل أعماله ، و ينثر عبقها في كل الدروب التي سار و يسير فيها ، لم أجد مبدعاً مرتبطاً بحلمة مدينته أكثر منه ، فهو الطفل الذي لا يترك تلك الحلمة مهما كبر ، و مهما إبتعد عنها فهو الأقرب إليها في الأوقات كلها ،
و هو الذي لا يفطم عنها ، بل يمضي بها في سفر توغله في دروب الحياة الكثيرة ، مهما كانت وعورتها ، أو سهولتها ، الدروب التي لا يخشاها سلمان طالما بوصلته أقصد مدينته هي التي توجهه ، و تنوب عنه في تحديدها و إضاءتها ، طالما هي عصا نجاته ، بل هي عكازته التي تضبط مشيته و هو في أحلك ظروفه ، فيلح سلمان أن حكاياه كثيرة ، قد تكون أهمها مدينته و ناسها و ما هو متعلق بأرواحهم ، لكن له حكايا أخرى ، تنبع من الإنسان و تصب فيه فهو غاية الحياة و غاية الإبداع ، حكايا تبدأ من عتبة بيته إلى كندا حيث يقيم مروراً بدير الزور و دمشق و بيروت و رياض و نجد و دبي ، محطات كثيرة لكل منها ألف حكاية و حكاية يسردها لنا سلمان بشيء من روحه الجميلة التي تجعل منها و هي تلد من بين ألوانه و كأنها رؤيته نحو العالم إليها تهفو كل حكاياه و بغزارة تساهم في تغييرها ، و ترد الأسئلة الخاطئة إلى مضاجعها .
أبو الفرات لا يبحث عما يلحق بها الضيم ، و لا يبني ما يعصف بها المبالغات ، تتوالد الصور و تتعالق في حضرة مشاهد قادمة من ذاكرة مكان لم يشبع منه بعد ، من ذاكرة لها ومضاتها و هي تنفث مفرداتها على فضاءاته التي لن تفي بحاجته مهما كانت إيراداتها في حدودها القصوى ، فالناظر إلى تجربته كالناظر إلى الفرات في أوج نشاطاته و فيضاناته في نسق من الإيقاعات جميعها تعيده إلى البدء ، إلى عتبات تستقل بذاتها ، محكومة بعبق الأولين ، فهو مجبول بالميادين و أهلها ، بتراثها و تاريخها ، بحكاياتها و ريحها التي لم تعد تطفىء القناديل ، فالرؤية البيانية لها ، أقصد لتجربته تملؤنا بمقولات تفضح القهر الإجتماعي ، و بما يروى على ألسنة البسطاء و المستضعفين بأن العبرة ليست في تقاسيم الربابة فحسب بل بإستنهاض الذات و الآخر المخاطب لرفض هذا القدر ، فهو قد يرسم محنة فتاة قروية تفتك بسطوة المال أو بسطوة القرابة ، و قد يرسم حكايات الأمهات و هن غارقات في النقش و التطريز ، أو قد يرسم الوجوه التي مازالت ترفد بنيتها الإيقاعية و هي تروي ما ستكون عبرة للبلغاء ، فهو يفطن لتعاملاتهن و علاقاتهن في غاية الدقة ، أو قد يرسم لحظات طافحة بالجدل ، زاخرة بالحركات ، مليئة بالإندفاعات التي لا تحد ، ينهض بمعانيها متزامناً مع نهوض نقوشه و تعالقها ، يستل بالرحيل مع دفق دلالاتها ، و هذا يعني ضمنياً أنه يعلن الخروج على النظام المتعارف عليه ، و يجدد في الموضوعات بإنتقالها من السطح إلى الغور قصد الوقوف على ما يجعل من نصه معاصراً ، و وجوداً متميزاً تكمن فرادته فيما به يتغاير مع غيره ، فلا سبيل أمامه إلا بتمثل الإضافات التي نهض بها دون أي إنكفاء في إلتقاط ما يمكن قراءته لحظة شروعها في إنجاز ذاتها التي ستتجلى فيما بعد في الحياة ، و هكذا يمكن القول بأن التصوير الواقعي الذي يشتغل عليه سلمان تتجلى في العلاقة القائمة بين تصرفاته كإنسان ، و نمط شخصيته التي لا يمكن نسفها بتدخل قوى العالم الآخر ، فلعالمه الداخلي فهمها الخاص ، و صورها الخاصة ، يكفي للدلالة على ذلك نمنماته التي تحمل دلالاتها و إنتماءاتها في ذاتها ، و التي قد تصب في تصنيف شكلي تخص المكان الذي ينتمي إليه بقوة ، و إن بتفاوت وضوحها ، فهو يفترض نوعاً من سيرة حياة وفق منطقها الداخلي و هذا بحد ذاته إشارة تملي علينا أنه يقتنص أفكاره من الفرات ذاته كوقائع قائمة على التطور الذاتي ، جازماً أن اللحظات بكل هبوبها هي عواصف تاريخية يمكن إلتقاطها و تجميلها في العموم .
عبود سلمان ريح تشرع من بداياتها في محاورة ذاتها أولاً ، و ثم تتناغم في محاورة الموجودات جميعها ثانياً ، و كأنها تمارس طقساً إبتهالياً ، تعابث كل ما يستدعي الكلام ، إن كانت حوافر خيول وضعته في حضرة الوجود ، أو براعم أعشاب داهمتها الدفء و النور ، فسلمان و في لحظة ما يعتصر الأزمنة كلها ، يستدعي وقائعها ليحشدها في فضاءاته و كأنها مرايا متناظرة تسمح لها بإنتاج ذلك الحشد الذي لا بداية له و لا نهاية ، فهو يغرق مشهده البصري معولاً على مكوناته الخاصة و قواه الذاتية ، و كأن كل ذلك البياض و ذلك المشهد لا يشفي غليله ، فلديه الكثير ما يقوله ، و كنت أتساءل دوماً عن سر هذا الإغراق الذي كنت أعتبره إلى زمن قريب بأنه قتل للعمل و خنقه ، بل منعه من التنفس و كأن الفنان يصدر الإعدام على عمله قبل أن يولد ، و لكن حين إقترابك من الصندوق الأسود لتجربة سلمان و فتحها ستجد بأن هذه الحالة فتحت مجراها فيه مذ كان صغيراً ، فهو الذي ” سود كل جدران البيوت البيضاء في مدينته ، و رسم عليها خطوط سوداء و نساء و حمائم و أعشاب كبيرة و صغيرة ، و أحصنة حتى أنه لم يترك أي فراغ فيها ” ، فقتل الفراغ على تلك الجدران هو ذاته التي رافقته و شاركته في القتل في مجمل أعماله ، يضغط عليها بخطه و ريشته و زخارفه و آهاته و وجعه حتى تصرخ معه و تقول كفى ، فهذا التصعيد في مفرداته و بهذا الحشد يرفع من سقف إيماءاته المتزامنة التي تمضي به في الإتجاه الذي يرغبه هو دون أي ضغط من مدرسة ما ، أو من تجربة ما ، فهو ينتهج مساره في بنائه الغرائبي بإيراد نفح أسطوري مفتوح على وسائل أسلوبية تخصه هو ، تخص ذاته ، و هذا ما يجعل صوره المجسدة في كسر المنطق تتوالى عميقاً في رحاب ما هو طافح بالنغم المياديني و ما هو موغل في إبتداعها للغة تخاطبها اليومي ، و كأن سلمان بإيماءة عابرة يرغب في إحتلال أديم نصه و الإفتتان به و ضبطها من التلاشي ، و بالمقابل حين يستدعي أعماله لتخصب لا بد أن يختزل مضجعها الذي لم يبرحها الحنين أبداً ، و لم يغدر بها الوفاء فهو و على إمتداد إطلاعه على إيقاعها الخاص يعود إلى نبعها من جديد ، النبع الذي يجعلها قابلة للتأويل و التدفق الغزير .
لا بد من الإشارة هنا بأن قراءتنا هذه كانت كنوع من الترحال في تجربته و الإصغاء إليها ، و هي تمتثل بكيفياتها طواعية لمتطلبات اللحظة و الإستجابة لسفرإندفاعاتها و هي تنهض لتفتح مجراها كفراته ، حالماً ببلوغ الرحاب و إرتياد الآفاق ليروي الظواهر و الأحداث حتى يتمكن من المثول في تلك الأقاصي التي سيبدو فيها كل شيء على حقيقته فهو جزء من الحركة التي لا تكل و لا تمل .