الرواية في مواجهة اسمها: كيف كتب عزيز غمجفين روايته: زابيل أنا أرمني ؟

إبراهيم محمود 
مجرد إشارة ليست مجرَّدة
تولد الرواية، أي رواية من ماض معين، وإن كان موضوعها المستقبل، وإن كان الخيال مدشّنها الأكبر، ولكنها ما أن تنجز مهمتَها في ختامها، حتى تصبح معنية بالمستقبل ونسَباً له. حتى كتابة التاريخ نفسه لا تنحصر مهمةً في نطاق ما كان، إنما ما يجعل الآتي أكثر قابلية للقراءة والوضوح، وبدورها، فإن الرواية إن كانت ” رِجْلاها ” في تربة الأمس، فإن هامتها في أفق الغد.
يأتي التنوع من مدى تمكن الروائي في بلورة فكرته خميرة في عجينة متخيله الفنية. وهي وإن كان الروائي يطلق عليها اسماً ينسَب إليه، إلا أنها في ضوء ما تعرَف به فنياً، تحدد خاصية اسمه وما إذا كان جديراً بأن يكون الروائي، وما بينهما من مسافة تتسع أو تتعمق تبعاً لنوعية الرواية.
ينسلخ اسم الكاتب عن مكانه وزمانه، ويتوقف دلالةً على مدى وفورة المعزز روائياً. تبقى الرواية بالطريقة هذه في انتظار اسمها الذي يتحدد به مصيرها فناً، وأي اعتبار يعطى لكاتبها قيمةً.
ثمة تاريخ، ثمة زمان، ثمة مكان، ثمة تصور، ثم توثيق وأرشيف، ثمة خطوط فصل ووصل، ثمة هندسة تفعيل العلاقة بين كل ما ذكرت، وهي التي يختبر عبْرها الروائي قدرتَه في مأثرة الكتابة.
بناءً عليه، كيف كتب الكاتب الروائي والشاعر، الشاعر والكاتب الروائي  الكردي عزيز غمجفين Ezîz Xemcivîn” تولّد 1965 ، الحسكة، روجآفا كردستان ” روايته الكردية لغةً: زابيل أنا أرمني Zabêl ez Ermenî me؟( منشورات سيتاف Sîtav ، 2024 ) وهناك معايشة  لا تخفي عناصر تكوينها، لتواريخ متداخلة ومتشابكة ، وجغرافية منقسمة على نفسها، وذاكرة جماعية يستحيل تسميتها بالمؤممة في وحدة مكوناتها وتآلفها، وفيها أمم وشعوب قائمة متباينة الهويات؟ 
وبالطريقة هذه، يكون قد وضع نفسه ككاتب، وعلى صعيد السرد الروائي في ساحة تنفتح على طرق عدة، وهي لا تتناظر من الموقع الاعتباري والاجتماعي والاعتقادي والثقافي نفسه، وما يتطلبه هذا الوضع من اعتراف ضمني بمستلزمات سياسة الكتابة هذه، جهة خطوط التفاعل بين كل مكون وآخر، ولحظة استشراف ما هو تاريخي وسخونته التي لمّا تزل قائمة، وما ينبني عليه هذا الاعتراف من شعور بواجب اليقظة المضاعفة تجاه هذه المكونات وكيفية الربط فيما بينها، ليكون من ناحية المسئولية الأخلاقية بالذات، في موقف لا أظنه يُحسَد عليه صعوبةً، عند قراءة روايته.
هذه الرواية، إن نسّبتَها إلى أرومة التاريخ كنتَ على صواب ما، وإن أدخلتها في خانة الجغرافية المتصدعة كمكان مجتمعي، كنت محقاً، بأكثر من معنىً، وإن أفصحت عنها رواية أصوات، وإن كانت الكردية هي المنطوقة، حيث يتواجد الكردي، وهو متنوع: الإيزيدي، والمسلم، والأرمني، والعربي، والعثماني التركي، والتركي دون العثماني، والجركسي…إلخ، لمَا جانبتَ الحقيقة، وإن اعتبرتها رواية، بكل ما للكلمة من معنى، لأجيزَتْ لك التسمية هذه. وهنا، يمكنني الجزم، أن لكل طرف متطلباته، مناخه النفسي، ثقافته، ولسان حاله الديني والمذهبي والقومي، في كل ذلك ثمة الدَّين الفني الذي حل الكاتب في ” معمعته ” وكيفية سدَاد هذا الدين بأسلوبه الذي يحمل توقيعه…
لهذا سأحاول التوقف عندها، منطلقاً من جملة نقاط تصل ما بين هذه المكونات وتفاعلاتها، وفي سياق هذا التحرّي، أو اقتفاء أثر التاريخ في بناء الرواية، مقاربة كيفية كتابة غمجفين لنصه المعتبَر رواية، كما هو التعريف بها، وأي أعباء كلّف بها نفسها، خياله، ولسان حاله ” الكردي ” واقعاً.
العنوان: الأرمني متكلَّماً، والكردي متكلماً
أن تكون الرواية مولود مغامرة، هو من باب البداهة كإشعار، لأن مقتطعها الأرضي والفضائي من صنع متخيل رغم الحضور الممكن تبيّنه لمَا هو تاريخي أو زماني ومكاني. سوى أن الولادة هذه تحمل هوية كاتبها، وأفق رؤيته إلى الأمور ومخاضها. والعنوان جسّاس نبض كاتبه قبل قارئه .
ثمة اعتراف ملموس، من جهتي، ومن خلال قراءاتي المتواضعة، وهو أن رواية تحمل عنواناً كهذا، ويكون محرّك نصها الأدبي: الأرمني، تمثّل انعطافة تاريخية، لأن الماضي لازال يتنفس في رئة الحاضر، ويبث تأثيره في الآتي، بالنسبة للعلاقة بين كل من الكردي والأرمني، وما يتردد حول الكردي في علاقته بمآسي الأرمني الكارثية في نهاية القرن التاسع عشر، ومعمعان الحرب العالمية الأولى. وفي الآونة الأخيرة، يسهل التعرف على تقارب أكثر بين الاثنين، ولتلك الكتابات التي سطَّرها كتّاب كرد، في تحمّل جانب من مسئولية هذه الإبادة، ولو بصورة غير مباشرة أيضاً، ومْضتها وصداها بالمقابل، وهذه الرواية لا تخفي دَيناً تاريخياً يستشعره الكردي تجاه الأرمني في مواجهة عدو تاريخي مشترك: العثماني، ووليده التركي وطورانيته تالياً، هنا وهناك، وفي ضوء دراسات تظهر بلغات شتى، وهي تضيء هذه الصفحة التاريخية والسياسة الساخنة للغاية.نعم، هوذا شعور بتاريخ مشترك، بمأساة مشتركة، بمأساة الآخر الذي لا ينفصل عن كون الكردي يعيشها هنا.
ومجرد خوض غمار تجربة، بمثل هذا التركيب” المدوخ ” يعتبَر فضيلة وجدان لمّاحة بذاتها.
العنوان استراتيجيا تتجه إلى المستقبل، لكنها تومىء إلى ما كان. ثمة مجهول يحاول لفت نظر سواه على أنه معلوم تاريخ أساء إليه كثيراً، تكون المرأة الأكثر تعرضاً للإيلام، لوطأة الذاكرة المدمّاة هي المقيمة في واجهة التاريخ: زابيل، وهي شخصية تحمل الكثير من مآسي شعبها الأرمني، وكونها أرمنية، ولاسمها معنى لافت، فهو يعني بالأرمنية أن الإله هو قسَمي. ولا أدري ما إذا كان الكاتب على دراية بهذا المعنى أم لا، وهكذا الحال مع السارد المؤثر في نسيج الرواية، وزوجها تالياً: سركيس، ويعني اسماً: الجسد المفعم بالقوة، وله أصول يونانية، كما لو أن سركيس الغائب جهة منطوق العنوان: زابيل أنا أرمني، أي لحظة التعارف بينهما، أي حين يعرض عليها الزواج، دون أن تعرفه، ليسمي نفسه، اسمه الفعلي وأرومته على أنه أرمني، ولا يتم ذلك إلا عبر سارد رئيس، مقدَّراً، جهة الروائي نفسه، أي الكردي الذي يتكلم، والأرمني يكون متكلَّماً، وفعل هذه الإشارة، وشاعرية التوصيف والدلالة بالمقابل، لأن مجرد قراءة العنوان، ينبري ذلك الفضول المقابل لمعرفة مَن هذا الذي يستنطق  زابيل الأرمنية، وأين ومتى؟ وما في ذلك من فعل تحفيز للقراءة .
نعم، العنوان خيار من خيارات الكاتب، ولعله خيار صعب، وحلبة قوى متداخلة، في زمن، بات فيه العنوان يطرح نفسه ليس كتابع للرواية، كما هو معهودها حتى الأمس القريب جداً، وربما، يعتمَد هنا وهناك إلى الآن، سوى أن التحولات الكبرى في مفهوم الثقافة، وفي مفهوم الرواية وارتباطها بهذه التحولات، حفّزت في كاتبها إرادة التروّي والبحث عن ذلك العنوان الذي يوحي بتلك الاستقلالية الذاتية من جهة، وتلك الأفضال التي تنسَب إليه من جهة الرواية عينها، كما الحال هنا.
وإذا كان للعنوان مثل هذا الحضور المشروع في ضوء مستجداته، حسبي أن أنوّه إلى صورة الغلاف والتي تلفت النظر، حيث نكون إزاء صورة تأخذنا معها جهة السؤال عن صاحبها، لا بد أن يكون سركيس نفسه، صورة شخصية لرجل متقدم في العمر، ويعتمر طاقة، وقد شاب شارباه، وبوجهه الوسيم ربما تعبيراً عن أن الحياة باقية، والأرمني باق، أو لعل الابتسامة التي تتشكل في تعابير وجهه، هي ابتسامة سخرية في الوقت نفسه، وتمثّل تعرية للذين أرادوه عدماً وفشلوا.
في مساحتها التي استغرقت كامل صفحة الغلاف تقريباً، بهيئتها، وبلباسها القديم، تطرح حقيقة اسمها، وما يمنح العنوان رسوخاً أمضى جهة المحتوى والرمز والاعتبار التاريخي…!
الكاتب في مواجهة نفسه
كثيراً ما يشار إلى الرؤية السياسية لكاتب الرواية. ذلك ما يؤتى على ذكره جهة المسمى بالأدب الملتزم. ماالذي يُلزِم الكاتبَ في أن يتنفس روائياً كما هو المتوخى سياسياً، حيث البون شاسع، وبما لا يقاس، بين أن يكون أحدهم سياسياً، ويكون ارتباطه بما هو حزبي أو اجتماعي، ومن موقع المسئولية التاريخية ، وأن يكون كاتباً، في الأدب، وللرواية مأثرتها، حيث يحاول جاهداً التحرر من الفتنة المارقة لـ” أنا ” السياسي، والتحلي ببصيرة الروائي الذي يتعدى الحدود المتراسية؟
من السهل جداً، مكاشفة ذلك المردود السياسي في رواية غمجفين، ولكنه المردود الذي يتحصل على جماع قراءة الرواية، أي ما يجعل السياسة بعداً من أبعادها ومحكومة بفنية الرواية تحديداً.
وفي الوقت الذي يشار إلى أن الروائي قد حدد نوعية روايته في الداخل هكذا: رواية سيرية حياتية، وما في هذا التحديد من تسمية لحدود الرواية والأخذ بها في حسبان أي قراءة، ربما ما كان يريد لعنوان مفصل كهذا أن يواجه القارىء في صفحة الغلاف، كما هو الممكن تبينه في عناوين كتب مختلفة، سوى أن هذا التحديد يبقي عين القارىء متعقبة للبناء الروائي، وتبين الخلاف .
هذه السّيرية الحياتية لا تلغي ذلك المتكأ أو الرهان التاريخي الذي ألزم الكاتب نفسه به، ومنذ الصفحة الأولى وتالياً، وتلك الصفحات التي يمكن إيجاد مرجعيات تاريخية لها، في صيرورة الرواية تاريخياً، مع توتر الأحداث التاريخية في نهاية القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، كما لو أننا نقرأ بين عنوان فرعي وآخر ما يشبه ” شد الأحزمة ” جهة توترات التاريخ، والفظائع التي شهدتها المنطقة التي نعيش فيها من حدود ويران شار إلى شنغال/ سنجار وأبعد، عندما نمضي إلى آمد، حيث قامت انتفاضة الشيخ سعيد أو ثورته سنة 1925 وفشلها  والعنف الدموي الذي اعتمده طغاة الترك ضده وأتباعه وكل الذين اتهموا بالتعاون معه بصور شتى.
بين مشهد موصوف بلغة المؤرخ أو الباحث في التاريخ، وآخر، يطلق الكاتب العنان لمتخيله الفني كي يوحي للقارىء أنه روائي وليس بقارىء تاريخ وللتاريخ، وباق في التاريخ حصراً، إنما ما يجعل التأريخ مادة حية في ” مختبره ” الذوقي أو الفني أو سرديته الروائية، وحدوث ذلك الشعور لحظة قراءة ذلك المسترسل فيه بذائقة سارده الموصول به، أنه نزيل عالم مصنَّع باسمه، وما في هذا النسج الأدبي من معايشة شعرية، وهم يضفي طابعاً روحياً على لغته في السرد .
وتجربته في السرد الروائي ناطقة بتاريخها بعد روايته الأولى والتي لا تخفي تلك السيرية في بنيانها الأدبي ” زيرو Zêro – 2019 “، وما ينتظر الطباعة من تجارب كتابية متنوعة، سوى أن هذه الجديدة تراهن على معطيات تاريخية، كما هو الممكن تجلّيه، بمقدار ما تعزز موقعها في وعي تاريخ، بغية ولادة رواية تخرج من رحم التاريخ هذا، ويكون لها حسَبها الخاص بها تالياً.
ما نلاحظه في الصفحات الأولى يفصح عن هذا الوعي والتنبه:
في كلمة الشكر: جهة جمع المعلومات والدعم، حيث يذكر الفنان الأرمني المعروف ابراهيم كيفو KêVo  ، والذين أمدّوه بمعلومات أخرى، تخص شخصيات في الرواية، مثل خلف شلاش وصالح بتولى…ولفت نظر القارىء إلى أن ليس من عمل كهذا إلا ويكون فيه نقص ما. وما يخصه، أي الكاتب، على أنه بذل قصارى جهوده لتكون الرواية في مستوى المنشود فيها..
وما يأتي فيما بعد، جهة المسألة الأرمنية باختصار، أي كيف كان للأرمن ذلك الحضور القوي أو الثقل النوعي اجتماعياً وثقافياً وصناعياً ، في شرق الأناضول، وماذا فعل الأتراك بهم في مطلع القرن العشرين خاصة” حيث كان ضحايا الأرمن حوالي مليون ونصف المليون أرمني . ص9 ” وأي فظائع ارتكبها الأتراك ضدهم في القتل والتهجير نهبهم وسلبهم ..
وحتى ما يأتي من باب التوضيح لتلك الهمجية الممثلة والممارسة وقتذاك والسؤال : لماذا كان ولا زال يحصل ذلك؟ لماذا لا يملأ عين الإنسان سوى التراب. أتراه قانون الحياة هو هكذا؟ أم تراه الإنسان مجبول من التراب وإلى التراب مرجعه ..ص 14 .
أسئلة يطرحها التاريخ من صميمه، ويظل قارئه يطرحها على سواه، تجاه الفظائع المرتكبة. والتاريخ في بنيته ينفتح على بوابات جهنمية واسعة في المجمل. التاريخ وليد مأساة إجمالاً.
وما يأتي في سياق هذا الهم التاريخي وفي ضوئه، لتكون سلسلة أسئلة قصيرة عمن يعتبر ” بطلاً حياً في روايته، وبلسان سارد الكاتب وعن قرب:
من يكون سركيس كيفو؟
أتراه أنا؟
أتراك أنت ؟
أتراهم هم  أو أيضاً  نحن وهم ؟ ص 14 
مثل هذه الأسئلة لا صلة لها بالتاريخ لحظة قراءتها، إنما تنسَّب إلى عالم الأدب أو الفن، ولكنها في موقعها تُبقي التاريخ ببابه مفتوحاً على مصراعيه. كما لو أنه يحوَّل مما هو متكتَّم عليه إلى تلك الشفافية التي لطالما أجهد أعداء التاريخ المحرَّر من الوصاية أنفسهم ليبقوه أحادي البعد.
والرواية في مسوّغ نشأتها تحول داخل التحول: تحول التاريخ بما يعرَف بأحداثه ووقائعه، وتحول التحول لتلك الصدوع القائمة في التاريخ والمغيَّبة. والرواية تعرّي الملتبس وتنير ” سوأته “.
يمضي سارد الكاتب إلى إضاءة شخصية سركيس حيث تظهر جمعاً لمفرد وليس مفرداً بذاته، وما في هذا الضرب من التعبير من مسعى تجاوزي لحرفية التاريخ( سركيس كيفو الذي مثله، مليون ونصف المليون مضوا دون رجعة! وهو يمضي ويمضي ويرى أحلام الخوف في ارتعاشته.)
وما يعقب هذا التوصيف والدخول في مناجاة جانبية( المسكين، ماذا يمكنه فعله، ماذا يمكنه تفكّره، في تفكيره ثمة شيء وحيد باق، وهو من جهته استقلالية روحه..).
وما يعمّق مصابه ويوسّع حدود مأساته بالمقابل( سركيس كيفو يكلّم الحجر، الأرض الصخرية اللامتناهية، إنما أين هي وجهته، هو نفسه لا يعلم….ص15 ).
تيه في التاريخ حين يغلَق على التاريخ، وتصبح المصائر في مهب أقدار لا ترعوي هنا!
يشرك معه المكان، القدر: في مقام جبل ، شاهد على الجاري( القدر جبل ذو حمْل ثقيل، يضرب رأس المرء بواجهة الزمن، غير مميّز بين الرأسين: الكبير والصغير. ص 16 ) .
الجبل من الرواسي، ما يمسك الأرض، والمأساة القدر تحيل إليها البشر خصوصاً، وتستنزفهم!
تسمعنا الرواية صوتها من وراء ستارة التاريخ وقد أزيحت، كاشفة عن مجازر التاريخ، وما لم يستطع التاريخ التستر عليه، أو ما أظهره التاريخ للملأ  اعتماداً على صفاقة تاريخ مؤرشف باسم الذين يحتكرونه، ويعتبرونه لسان حالهم، وهم في موقع التباهي. أي إجرام يتخلل تباهياً كهذا؟
من المؤكد أن تاريخاً كهذا لا يعمّد دون مسوغات قانونية، دون شرعنة قواعد قتل وتبرير للقتل  مع تعظيم مرفق لكل ذلك. الطبيعة شاهدة بكل عناصرها الحية والمعتبَرة جماداً مسارح متنوعة فيها ولها وعليها في آن. وما يعرَف به التاريخ هذا على أنه ممجَّد بالعنف الدموي، وفي هذا العنف الذي يرسم التاريخ لوناً وشكلاً ورائحة، يطرح قانون مجتمع، وهيبة سلطة ضاربة.
وفي الذي اعتمده العثمانيون وأخلافهم الترك، كان هناك من يعززون فعل القتل الجماعي وحالات السلب والنهب والتهجير ظاهرة رحالة في التاريخ باسم شعوب ضد شعوب وقوى تستحكم، والمفارقة الكبرى، وكما يقول لسان حال السارد أن ذلك كان يتم بفتوى إسلامية، حيث( يوجد كثيرون، وعن عمد، وآخرون عن جهل، يعتبرون قتل غير المسلمين مشروعاً . ص 25 ) .
من التاريخ إلى خارجه، ومن خارجه إلى التاريخ، كما لو أن التاريخ كأحداث، والتاريخ بمعهود فني يتقابلان، ويكشف كل منهما عما يكونه الآخر، ويزيد في عمق المعني به .
وعلى خلفية هذا التشابك يضيء سارد الكاتب مجريات الحرب العالمية الأولى، بغية تعميق الأثر، واستجابة لمتطلبات الحالة التي محور حولها روايته، وما يمزج بين التاريخ الآلم المؤلم والمدفون في التاريخ والصارخ، حيث يصدق قول أحدهم: في كل حضارة جديدة ثمة بربرية، أي ما يجعل المدنيات مدانة، والحضارات التي تتفاخر بها شعوبها متكتمة على جرائم لا تحصى( 24 نيسان 1915، ماذا يمكن القول لهذا التاريخ الأحدب!. بالمئات من العلماء، المرشدين، المثقفين، الأغنياء، الصحفيين، الكتّاب والسياسيين الأرمن جرى اعتقالهم وإبادتهم. ص26 ). 
هوذا سرد تاريخي يستظهر التاريخ، بمقدار ما يستقبح محتواه إقراراً بحق مستباح هنا. 
هكذا يمكن الحديث عن الشخصية الإيزيدية المفعمة بالإنسانية والغيرة على ما هو إنساني: خلف شلاش، وهو ( ابن أخ عتمان اوزمو) وهذا كان قائداً لعساكر الملان، شجاعاً وذا عقل راجح، وذائع الصيت…” ص 47 ” وكان بينه وبين إبراهيم باشا الملّي علاقة وطيدة وله اعتبار عنده ” ص49″.وخلف شلاش هو من تبنى سركيس والمسمى بـ ” هِلوج ” ورعاه، وهو ما أعلمه به عليكو بقوله( انظر بنيّ. اسمك الكردي هلوج عفدي عتمان أوزمو، واسمك الأرمني سركيس كيفو، انتبه على مكانة هذين الاسمين .ص 77 ).
وعليكو هذا أرمني في الأصل واسمه إلياس لولو، وهو شاهد على فظائع مرتكبة ضد بني جلدته، وفي ” تل أرمن ” حيث حوّل اسمها تركياً إلى ” قزِل تبه: التلة الحمراء “..” ص 68 “.
هذا الظهور باسمين، وللاسم الأحدث ابتداع تاريخ قاهر وصارخ بجبروته وظلاميته كذلك، حيث الاسم الأصلي: زابيل في مواجهة مريم، سركيس في مواجهة هلوج، إلياس في مواجهة عليكو… هوايات فارضة أو تفرضها متغيرات الزمان والمكان، وهي تشهير بتلك التوافقات القهرية التي نجمت عن القوى التي ترفع من شأنها حقاً واحداً، وقانوناً يجب ما قبله في سلطة مطلقة أو شبهها!
وفقاً لما تقدم يمكن سرد وقائع حية وتوصيفها فنياً عرِفت بمناطقها: من آمد إلى  ويران شار عاصمة الملان، عاصمة إبراهيم باشا الملي، وسري كانيه والحسكة وشنغال، وتلك القرى المتناثرة أو الموزعة في الجزيرة حيث أسهمت بمواقعها في تلوين الأحداث وفي شراكة بناء الاسم ومنحه ذلك الحضور المأساوي بالنسبة لسركيس أو زابيل أو إلياس وغيرهم…إلخ، وتبقى مشاهد مختلفة في خاصية الرعب فيها، مضيئة كيفية سفك دماء الأبرياء الأرمن، وما في ذلك من إدانة للتاريخ. 
وما يستدعي المأساوي من مآس مشابهة ، تكون سبباً في هذا التشارك الوجداني، بالنسبة للكردي الإيزيدي أو الكردي المسلم أو الكردي بمفهومه القومي، بالترافق مع الأرمني كقومية، وحيث الإتيان على ذكر شخصيات أرمنية بتلك الشجاعة والمكانة الاعتبارية الاجتماعية والاقتدار، كما في حال سركيس كيفو وعائلته، وإلياس لولون وآكَوب ديكران وزابيل وعائلتها… إلخ، ضرب من ضروب المجابهة للذين يشكلون دخلاء على التاريخ وعلى المكان أو الجغرافية، كما في حال العثمانيين وهو يفرضون أنفسهم بالقوة والعنف الدموي على أصلاء المكان، ومع أولئك الذين شهد لهم التاريخ بذلك الحضور في المكانة والعنفوان يكون الكردي شريك المأساة وضحيتها ومسمّيها. 
توأما المأساة ووعد الآتي المنشود
في الطرف الآخر، الطرف الذي ينتظر تسميته المعتبرة، وبالمقابل بالنسبة لسركيس، تكون زابيل، واسمها الجديد الذي يضمن لها أماناً وقتياً طبعاً: مريم، حيث تبناها الإيزيدي الآخر والذائع الصيت خلو هَيتو ورعاها، بعد انتقالها من يد ضاربة وظالمة وأخرى. وحيث يلتقي الاثنان: سركيس ومريم، ويحبها ويعرض عليها الزواج معرفاً بنفسه مفاجئاً إياه بحقيقته، وليس كما تصورته إيزيدياً كما يقول هو:
( زابيل، أنا لست إيزيدياً! أنا ابن أخ خلف شلاش، هو من رعاني، اسمي سركيس كيفو، أنا أرمني. ص 98) .
كما لو أن الرواية نفسها تنتظر هذه اللحظة لتفصح عن مكنون عنوانها بصورة أوضح!
للإيزيدي كشخصية، دور كبير في توجيه الأحداث أو بنائها بالصورة التي تخفَّف بها مأساة التاريخ الجامعة بين الأرمني والإيزيدي والكردي المسلم نفسه، على خلفية من الاضطهاد الذي تعرضوا له من قبل العثمانيين والأتراك، الإيزيدية الذين عاشوا مآس تترى في مسار تاريخ المنطقة، وفي مساحة جغرافية واسعة تمتد ما بين ويران شار وشنغال، يشهد لهم التاريخ في الوقت نفسه بمدى تفاعلهم مع وقائعه، ومحاولاتهم البقاء ومساندة الآخرين رغم جراحاتهم الكبرى، كما في حال الأرمن، وفي شنغال بالذات مأثرة المكان وساحة المجابهة العنيدة لتحديات العثمانيين وتهديداتهم، وكما في حال الشخصية الإيزيدية ذات الصيت حمو شرو( 1850-1933) وهو من ( من ناحية كشكوكا، وهو أساساً من عشيرة دِنا حيث إنها عاشت في شرق دجلة منطقة خانِك وقباغا في جنوب مدينة دهوك..ص114 )، ولكم آوى من الأرمن وواجه العثمانيين رافضاً تسليمهم لهم ..
إن اقتفاء هذه الخطوط الملتهبة التي يشهد بها وعليها باطن الأرض، وروايات الطاعنين في العمر ممن رفضت ذاكرتهم النسيان جرّاء هول الجاري فيها، يمضي بنا من مجزرة إلى أخرى، من جريمة تلد أخرى، طغاتها وحماتها ورعاتها من يتاجرون بدماء الشعوب المضطهَدة ويستبدون بها إلى الآن، وبالطريقة هذه يشعر القارىء أن ” 160 ” صفحة، من القطع الوسط، عدد صفحات الرواية غير كافية، إنما ما لا يمكن حصره من الصفحات، تأكيداً على أنه من المستحيل بمكان التأكيد على أن مأساة عابر سبيل يتعرض للسلب أو النهب والقتل تحتاج إلى أكثر من مساحة ورقية كهذه، ويعني ذلك أن ما تقدمت به الرواية عبارة عن أمثلة معززة بالوصف لتستمر في الزمن بمآسيها المختلفة، أي كما لو أن الذين قضي عليهم شهود عيان على ماض لا يخفى في محتواه، ويشدون المستقبل إليهم، إلى أحفادهم وأحفاد أحفادهم، ليكونوا أكثر يقظة تجاه من يمكن أن يفتكوا بهم، أو يفعّلون عنفهم الدموي فيهم بصيغ شتى، وإن اختلفت ألسنتهم وأزمنتهم وأمكنتهم .
الرواية عبر شرفتها الفنية
عندما يقيم الكاتب علاقة مع التاريخ، فهو يحاول تصحيحه أو تصويبه وتعريته من خلاله، اعتماداً عليه هو نفسه على طريقة ( لا يصحح التاريخ إلا التاريخ نفسه ). ولا بد أن غمجفين من خلال الدفع بتلك الإشارات والتلميحات والمشاهد المنتمية إلى خانة التاريخ مباشرة، كان يريد التأكيد على أن أي شاهد من التاريخ بمثابة مجابهة لمن أراد ولا زال يريد الإبقاء على التاريخ كما لو أنه الوحيد القابل للقراءة. وما يتطلبه ذلك من وعي بتنوعه، والصراع بين تاريخ وآخر، وعنف الدائر فيه.
وليس في مقدوري هنا إبراز نوعية الجهد العقلي والنفسي المبذول من جهته، والزمن المستغرَق في ذلك ، وهو في متابعته لتاريخ له صلة بموضوعه، والأمكنة التي تمثّل بوابات كبرى له، وأولئك الأشخاص الذين اعتبرهم حملة ذاكرات حية وبنوع من المحاكمة المفتوحة والصارخة لمن كانوا ذات يوم أوصياء على التاريخ، وهاهم اليوم جناته وفي موقع المساءلة في عراء التاريخ . يبقى الجهد كما أشير إليه آنفاً معززاً لحِرفية القراءة وثمارها المعتبرة، جهداً مصرحاً بمحتواه، مفصحاً عن أن حقيقة تستحق النظر فيها حقيقة تسمّي الآخر يجلوها سواه مختلفاً في لغته وقوميته، وما في هذا التفاعل من سعي إلى إمكان التشارك في تاريخ يحتضنهما وسواهما ويدشن حياة أخرى.
وحين ينتقل الكاتب إلى خاصية كتابة أخرى، خاصية التعبير الفني، يعيش تجربة حياة تسمّيه في العمق، وتكون محك اختبار لقواه النفسية، وحتى لمجمل ما كتبه ونشره شعراً ونثراً وسواه، وما في هذا الجانب من تحد لا يهدأ في مستطاع تخيله، وتلك الإيماءات التي تحتفظ للتاريخ بحقه حياً لديه.
يلتقط الكاتب من التاريخ ما يسهم معه في النطاق الذي يشغله، ويرى أنه يشغل غيره أرمنياً ، كردياً إيزيدياً، وكردياً مسلماً، في مطالبة التاريخ بما عتَّم عليه وإظهاره للآخرين ، وليكون ما لنفسه عليه في معايشة الفني الذي يتوقف على نوعية التمثيل الرمزية لديه في الحالة هذه. 
على سبيل المثال، ما أشار إليه بوصفه اعترافاً مؤكَّداً بحمّى التاريخ ومشاق الدخول في غابته، لحظة النظر في المسطور والمرفوع باسمه، والمأثور عنه وثائقياً، في الصفحات الأولى، تأتي النهاية رغم أنها تسمي ما كان تاريخياً، ولكن السارد يفصح عن مكنون نفسي أدبياً بصدد حفيد سركيس تأكيداً على أن الحياة ستستمر، حياة شهدت للأرمني بتلك الإقامة اللافتة فيها، وتلك المأساة الصادمة فيها، وها هي تشهد على أنه ماض في حيوات آخرين شهادة تحد لمن أرادوه عدماً .
إن الأسئلة التي طرحها سارد الكاتب عمن سيكون سركيس كيفو شخصاً له عنوانه زماناً ومكاناً، ورمزاً محوَّلاً إلى أكثر من جهة، يبدو أنها أسئلة تنفست الصعداء في نهاية الرواية( صفحة 159 )، وذلك جهة الإشارة إلى تاريخ متقدم جداً على تاريخ مبتدَأ به، حيث مسافة التاريخ قرن كامل( نهاية سنة 1996، ثمة إنسان مكافح، شجاع وعالم عصري، بقلب قاس، أعلن القدر نهاية لحياته.
سركيس كيفو، رحل إلى الأبد، بجسمه، بصوته، بوجوده وحركته العضوية…).
لنصل إلى طرح الأسئلة عينها بخصوص الاسم وشواغله المتشعبة، في الصفحة” 14 ” ليختلف المعنى والتفاعل.. وما في هذا التقابل من دخول إلى حاضرة حياة أخرى، في بضعة أسطر توجز الممكن الاكتفاء به كتعبير:
( ابراهيم كَره بيت سركيس كيفو، يحمل رضيعاً في حفاضة في حضنه. متجهاً إلى الشمس، وهو ينادي: ” جدّو، وداعاً، ارحل مطمئناً هوذا سركيسي قد أتى ) ..
كما قلت ، فإن التعبير الأدبي بمقدار ما يرتكز إلى التاريخ، فإنه يمنحه حضوراً ثلاثيّ الأبعاد بما يتجاوب ومقدرة السارد الروائي على تمثيل المعني، وتعميق مأثرة الحالة.
للعنوان الفرعي نفسه ما يؤخَذ به شاهداً رمزياً هذه المرة، يمنح الشاهد الحي حضوراً أمثل، كما في عنوان ” يا موت Mirinê!  . ص19 ” كما لو أنه يشخّص الموت، ويتعجب من أمره:
( لقد أوجعتَني جداً! أولئك الأشخاص الطيبين الذين كانوا يحمونني من حالات الضيق كافة، يا موت، في الشوارع، السهول، والوديان، جعلتهم أكداساً فوق بعضهم بعضاً..
يا موت، أهكذا يكون الضمير!؟ ). 
إدخال عنوان كهذا بعد صفحات تترى تتمحور حول التاريخ الدامي، لا يخلو من خاصية ندب ، ومن إبراز جانب المفارقة، والتعبير عما لا ينبغي أن يكون، والألم الذي يتحتم على وجود كهذا. 
إذا كان التاريخ صحراء بمقتلها العظيم والفظيع، جهة مدخولاته الصادمة، فإن الذي يعتبَر إخراجاً له من هذه الصحراء الشاهدة على الموت والرعب، هو النظر في الجانب الآخر، ما يمكن للكلمة أن تقوله في معبَرها الأدبي والإبداعي، كما في عنوان ” الكلمة . ص29 “:
( تريد الكلمة أن تحد بكاءها مثل سلاح، أن تنسج غناءها بصوت حزين.
نعم، يا زمن، اسأل عني أيضاً، خاف مني أيضاً، ألا تهابني، إن لم أكن همجياً،ذا ناب، وذئباً دموياً؟).
استدعاء صور متقابلة وما بينهما من مفارقات في تمثيل المعاني المتضادة محاولة تعرية للتاريخ، للزمن، وما يقابله في الكردية ” فلَك ” وما فيه من متغيرات أحوال ورعب المتحصل فيها، إجراء مجاز في صلب المعيش الأدبي أو الفني، ويسمح للكاتب أن يعزز مكانته وتمايزها أدبياً هنا. 
هناك مشاهد ومن خلال الذاكرة تثبت وجودها في النص الروائي، يلتقي فيها التاريخي بالأدبي، كما في مشهد يجمع بين ذلك القروي الكردي والمسلم والذي أثّر فيه خطاب الملالي، والذي ينص على أن كل من يقتل مسيحياً سيدخل الجنة، واسمه ” خَتو ” وهو يشهر خنجره في انتظار مسيحي وقتذاك ” زمن فرمان المسيحيين “، ليقتله كي يؤمّن له دخول الجنة. وتحيّن فرصته حين يلتقي بمسيحي جائع وهو يطلب منه خبزاً، ويدور بينهما حوار، إذ يريد ختو منه أن يسلم لئلا يقتله، بطريقة أثبتت جهله حتى بقول ” الشهادة ” والمسيحي هو من ذكره بذلك، فيؤدي ذلك إلى تغيير موقفه واحتضانه للمسيحي وهو يقول له:
( أنت أرمني وأنا كردي، أنت مسيحي وأنا مسلم، سنبقى أصحاباً وأخوة . ص 80 ) .
مشهد يعبّر عن وضع مأساوي، وعما يمكن الاقتداء به تاريخياً هنا طبعاً. 
في مشهد تعبيري، وصْفي يخص كلاً من سركيس وزابيل، يسترسل سارد الرواية في إبراز جمالية العلاقة الروحية والإنسانية بينهما، حيث يليقان ببعضهما بعضاً، وما في هذا الاسترسال من تفريغ لتلك الشحنات النفسية، وإبراز دور العاطفة في تنوير المشهد وتثبيته في الزمن كذلك.
إن كلاً منهما يعزز اسمه ومكانته للآخر وبه يكون، مثل:
(أنا زابيل، عروس أغاني ربيعك، لبدة أفق فكرك. إذاً لم أعد دون أب ، دون أم، دون أخ، دون أخت، ولا دون أهل. أنت الشتاء والربيع، الخريف والصيف أنا.
أنت قسمي ووعدي، أنا مرآة آمالك  وإناؤها.
أنا ثمرة حقل قلبك…..
-أنا سركيس، أنا ملك الظل والشمس، في جمال نجوم وجهك يكون ذلك الضحك ، هو أنا بالذات.. ص 112 ) .
مثل هذه الحوارات التي تشهد لها صفحات متباينة في مراميها ومعانيها ، سوى أنها تمثل مكبوت الروح المعذبة، والصرخة الحبيسة التي تنتظر لحظتها لترجمة تلك الجراحات التي سببتها الظروف، ومن كانوا، وربما لازالوا يسعون إلى تعميقها ووضع المزيد من ملح الإيلام فيها.
وغمجفين في كتابة روايته، سعى إلى تجريب ألوان من التعابير، أو أفانين القول رغبة مكينة في التأكيد على أن حدثاً مركَّباً ومروعا كهذا، يلتقي فيه أشخاص كثيرون، وينتمون إلى مذاهب وأعراق أو قوميات وأديان وألسنة، يحتاج إلى ” صهارة ” لغوية تتعدى مجرد التمثيل الكلامي، إنما التمثيل الحيوي لجغرافية نزفت كثيراً، ولا زال التاريخ يشهد على أنها تنزف، لأن الضحايا لم ينصفوا بعد، وأهل الضحايا وهم أحفاد لهم، يعيشون بتلك الذاكرة الملتهبة رغم تناثرهم شتاتيّين هنا وهناك، سوى أن الذاكرة تشدهم إلى ماض لم يمض بعد، وما نعيشه راهناً، وفي العمق، يفصح، وبرعب مرئي ويصدم الحواس والذاكرة وكل التوقعات، أن ما نعيشه اليوم في كارثيته موصول بما كان، ولو بصيغة أخرى، وهو ما يشكل تحدياً وصفاقة في مواجهة كل من يريد تاريخاً آخر وجغرافية أخرى، وعيشاً مشتركاً، يكون الغد هو رهان الجميع، لأن مجرد التفكير في الدم المراق ينشطه ويبقى الجرح شاهداً على أن ما كان في وضعية استمرار، وهو ما يُتخوف منه بحق.
ربما بالطريقة هذه، تكون رواية عزيز غمجفين قد أثبتت جدارتها في أن تكون رواية وفي مستوى اسمها، وجديرة بأن تقرأ من منطور المؤرخ والباحث في التاريخ، ومن يريدها رواية فقط…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…