ابتسامة كافكا حين التقيناه في حوار مفتوح «مع معهد غوته الألماني ودار المدى» في أربيل!

إبراهيم محمود
في الأدب وكل ما له صلة بالفكر والفن، ينفتح زمن آخر. شعور آخر بالحياة، لأن الكتاب المقروء يتكلم عن آتيه، مهما كان موضوعه، وقارئه القارىء يتحرك على حدود تشده إلى ما وراء حاضره.
وبمقدار ما يكون الإبداع حاضراً ينفي زمانُه ومكانه الزمانَ والمكان اللذين نُعهَد بهما، ولهذا تكون خاصية الإبداع فارعة، وقادرة على التحليق بالمعني به إلى ما هو أبعد من مكوّنه اليومي.
وما جرى في ملتقى كافكا ” فرانز كافكا: 1883-1924 ” الذي تنشّط باسم كل من معهد غوته الألماني ودار المدى في أربيل( السبت ، سا 6 مساء، 8 حزيران 2024 ) يدخل في هذا السياق.
التقينا كافكا، وكان حياً بروحه، التقانا وهو بابتسامته ” ذكّرني بابتسامة ” جوكندا ” مع فارق أن جوكندا” موناليزا ” دافنشي، كانت لوحة فنية أعيت متأمليها عن سر ابتسامتها، وابتسامة كافكا غير المعهودة” ابتسامة داخلية تقاسمتها آثاره، أعيت قراءه ونقاده وأمتعتهم في آن، بنسابتها الجمالية !

جرى التحضير له لبعض الوقت ، ليليق بمقامه طبعاً، في مئوية رحيله، وكنت محظوظاً بلقاء هذا النجم الإبداعي مع آخرين هناك، بعد دعوة موجهة ومقدرة من الجهتين، بإلقاء محاضرة بهذا الصدد، ولي مع كافكا أكثر من معايشة تمتد إلى أربعة عقود زمنية ونيف، وقد نشرتُ حول اغترابه، وعبر روايته القصيرة الرحبة ” المسخ نموذجاً ” في مجلة كويتية لها شهرتها ” عالم الفكر “وتالياً مقالات مترجمة، وأخرى تأليفاً، وشواغل أخرى هنا وهناك تتحرك على تخومه الكتابي.
الذين حضروا كانوا محبّي الثقافة وينتمون إليها كتابة أيضاً، وهذا يزيد في الحماس المعرفي .
يستحيل بمكان، أن آتي على ذكر كل ما قيل في الحيز الزمني الذي خصص لكافكا” امتد ساعات عدة ” وتنوع الحديث، كما كان تنوعاً في وحدة، تأويلاً كثيراً، وتفسيراً قليلاً، كما هو المعرَّف به.
الذي قدَّم للسيمينار وأدار النشاط الثقافي، كاتب ومترجم كردي ملؤه حماس لما هو ثقافي، ونشِط في إطار مشاركات دار المدى، على وجه التخصيص عموماً، وهو الدكتور بسام مرعي. وقد أضاء بداية عالم كافكا، وما مهد له، وصولاً إلى الحديث عني مشكوراً ، وبوضوح رؤية .
في نطاق العنوان، جاء الحديث والمناقشات” كافكا بين الكونية والاغتراب ” عنواناً يمتلك القدرة على هضم أي فكرة ويحيلها إلى معنى يزيدنا معرفة بهذا الواحد المتعدد: كافكا، في جل نتاجه.
هذا الوحد المتعدد الذي تمثّلَه كافكا بعمق، ودفع ضريبته من روحه وعمره الكثير، ليمكنه التكلم بلغات شتى، وتجاوباً مع تلك اللغة التي تتحرر من مركزيتها، وتكون لديها تمثّلَ الكوني فيها.
أن نتنوع هو أن ندرك ذلك الكوني في نفوسنا، والمجتمع الذي يقوم لا على التنوع يضيع في التاريخ، ويميت في إنسانه ما يخرجه عما هو تاريخي، وفي الشأن الإبداعي بصورة خاصة .
كافكا الذي التقيناه
هكذا أعنون هذه الفقرة هنا، للسير إليه أو لاصطحابه إلينا بروحه المحلقة بما هو إبداعي.
لماذا كافكا؟ أشرتُ إلى الرمز الثقافي الألماني الشهير غوته بداية، وكيف رسّخ مفهوم العالمية منذ قرابة قرنين، ورأى جهة شرقية ما يحتاج إليه، أو يرى به المفتقَد إليه، في ” الديوان الشرقي ” وهو يتحرك بقوله ( سأهرب من جحيم الغرب إلى جنة الشرق ) ونموذجه الحي” حافظ الشيرازي ” حيث مخطط الكتاب على النمط الفارسي ” المغني نامه، زليخة نامه، حافظ نامه..إلخ، وليقول في الشيرازي ما يرى به أمامه الممتد في الزمن، ملغياً الحدود، إحدى أبرز علامات الثقافة اللماحة .
لذا، يكون كافكا الآن مطلوبنا المعرفي ومرغوبنا النفسي. كما هي الثقافة الفعلية.
وأشرت إلى مدى تحسسي من هذا ” البين ” الفصل المنفّر، وهو إجرائي، لأن اللغة لا تعرف فصلاً، وعلامات الترقيم نفسها لا تعتُمد إلا في الكتابة، فنترجم بذلك ضعفنا، والعنوان الأسلم هو: كافكا الكونية الاغتراب ..لتكون الحركة غير مقيدة بجهة أو تردد ما .
أما ما قيل في وحول كافكا، فكثير أكثر، وما حضوره في لغات كثيرة عالمياً، ومنذ أكثر من قرن، وبلسان رموز أدب وفكر وفن، إلا الشاهد البليغ على تنفس ِ الكونية فيه، وما الكوني إبداعاً إلا المعرَّف به مغترباً، أو اغتراباً. ليكون هناك إمكان التفاعل مع المتغيرات. الكونية لاتناه ٍ، والاغتراب شعور بهذه اللاحدودية، وبحث عما يسمّي الاغتراب: الشعف الجسدي المثقِل على الروح، وليكون التعبير الإبداعي حديثاً، كتاباً، رسماً، وغناء…إلخ تجسيداً لهذه العلاقة القائمة.
سوى أن الجدير بالتذكير هنا، هو أن هذه التوأمة النابتة من جينة مركَّبة: الكونية والإبداع، تتغذى من الشر، والألم الموصول بالشر، هذا الحبل المشيمي الذي يصل ما بين الداخل والشر.
فسحة الشر للأدب هنا
للتأكيد ،نوَّهت، إلى أن المطلوب صحبة كافكا الحديث بلغة تكون قريبة مما كان يرتاح إليه ويعوّل عليه، أي بعيداً عن التكرار، والإنشائية. لذا، سعيت جاهداً إلى الدخول في عقد مضمر معه.
كيف يكون الأدب هبَة الشر؟ لأن ليس من أدب، كموضوع معمَّد اختياراً ونموذجاً، إلا حين يمنحه الأدب جواز عبور، ليتلقط ما هو مكثف ومؤثر في الحياة. ونحن دائماً عما يقصينا عن الشر وبمعرفة الشر بكل ما يعرّفنا به: الألم، الوجع، التوتر، الضيق، والقلق…إلخ، والحياة كلها تقوم على وعي الحد الأقصى من الشر المعتبر: الموت، إن فهمنا له يقرّبنا من أنفسنا.
وبؤس أدب يغنّي للحياة شعاراتياً، أو من زاوية ما يُسمى بالالتزام.. الالتزام في فحواه ومعناه تقييد، كما هو العُرف الكاتم لصوت الروح وتفردها. أي ما يخرج الكاتب من ذاته، ليكون بوقاً إيديولوجياً. وقد أثبت التاريخ وهم الذين ساوموا على مثل هذه العبارة ودجنوا الكاتب والفنان من خلالها.
كافكا التزم بنبض روحه، وبأفق الرؤية لديه، لهذا كان هذا الذي وصل إلينا، وقد ملأ الدنيا وشغل الناس، وتجاوز كل الذين حاولوا تأطيره و” تشطيره ” وتوتيره . أي تجويفه من الداخل.
كان المعبّر الدقيق عما يصدم المرء الفعلي في الحياة الفعلية، ومن خلاله يأتي العام العميق المتدافق داخلاً، كما لو أن وعيه لما هو بائس ومؤلم ومحبط، يملّكه مفتاح الدخول إلى العالم الآخر.
وفي مجتمعاتنا، لازال الكثيرون يعتبرون أن حديث أحدهم عن الواقع دون تسمية الشعب أو الوطن، أو ما يكون شعاراتياً، لا يعتدُّ به، وفي كافكا الذي قرىء بلغات شتى، وفي كتب ودراسات لا تحصى، تبيَّنَ مدى العنف الرمزي لعلاقة انضباطية فوقية وشعائرية جارحة كهذه.
في كل ما عرِف به، روايات: المسخ، وكيف استحال كائنها الإنساني مسخاً، والقصر، والمحاكمة.. وقصصه الطوال: مستعمرة العقاب، فنان الجوع، جوزفين المغنية وشعب الفئران.. وقصصه القصار: رجل من الريف، النسر، الاختيار، الخذروف، قوانيننا…إلخ ورسائله…إلخ، ثمة عقد مشترك، بلغة تصل ما بين جميع ألوان نتاجه الأدبي، كما لو أن المسخ تجد صورتها، مثلاً في قصته البداعة: أمام القانون، أن الخذروف، هذه القصة القصيرة المبهمة والملهمة، تشير إلى : القصر، مثلاً، وأن : رسالة إلى الأب، تعمد أسلوباً آخر لإظهار رحابة متخيل الكاتب.
ما يصلنا بكافكا
كافكا لا يعطي الأذن لأي كان لأن يقرأه، ولا أحد يستأذن منه لكي يقيم علاقة ما مع أعماله. إنما هي الاستجابة الثقافية، ولو في تبايناتها، ولكلّ ما ينوي عليه. وهنا يظهر كافكا: الكبير، الصغير، الوسط، النحيف، السمين، الفارع القامة، المربوع، القزم، الإنسان الوسيم، المتجهم، والشارد الذهن، العادي جداً، البليد ، والعبقري، الزائل والأبدي…إلخ، تبعاً لطريقة القراءة والنظرة إليه، فهو حمال أوجه. فما أكثر كافكا وهو واحد، وما أقل كافكا ، وقد صار دون الواحد العادي نفسه. لكنه في أوله ومختتمه الافتراضي، يظل هو نفسه، وبالتالي، فهو لا يستمر خطياً، إنما يفيض بظله الرمزي، بأصواته المختزنة في نصوصه، ومتخيله ذي الطيات، والماهر سباحة، وحده يمكنه التقاط المصقول، الدرّ القار في أعماق هاتيك النصوص .
ليس في هذا مساومة عليه، أو رهاناً، أو تبنياً إيمانياً له، وإنما لما أبدعه هذا الغراب: اسمه بالتشيكية، وهو ليلي، وفي الليل البهيم تُرى النجوم، ومنقاره قلمه الذي يُخشى جانبه .
تذكيراً بكافكا، ما أكثر الذين انتقدوه وحاولوا الظهور باسمه، وهم يحاولون النيل منه، فانتهى أمرهم، حتى على مستوى الدول وإيديولوجياتها الكليانية، والدعوى إلى حرقه.. فلم يبق سواه.
وتكون القراءة القادرة على الفرز مع الزمن، بين الآني والمستمر في الزمن، مسمّية كل ذلك.
ومن هنا كان اهتمامي بكافكا، لأن فيه ما فيه بالصورة التي تحفّز على التنوع، على تجاوز الذات الضيقة، على نشدان الأمل في بطانة معتمة وسميكة للألم، وتوخَي النور في قلب الظلام، والوداعة والشفافية، في تلك السخرية التي تطعمت بها صوره وتعابيره، خلاف من حكموا عليه بكاتب التشاؤم أو السوداوية دون السؤال عما إذا كان الأدب هكذا يكون، أما خلافه تماماً .
البقاء في الكونية بالنسبة إلينا
أن نشدد على كونيته، فليس لأن هناك ” تمطيطاً ” في روحه أو ” نفخاً ” في ” شعرة ” له، وإنما لأن أدبه الذي يتقدم إلينا بأي لغة نحسن قراءته، يحفّز فينا إرادة البحث ومعانقة اللامحدود.
كردياً، ربما تحتاج قراءة كافكا هذا إلى مزيد من التروي، وليس بقفزة قاتلة، إنما بمعرفة ما نحن عليه، وكيف وأين كان يعيش كافكا، وتفهّم أسلوبه المركَّب، وفي الواجهة: تلك المرونة التي تتطلبها هذه العلاقة،  مرونة نكون قادرين عبرها على  معرفة صورتنا، وزننا، نوعية تصدعاتنا وجراحاتنا المختلفة، تاريخاً ومجتمعاً وثقافة وتربية.. دونها سنزداد إحباطاً..
هو ذا المأخوذ به فردياً، قبل كل شيء، وبعيداً عما هو قطيعي، كما هو الدائر هنا وهناك.
وأي حديث عن مثل هذا السطوع الروحي، يحتاج إلى شجاعة الاعتراف بخلبية الموصوف واقعاً، ومواجهة تلك الصورة المشوهة” المسوخية ” في مرآة صنيعة المجتمع بالذات.
ولعل فهم هذه العلاقة يدفع بالساعي إلى معرفة أي اغتراب يعيشه، إنما أي كونية تجيز له انتماء إليها، وربما بذلك ينتهي أمره سريعاً، جرّاء المضايقات.. لكن الأبدية تكون باسمه، كما قلت .
ما كان وما تلوَّن كافكاوياً
أشير هنا إلى جملة الأسئلة والنقاشات التي تخللت السيمينار، ومع أسئلة سابرة ومضيئة من جهة الدكتور بسام، أفصحت عما يسعد الروح، وهي في تنوعها، ترجمت الكثيرَ مما هو صامت وقد أصبح صائتاً، في التعبير أو الإصغاء، وأستميح الذين داخلوا أو سألوا أو استفسروا، إذا لم أشر إليهم بأسمائهم، فهم معروفون بها، وحاضرون بإسهاماتهم في الكتابة، والتفاعل معه، وفي الذي أفصحوا عنه، تلمست شغفاً نفسياً بالآتي، الأكثر إنعاشاً للروح بالتأكيد.
وقد أشرت صراحة، إلى أن الذي استشعرته من بدء النشاط إلى آخره، حتى مع التقاط صور مع الأحبة الحضور، ربما كان فريد زمانه ومكانه، في الراحة النفسية والتشارك الثقافي.
من قال أن الثقافة، والأدب بالذات، تعجز عن تنحية حدود كثيرة جانباً، والامتلاء بالكونية، صحبة توأمها الاغتراب، وهو يغور عميقاً باحثاً عن الإنسان مذ كان إلى لحظة كتابة هذه الكلمة الآن؟!
أكرر شكري من هنا، وهنا أيضاً لمعهد غوته الألماني ودار المدى، وكل الذين أسهموا في التحضير لهذا النشاط الثريّ، والذي حضروا، وأغنوا المناخ الكافكاوي بما يلطّفه إصغاء ومشاركة وتصويراً ، والذين لم يحضروا لأسباب مقدَّرة. كافكا الآن أكثر شفافية بروحه!
ملاحظة: لم آت على ذكر الأسماء التي ظهرت في الصور المنشورة، فثمة صور لم أعرفها. لأصحابها مني الاعتذار أيضاً. لهذا تركت الصور في مجموعها كما هي .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…