هذه المدينة «مشهد»

إبراهيم محمود

حسنٌ. هذه المدينة تتهمني بالجنون. لم ألمها. ولن ألومها. أغلب رجالها لا يثمرون إلا أبناء وبنات لا عيون كافية لديهم، لا قلوب تكفي لضخ الحياة المطلوبة لدورتهم الدموية. لا يدخرون جهداً، للقادم من أيامهم، وأيام أبنائهم وحفدتهم، وقد تجاوزوا الثمانين عاماً، وعيونهم تشع شبقاً وغلمنة ، مركّزة على مؤخرات النساء اللواتي يعبرن الطريق قريباً منهم، ولسان حال الواحد للأخر، وهو يتدغدغ في جسمه: آه لو كان عمري الآن دون الثلاثين لعرفت ماذا كنت أفعل، ولعابه يسيل كالرضيع.  أغلب نسائها يخفضن أنظارهن في خوف معلوم، تحاشياً لنظرات قناصية من أي منهم، وهن على دراية تامة، بأن أنظار رجال مدينتهن لا تفارق صورة المرأة بمقتطع من جسمها، خيالهم، في جوعهم المزمن، وهم يحجّرون كثيراً على نسائهم وبناتهم، ولا أكثر من مآسيهم التي لا مخرج من أي منها، إلا بإضافة مأساة أخرى كما اعتادوها يومياً .
حسنٌ. هذه المدينة تتهمني بالجنون كوني مأخوذاً بقصر النظر. لم ألمها. ولن ألومها. هم لا يرون جبالهم، وكيف أنها منتكسة قممها، منطوية على منحدراتها، مياهها التي تتخلل صدوعها، ممراتها، كما لو أنها دموعها المرة الصامتة، تسربل جهاتها بكل ما يزيد في تصحرها الداخلي تصحراً.
سماؤهم، بالكاد تتنفس نجوماً في شح ضوئها، بالكاد تفرج عن قمر هزيل، معلق، شبيه رأس نصفه فضي ، ونصفه الآخر مشَحور، يتدلى والسماء خيمة مخطوفة اللون، جهة مشنقة لا تكف عن التمرجح. ليس للعشاق موعد يستحق التسمية، لأن ليس للعشق مقام في مدينة مغشيّ عليها.
حسنٌ. هذه المدينة تتهمني بالجنون. لم ألمها. ولن ألومها. ولي فيها عمر محسوب حتى بالثواني، حيث أنشغل بها، كما تستحق، ليكون لما أكتبه فيها وعنها، ما يستحق التوجه إلى الآتي.
أفقها منكوبٌ مصاب بعسر النظر، وتبلد الحواس. كم تحتاج العين إلى مجاهدة، لترى ما يعصم ناظرها من السقوط المباغت والمؤلم. كم تحتاج الخطى إلى توازن، خشية التداعي جانباً، وحصول اللامتوقع رعباً.
حسنٌ. هذا المدينة لم ألمها. ولن ألومها. إن لمتها، لأظهرت فيها ما ليس لها، وإن ألومها، لأظهرت باسمها ما يكون خارج اسمها من المتوخى. لو أنها تعلم ما يعنيه الجنون.. لتوقفت عن اعتماده في قيامها وقعودها. فلا عقل إلا بجنون يهزه ويخضه ويحرره من اسمه المقيد بعلامات مؤطّرة له. لا عقل إلا بوجود جنون يشهد له على أن الذي كانه قبل قليل ، ليس هو نفسه، بعده بقليل، أن تاريخه الذي حفِظ عن ظهر قلب، فقد رصيده من البقاء، وعليه بتجاوزه، ليكون بهيئة أخرى.
لا عقل يُعتد به، إن لم ينظَر في آت بعيد، وفي شامخ عال، وفي فضاء لا يحاط به، وفي سماء تنعش الخيال بنجومها طرباً، وبطرق لا يحاط بها، تمتد إلى ما وراء حساب الكم إجمالاً، ولا يكون المحكوم بمرجع، معطى اعتباراً لا يطعَن فيه، سماء وأرضاً، إذ العقل مفهوم نوعي، لا قدرة له على الثبات، إلا إذا نعي محنطاً، كما هي المدينة هذه التي يصلى عليها ميتاً، ويثنى عليه في خبر كان، ويدعى لها بالخير، وهي منزوعة النبض المطلوب لقلب تصادق عليه الحياة الحياة، وعلى صيرورة لا يؤخذ بها عافية وصافية ولامؤطرة، حيث رجالها يأخذون بنصفهم العلوي أكثر من نصفهم السفلي، ولا ينظرون إلى نسائهم إلا بوصفهن مقياس الحياة الجديرة بأن يُستحَم فيها روحياً، وحيث شبابها وشاباتها، يتدفقون طاقات، يُهتدى بهم، وأطفالها، يرفع لهم الغد قبعته، منتشياً بعمق.
الحياة متوقفة على الجنون في أوسع معانيه. والعقل الموهوب حياة، متوقف على ما ينزع عنه أمسه، حباً بغده، ويمضي به إلى غده، حباً بالتالي عليه، لينال اعترافاً من جنون، أصل العقل.
فكم أراني، وأنا في مدينة، تصدمني، في جل ما أحس، وأفكر، على مدار الساعة، في محرّك كل ثانية أعيشها بكامل جسدي: خلايا وأنسجة. أمل، أشد عليه، لعلها” المدينة ” تنفض عنها خريطتها التي يضيع فيها عابر السبيل، والمشغول بالوقت الفعلي، ومتوجباته، وبالعالم الذي يتدفق حيوات، ببشره، وكائناته الحية الأخرى. فإلى متى يظل انتظار ” غودو ” قائماً ؟!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

“إن لم تجدني بداخلك، فإنك لن تجدني أبداً”
قول قاله جلال الدين الرومي، تذكرته وأنا أطوف بين أعمال التشكيلي رشيد حسو، بل أحسست أن أعماله تلك تخاطبني بهذه الجملة، وكأنها تقول لي: التفت إلى دواخلك فأنا هناك، وإذا أردت أن تقرأني جيداً اقرأ ما في…

فراس حج محمد| فلسطين

تعالَيْ
متّعي كُلّي بأعضائكْ
من أسفل الرأس حتّى رَفعة القدمينْ
تعالَيْ
واكتبي سطرينِ في جسدي
لأقرأ في كتابكِ روعة الفنَّيْنْ
تعالَيْ
واشعلي حطبي على شمع تلألأ
في أعالي “الوهدتين”
تعالَيْ
يا ملاكاً صافياً صُبّ في كأس امتلاء “الرعشتينْ”
تعالَيْ
كي أؤلّف أغنياتي منهجاً لكلّ مَنْ عزف الهدايةَ

في نضوج “الزهرتينْ”
تعالَيْ

كيْ أقول لكلّ خلق اللهْ:
“هذا ابتداع الخلقِ ما أحلاهْ!
في انتشائك شهوة في موجتينْ”
تعالَيْ
مُهْرة مجنونة الإيقاعِ
هادئة عند…

“في الطريق إلى نفسي” هو عنوان الديوان الثالث عشر للشاعر الكردي السوري لقمان محمود، وقد صدر حديثًا عن دار 49 بوكس في السويد. في هذا الديوان يكتب الشاعر قصائده بخبرة شعرية واضحة المعالم، بما تملكه من حساسية الرؤية وخصوصية الالتقاط والتصوير والتعبير. فالشاعر شغوف منذ ديوانه الأول “أفراح حزينة” عام 1990، بشدة التكثيف اللغوي وحِدَّة…

خالد جميل محمد

في وظيفة اللغة والكلام

لا تخلو أيُّ لغةٍ إنسانيةٍ من خاصّيةِ المرونةِ التي تجعلها قابلةً للاستخدام ضمن جماعةٍ لغوية كبيرة أو صغيرة، وهي خاصيّة تعكِس طواعيةَ اللغةِ، وقدرتَها على التفاعل مع المستجدات، بصورة تؤهّلها لأن تُستخدم في عملية إنتاج الكلام بيسر وسهولة، متوسِّلةً عدداً من الطرائق التي تَـزيدُ اللغة غِنىً وثراءً، ويمكن أن تتمثل…