الأب العظيم المناضل والعالم والكاتب .. السيد رمضان البرزنجي

  دليرى كرد ..

في الصباح الباكر قبل طلوع الشمس ، أيقظني بصوت خافت يريد كأساً من العصير ، ناولته وبعد أن شرب ابتهل رافعاً يديه نحو السماء، متضرعاً داعياً لي بالتوفيق والنجاح ، حاولت أن أخفف عنه بعض الشيء ، ولكنه صمد واستمر في الدعاء .

ما بين الساعة الثامنة والتاسعة ، وأثناء جولة طبيب المشفى الصباحية ، أبلغنا بأننا نستطيع أن نخرج ولا خوف أبداً ، ونصحنا في الوقت نفسه أن نتريث قليلاً للإطمئنان على صحته أكثر وبقينا .
زارنا الكثير من الأصدقاء وأهل المنطقة أيضاً ، وكل من يأتي يصافحه ويقبله والوالد يسامح ويتأمله ، ويسأل الجميع عن أحوالهم وصحتهم ، ويبثهم لواعج حبه واشتياقه والفرحة تغمرهم .. والإبتسامة لا تفارق الشفاه ، استغربت من المشهد الذي أمامي ، كيف ذلك ..؟ .. منذ أكثر من أربع سنوات والوالد طريح الفراش ، وأكثر الأحيان في الغيبوبة الدائمة ، والآن أراه يضحك وابتسامته لا مثيل لها ، صوته يصم الآذان وحديثه يحرك الضمير والوجدان ، قلت في نفسي ربما تحسنت صحته وسيشفى بإذن الله .
في الساعة العاشرة والنصف ، طلب مني أن يخرج لقضاء حاجة ، حاولت أن أقنعه بأن الطبيب لا يسمح ، وأن النزول من السرير قد يكون خطراً على صحته ، لم يبال وبقي على إصراره .
توسلت إليه ورجوته أن يبقى في السرير ، وأنا سأساعده في كل شيء ، غضب وقال : لا تكن أحمق واتركني أخرج ، إن كنت تريد راحتي .
استشرت الطبيب فلم يمانع وتم له ما أراد ، بعد الخروج ساعدته على النهوض فلم يستطع ، قدماه مرتخيتان لا يقوى على الوقوف ولا على النهوض أبداً ، ناديت بعض الشباب في الممر وحملناه وأجلسناه في سريره ، بعد أن تمدد قليلاً .. نظر إلي بإمعان وهو يلهث وكأنه يريد أن يقول شيئاً ولم يتكلم ، فقط أدار بوجهه نحوي نصف استدارة وطلب مني أن أحضر الطبيب , هرعت إلى الإسعاف للإستنجاد بالطبيب وبعد أن عدت كان قد فارق الحياة ، وكأنني أحلم .. لم أصدق .. قبل قليل كنا نتحدث ، كان يبتسم للحياة .. للمستقبل .. للجيل الواعد . انفجرت باكياً .. لقد انطفأت شمعة الأمل ، انتهت أنشودة الحياة وغابت شمس الحق .
ناديت العالم .. كل شعوب الأرض .. أن يأتوا إلي ويشاركوني في وحدتي وعزائي ، أن يودعوا إنساناً .. كان رجلاً بكل معنى الكلمة .. كريماً .. رحيماً .. صادقاً .. مخلصاً .. وفياً .. عادلاً .. متواضعاً كل التواضع .
بكت الناس كلها .. صغاراً وكباراً ، حتى السماء امتلأت بالغيوم وهطلت زخات من المطر .. حزناً على رحيل عميد الأسرة البرزنجية .
حزناً على مناضل ٍ .. ناضل في صفوف الحركة الكردية منذ البدايات ، واعتقل مرات عديدة وسُجنَ وعُذّبَ ، وصودرت مكتبته أكثر من مرة مع نتاجاته الأدبية وكتاباته ، وحتى اللحظة الأخيرة من حياته .. كان وطنياً شريفاً محباً لقضيته ، ومرجعاً لشباب الكرد .
حزناً على كاتبٍ .. كرّس قلمه في خدمة شعبه ووطنه ، وأنجز بقلمه كتاباً في خمسة مجلدات بعنوان : أعلام الكرد .
وكتب الشعر أيضاً .. حيث قال في وصف البرزاني الخالد :
                   هذا هو الأمجد الغالي بل الأشهم
                   ها فوق هامته قد رفرف العلم
                   إن كنتم طالبين كنه عرفانه
                   عن وصفه في الوغى قد يعجز القلم 
                   ما زال يرقى العلا يوماً فيوماً ترى
                   يكفيكم سمعة منه هو الهمم
حزناً على عالِم ٍ من أعلام الكرد .. خدم دينه بإخلاص , وخدم شعبه وأمته بكل صدق ووفاء .
قال عنه أحد أصدقائه .. إنه كمفتاح الرنج يصلح لجميع البراغي ، لحسن لباقته .. ودماثة أخلاقه .. ومرحه الممتع ، ونزاهته وصراحته وتعامله مع الكبير والصغير .
وقال عنه أحد العلماء المقربين منه .. إنه معلمٌ : علّمنا أصول الدين وعلّمنا الكردية عن يقين ..
إنه سيد رمضان البرزنجي .. المناضل والعالم والكاتب ..
يتصل نسبه بأسرة نشأ أسلافها في (برزنجة) ، بمحافظة السليمانية في كردستان العراق ، والسلالة البرزنجية الكردية .. تنتمي بالأصل إلى العترة النبوية الشريفة .
ولد في قرية محركان .. التابعة لناحية قبورالبيض – القحطانية – منطقة القامشلي عام 1930م ، نشأ في كنف أسرة دينية فقيرة ، ذاق مرارة الحرمان والجوع والتشرد والبؤس والشقاء , ارتحل مع أسرة والده وهو صغير السن إلى قرية هيمو ، ثم إلى قرية قزلجة التابعة لمركز القامشلي ومنها إلى قرية خزنة .. دخل مدرسة الشيخ أحمد الخزنوي وكان متفوقاً جداً , إذ تعلم على يد الشاعر الكردي ملا أحمد بالو المتوفي عام 1991م , جميع العلوم من فقه ونحو وصرف , وكتب أخرى وتعلم الشعر أيضاً .
تولّى إمامة المساجد في عدة قرى بمحافظة الجزيرة في سوريا .. عيّن إماماً ومدرّساً في قرية مشيرفة الصغيرة عام 1948م , ثم تحوّل منها إلى قرية جمعاية التابعة لمركز القامشلي عام 1949م , وفي عام 1965م انتقل إلى قرية الشورالشرقي التابعة لناحية الدرباسية , وحتى لحظة وفاته كان يقوم بإمامة المسجد في هذه القرية حسبة بدون راتب . ما أعظم هذا الرجل إنه شعلة من الذكاء والعبقرية , وقدوة للعلماء الناهضين المتحمسين للدفاع عن وطنهم وشعبهم الكردي وحقوقهم . يستحق أن يبنى له تمثالٌ في الوسط الكردي .. ليخلد إلى أبد الآبدين ، تكريماً لنضاله الدؤوب وتضحياته التي لا تعد ولا تحصى ، وعلى الرغم من كل الصعوبات بقي صامداً ، وتابع مسيرته إلى الأمام بصدق وإخلاص ووفاء , حتى سمّاه بعض أصدقائه (أبو المحن) .. وقد أطلقوا عليه هذا اللقب أو هذه التسمية , بسبب حادثة وقعت لهم .. إذ كان لديهم اجتماع حزبي سري للغاية , فأحست الجهات الأمنية بمكان الإجتماع وداهمته ، فما كان من الوالد إلا أن يدس جميع الأوراق والوثائق تحت عمامته ، ومنذ ذلك اليوم ظلت هذه التسمية تلازمه .
إنه مدرسة العلم والنضال .. مدرسة الصدق والإخلاص والوفاء ، فليكتب الشعراء .. والشرفاء .. والتعساء .. والروائيون .. والصحفيون .. والسيناريستيون .. والمصورون .. والرسامون , ليتخيلوا لحظة وفاته في المشفى الوطني بالحسكة , في الساعة (11) ظهراً في يوم الأربعاء في 6 / 10 / 2004م , ودفنه في قرية الشورالشرقي حسب وصيته ، بالقرب من والدته وأخيه .
ليصوروا .. دموع الوطنيين الشرفاء .. بكاء الأطفال التعساء .. صراخ أمهات الشهداء ..
سيد رمضان لم يمت .. إنه باق ٍفي عيون الشعب ، في قلب كل كردي مخلص .. في ضمير كل إنسان شريف .. في ذاكرة الملايين .
اسمك على دفاتر الأطفال .. علمك في صدور الرجال ، نضالك درب الأجيال .. قلمك منبع الآمال .
أنت الأمل .. أنت الحياة .. أنت المستقبل .. أنت الوطن ، أنت الغد المشرق ..
نم قرير العين .. واترك التاريخ يكتب اسمك في سجل الخالدين ، في صفحة بلا عنوان ..
        فليكن ..
                 مناضل من كردستان .

                دليرى كرد .. Dilêrê Kurd  من كتاب (الوفاء لأبي) للشاعر والكاتب المسرحي دليرى كرد ..       

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

قبل أيام، أعلمتني رفيقة دربي، أن السيدة ستية إبراهيم أحمد دوركي، وهي والدة الصديق والحقوقي فرمان بونجق هفيركي، قد وُدّعت من دنياها. قبل يومين، أعلمتني ابنتي سولين من ألمانيا، أن صديقتها نرمين برزو محمود، قد ودّعت هي الأخرى من دنياها، لتصبح الاثنتان في عالم الغيب. في الحالتين ثمة مأساة، فجيعة. هما وجهان يتقابلان، يتكاملان،…

أحمد آلوجي

من بين الشخصيات العامودية التي تركت بصمة عميقة في ذاكرتي، أولئك الذين منحوا فنهم جلَّ اهتمامهم وإبداعهم، لا سيّما في المناسبات القومية واحتفالات نوروز التي كانت دائمًا رمزًا للتجدد والحياة. ويبرز بينهم الراحل الفذ مصطفى خانو، الذي أغنى المسرح الكردي بعطائه وإحساسه الفني الرفيع، فاستطاع أن يجذب الجماهير بموهبته الصادقة وحبه الكبير…

آهين أوسو

لم يكن يوما عاديا ،نعم فترة من التوتروالقلق مررنا بها.

إنه آذار المشؤوم كعادته لايحمل سوى الألم .

استيقظت صبيحة ذاك اليوم على حركة غير طبيعية في أصابع يدي ،ماهذا يا إلهي ،أصابعي تتحرك كأنها مخلوقات حية تحاول الهروب من تحت اللحاف ،هممت بالجلوس في فراشي اتحسس يدي ،نعم إنها أصابعي التي تتحرك لاشيء…

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرة حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.
منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر وفيا لنهجه…