ثمة شعور غريب يهيمن على المرء، وهو يتسقط أخبار الأهل، ولا سيما إذا ابتعد به المقام عن مضاربهم، والابتعاد-هنا- قد يكون مداه الأقصى ساعة زمنية، بالنسبة لواحد مثلي، وقد يكون أسبوعاً، لدى سواي، أو شهراً، أو سنة، أو أكثر لدى آخرين.
مؤكد أنني أشعربخجل كبير، وأنا أمام مدة قدرها ثمانية أشهر،فحسب، منذ أن يممت وجهي إلى الشارقة، إحدى مدني الجديدة، وحتى الآن، وقد وصلتها راجياً ألا أجد عملاً، لأعود القهقرى، أواجه ضيق اللحظة الذي أدمنته ، وهو يكوي الفؤاد والروح، وسبب خجلي-هنا- هو أنني مدرك بأن هذه المدة لا تقارن بمدد غياب الكثيرين من الأعزاء، عن أماكنهم الحبيبة، أينما كانت خرائطها.
تكاد صورة شاب رقي، لا تفارق عيني، عندما نزلنا معاً في العام 2007 في مطار الدوحة الدولي، وأدار وجهه إلى الطائرة واضعاً قدمه على درج السلم، وهو يمسك بباب الطائرة، بعد أن دلف منه، ليقول: والله لن أعود إليك قبل أن أكون ثروة كذا…. وكذا، وما إن انتهى من حديثه، سألته كم راتبك في العقد المبرم مع شركتك؟، فحدد رقماً، ظل في بالي، ولا سيما وأنني عدت إلى المطار نفسه بعد خمسين يوماً، “راكلاً المبلغ الكبيرجداً” الذي كنت أحصل عليه شهرياً-كما قيل لي- لمواقف يعرفها زملائي هناك، ممارساً قناعاتي، ومبدئي الحياتي، قائلاً: من لا يقبل إلا أن يكون كريماً في بيته، وشارعه، ومدينته، ما استطاع، عليه ألا يقبل من دون ذلك إن كان بعيداً عن أهله، لأن من يستأسد في دياره، عليه ألا “يتقطط*” إن نأى عن هذه الديار، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من الكتابة التي-من المؤكد- لن أخوض فيها يوماً ما، أمام كثرة ما أرجأته منذ ربع قرن، وحتى الآن، ولم أنفذ من كل ذلك ذلك أي شيء..
ولعل الأخبار السارة- بالرغم من ندرتها- تفرح المرء، في هذا المقام، إلا أنها تظلّ كسيحة، سلحفية، لا تكسر أية مسافة، لتترك الأبعاد مختصرة على أيدي ما هو أليم منها، ولعلّ غياب الأحبة، ونحن بعيدون عنهم، من أمرّ هذه الأخبار، وهو ما يجعل المكان محيلاً إلى سدرة الألم الرهيب.
ثمة قائمة أمام ناظري الآن، فيها أسماء عزيزة جداً، غابت-مؤخراً- وهي تترك وخزها الأكثر ألماً في الروح، و في طليعة هؤلاء-بالنسبة إلي- أحد أبناء عمومتي- وكان وراء الاهتمام بموهبتي في المسرح والكتابة، ضمن أسرة كانت تعدّ جد محافظة، وكان هناك من يتربص بي لمنعي حتى من الدراسة، إلا ضمن أحد الكتاتيب.
أجل، كثر هم الراحلون ممن كنت أجدهم قريبين مني، أو كنت أحتفي بإبداعهم-من جهتي- وكلما رحل أحدهم، رحت أعد مدينتي أقل شجراً، وأقل غيماً، وأقل فرحاً، وأقل حلماً.
من هذه الأسماء التي رحلت خلال الأسبوع الحالي-الملا نوري هساري- الذي عرفته وأنا بعد طفل-كما يخيل إلي- عندما كان إماماً في إحدى القرى القريبة من تل أفندي، مسقط رأسي، وما زالت صورته و عدد من رجال الدين من أصدقاء أبي الذين كانوا ينزلون ضيوفاً في أيام الخميس، يخصصونها ل” مذاكرة” ما يرونه ملحاً من أمور الفقه التي درسوها من قبل، وتوسيع معارفهم العلمية الأخرى، وكانت قصائد الخاني والجزري وجكرخوين وابن الفارض وابن عربي ، بل وقصائد بعضهم، من مستلزمات مثل هذه اللقاءات الحميمة، ممارسين غبطتهم بالحياة، في أجمل وأبهى شكل.
لا أستطيع استذكار- أكثر- من هذه الصورة شبه السينمائية، الغائمة، المضببة عن الرجل الذي سأعرفه، بعد أكثر من عقد حين أعود وألتقيه بصحبة أبي، وقد عاد إلى قامشلي، ليستقرّ بها، كي يقول أبي: إنه زميلي أيام الدراسة في كتاب تل معروف، وهو أيضاً شاعر مثل جكرخوين، ومثل ملا أحمد بالو، ويروي بعض مواقفهم جميعاً، ولأنقطع عن التواصل مع الرجل، إلى مرحلة أخرى تحت غواية السياسة، إلى أن يتم تكريمه من قبل لجنة جائزة جكرخوين التي أطلقتها مجلة مواسم، والملتقى الثقافي في الجزيرة، ليكون أحد المكرمين إلى جانب المرحومين كلش وبي بهار و محمد علي حسو وخليل محمد علي أمد الله في عمرهما.
وقد تكون طعنة الألم بفقد الفنان جمال جمعة –صديق الطفولة والشباب الأول- جد مؤثرة، وهو الذي عرفته منذ أول عمل مسرحي اشتركنا فيه كلانا في منتصف السبعينيات، ضمن فرقة اتحاد عمال محافظة الحسكة، وكان بين منزلينا ثمة شارع واحد، وتوثقت علاقتي بأسرته حتى نهاية السبعينيات، لأظل وهو محافظين على علاقتنا.
مازلت أتذكر عندما أوشى أحد رؤساء المركز الثقافي –في نهاية السبعينيات- بفرقتي الفنية، وكان من عدادها ممن أتذكرهم الآن الفنانون: كانيوار- عبدالهادي إبراهيم – عبدالجابر حبيب… وآخرون، وأدخل المغني كانيوار إثرها المشفى الوطني، إثر الاعتداء عليه من قبل ذلك الشخص، وجدت الفنان جمال جمعة من بين الموقوفين، يدافع عن فنانينا، بحماس جم، لتذهب نميمة ذلك الشخص أدراج الرياح، وإن كنت سأهجر خشبة المسرح، بعد عدة أعمال مسرحية تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً، ويستمر صديقي جمال، الذي سيغدو أحدهم أهم الفنانين، في محافظة الحسكة، وفي سوريا، وإن كان بعده عن العاصمة -دمشق- سوف يحرمه، ككثيرين من النجومية في أوسع مداها، بل وكان ذاكرة لمسرح المدينة مع أحمد شويش وسمير إيشوع، أستنسخ بعض صوري على خشبة المسرح مما هو متوافر في أرشيفي أحمد وجمال، لأضيعها في كل مرة، حتى أظل رجلاً من دون أرشيف شخصي.
ثمة قصص كثيرة بيني وجمال، الذي كنت أجدني أحس براحة كبرى مع أهله، أبويه، إخوته، أخواته، وكأني فرد منهم، ولاتزال ترن في أذني عبارة أمه عني، كلما كنت أنقطع عن زيارتهم.
ذات مرة علمت أن أبا زهرة –كما كان- يحب أن نسميه- بأنه في مشفى المدينة القديم، يرافق شقيقته الصغرى التي كانت تعاني هجمة مرض اللوكيميا، وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، طلب مني جمال أن نذهب-معاً- إلى غرفتها، وهي ممددة قال لها: هوذا صديقي إبراهيم، مؤلف النص المونودرامي –مرافعات السيد إكس، جاء يطمئن عليك، ليقول لي بعد أن رحلت عن عالمنا: لكم أنا فرح لأنني حدثت شقيقتي عن عمل مسرحي لي، قريب، بالرغم من أنه لم يكتب لجمال تمثيل ذلك العرض، لأسباب خارج يدينا الإثنين.
خلال زيارتي الأخيرة إلى قامشلي، قبل بضعة أشهر، التقيت جمالاً في الشارع العام، عندما كان يسير –خاطفاً- إلى بعض شأنه، وكنت –أنا- غارقاً في لجة آلامي التي كنت أعانيها، أتذكر أننا تعانقنا بحرارة، سألني عن أخبار عملي، ووضعي، وسوى ذلك على جناح السرعة، كي أودعه، من دون أن أعلم أنه سيكون الوداع الأخير.
صديق آخر، هو المهندس سعيد أحمد، الرجل الأكثر إنسانية، وطيبة، والمعروف بنبله وسعة روحه، وهدوئه، والذي عرفته في صفوف الحزب الشيوعي، وعملنا معاً إلى حين، هو الآخر رحل في الفترة نفسها، بعد صراع طويل مع مرض عضال.
وقبل هؤلاء- بأسابيع- مضى أبو بسام” كبرو تازه” الذي عملنا في مدرسة واحدة، وكان يحافظ على الخيط الذي يربطه بمن حوله، مهما اختلف معهم، دائم التواصل مع مثقفي المدينة وناشطيها بروح نبيلة، ولقد قلت له ذات مرة: كم أشعر بمرارة كبرى وأنا أمر ببيوت بعض جيراننا السريان و الكرد وو- الذين هاجروا، وتركوا لنا الذكرى، ولكم سأغتبط لو وجدت وقتاً كافياً أكتب فيه رواية لائقة، عن هجراتهم، من خلال أسماء وأماكن شرحتها له، ما كان يدفعه لأن يسألني في كل مرة: أين روايتك؟، وهي أحد أحلامي التي لما تتحقق بعد .
هي وقفة، كان لا بد منها في محاريب كل هؤلاء الأحبة الجميلين الذين غادرونا على حين بغتة، و كانوا معنيين بالشأن العام، غيرين، هاجسهم خدمة كل ما هو سام، نبيل، كل على طريقته.
الخلود لذكرى هؤلاء الجميلين، وغيرهم من الأحبة الذين افتقدناهم وكانوا عناوين جميلة في خريطة القلب.