بداية الأدب الكردي (الحلقة السادسة والأخيرة)

تأليف: محمد أوزون
ترجمة: دلاور زنكي

ترى هل يستطيع المرء أن يبدع في أي لون من ألوان الأدب أو يحاول ابتكاراً أي فن من الفنون في بلد يسوده الفساد والتمزق والخراب؟. في أثناء الجرائم التي ارتكبها الأتراك في حق الأكراد منذ عام 1925م وحتى عام 1960م عاش الأكراد في محنة من القهر والتعسف فما كانوا يستطيعون أن ينطقوا أو يتفوهوا بكلمة واحدة من لغتهم.

إلا أنه في تلك الحقبة المقيتة الكالحة سطعت شرارات أمل من داخل سوريا (الجارة لتركيا) حيث كانت بقية من بقايا المتنورين الأكراد الذين نجوا من المذابح قد فرت إلى سوريا ولجأت إليها وأقامت فيها.
واستطاعت هذه الفئة المثقفة من الأدباء إصدار مجلة (هاوار-الصرخة) عام 1932-1951م[1] بريادة الكاتب العلامة اللغوي الفذ: جلادت عالي بدرخان ثم أصدروا مجلة (روناهي-الضياء)[2]. وفي مستهل عام 1940م صدرت في لبنان صحيفة (روزا نو-اليوم الجديد)[3] تحت إشراف ومسؤولية كاميران عالي بدرخان (1895-1978)م (شقيق جلادت بدرخان) الكاتب اللغوي… ولا يخفى أن هذه الإصدارات ساهمت مساهمة جليلة في خدمة اللغة وحماية الأدب.
ولا بد لنا هنا من أن نتريث قليلاً عند شخصية: جلادت عالي بدرخان. لقد كان أعظم وأجل مثقف وعالم بين كبار المثقفين والكتاب والعلماء “حفيد الأمير: بدرخان” ابن الرئيس الثاني لجمعية (جمعية التعالي الكردية) أمين عالي بدرخان الذي قدّم للأدب واللغة خدمات جلّى لا تنسى على مرّ الدهور والزمان.
لقد كان كاتباً وأديباً صاحب أسلوب نثري حديث وكان في الوقت نفسه شاعراً ولغوياً.. فلو لا كتاباته في اللغة والأدب ولو لا تلك الحسنات التي أضافها إلى اللغة ولو لا تلك الكتابات والآثار التي تركها لكان من المشقة بمكان الكتابة باللغة الكردية اليوم إن لم نقل لكان الأمر مستحيلاً. لقد أنقذ اللغة الكردية من الفناء وأضفى عليها رونقاً وبهاءً وروحاً مشرقة. لقد كان يدرك قبل الجميع حقيقة السياسة الكمالية ويفهما فهماً جيداً لذلك اتخذ التدابير الضرورية لدرء أخطارها.(91) فاستحضر لفيفاً من الشعراء والكتاب والأدباء ودأبوا على العمل في صون اللغة وتحسين اللغة وقدموا أشياء كثيرة.
ولدى صدور العدد الأول من مجلة “هاوار” كتب فيها باسم مستعار مقالاً عبّر فيه عن أهداف المجلة:
“لكي ينجح أي عمل من الأعمال لا بد من أن يتوفر نهج معلوم أو خطة مدروسة، وقد اعتمدنا في ذلك على القواعد والأسس فيما يلي:
1-نشر الألف باء الكردي بين الجماهير الكردية وتعليمهم.
2-معرفة اللهجات الكردية وجمعها. ومعرفة بعض اللغات الآرية والمقارنة بينها. الاطلاع على قواعد اللغة وتاريخها وتطورها.
3-جمع القصص والأقصوصة وكل صنوف الأغاني والأناشيد.
4-طبع الدواوين الشعرية ونشرها وتوزيعها وأعمال المتميزين.
5-مشاهدة ألوان الرقص وحلباتها.
6-معرفة العادات والطقوس والصناعات والحِرف في كردستان والعلاقات العامة بين الناس.
7- التاريخ والجغرافيا: الإطلاع على مجمل تاريخ وجغرافية كردستان، ومعرفة أسماء العشائر وتاريخها وفي عهد الأمير: شرف.(92)
تحققت هذه الأهداف جميعاً إضافة إلى أعمال ومؤلفات أوروبية تُرجمت إلى الكردية وطبعت، وتأسست مدرسة للكتاب الأكراد أطلق عليها اسم “مدرسة هاوار”.. وهذه المجلات الثلاث التي ذكرناها كانت صفحاتها مشحونة بالمواضيع الأدبية والثقافية. وهي تعتبر خزانة الأدب الكردي واللغة الكردية. وعن طريقها نشأ كتاب وأدباء خُلدت أسماؤهم وترسخت أسماء الرواد في ذاكرة التاريخ. إن الذين رصعوا صفحات هذه المجلات ونقشوا سطورها هم: جلادت عالي بدرخان، وكاميران عالي بدرخان، وجكرخوين، وأوصمان صبري، وقدري جان، ونورالدين يوسف /ظاظا/، وأحمد نامي، وقدري جميل باشا وآخرون. وبفضل هذه المجلات وكتابها نشأت مدرسة استشراقية كردية تخرج منها كتاب أوروبيون مثل: توماس بوا (الرجل الديني من المذهب الدومينيك)، وروجيه ليسكو، وبيير روندوت، ومستشرقون فرنسيون آخرون وما كان سيتسنى لهم ذلك لو لا “مدرسة هاوار”.(93)
وفي مجال القصة القصيرة الحديثة أيضاً سارت هذه المجلات خطوات حثيثة.. والكتاب الذين أتحدث عنهم وأدلي بأسمائهم كانوا بين حين وآخر يسطرون صفحات هذه المجلات بقصصهم القصيرة مثل نورالدين ظاظا الذي عرف باسم “تشيخوف الأكراد”… وقد فتحت المجلات الثلاث طريقاً ممهداً أمام القصة الكردية القصيرة. من كتاب مجلة هاوار الشاعر جكرخوين الذي نشر فيها قصته القصيرة الطويلة الفولكلورية بعنوان: “جيم وكلبرين” في عام 1948م.
أما جلادت بدرخان المتخصص في البحوث العلمية واللغوية فكان ينشر فيها أحياناً بعض القصائد أو نصوصاً نثرية. وشعره من الشعر الرصين والرفيع جداً. وشعره “مزماري” من أعذب الشعر وأحلى القصائد وأحبه إلى نفسي فأنا أرتله دائماً وهو لا يفارقني. وهذه الأبيات مرآة صادقة وناصعة عن نبوغ جلادت عالي بدرخان واتساع علمه وسمو فنه:
يا مزماري
أطلق لصوتك العنان
إنما الدنيا كطفل رضيع...(94)
وفي مجال الشعر يجب في البدء التحدث عن جكرخوين قبل أي شاعر آخر. وشعره منشور في جميع أعداد هذه المجلات. وهو الكاتب الأول بين كتابها نظم شعره على نهج الملا أحمد الجزيري والملا أحمد الخاني.
كان الشاعر جكرخوين (1900-1984)م يمثل عهداً جديداً في الشعر الكردي… كان ينحدر من أسرة لا حول لها تخرج من المدارس الدينية ونال “الإجازة العلمية” من تلك المدارس وحاز لقب (سيدا-الأستاذ الأكبر). حارب جكرخوين في شعره الظلم والاضطهاد، وقال كثيراً من شعره في مثل هذا المعنى. (95)
أمضى أيامه الأخيرة في المنفى، “في السويد” وتوفي هناك. دفن في داره في القامشلي وقد أصبح ضريحه مزاراً للناس.
عندما صدر ديوانه الأول غمر الناس إحساس بالبهجة والسرور. كتب جلادت بدرخان مقدمة للشاعر وقدري جان كما تحدث عن ديوان جكرخوين.
يقول قدري جان في مقدمته الموجزة التي قدم بها ديوان جكرخوين مادحاً الديوان ويقارنه بالآثار الكلاسيكية الكردية كالتالي:
“منذ عهد بعيد خلت أيدي الناس من ديوان ملا أحمد الجزيري وديوان ملا أحمد خاني “مم وزين” وكان عشاق الشعر الكردي يبحثون وينقبون عن هذين الديوانين دون طائل أو جدوى.
وبغتةً شاهدنا ديوان جكرخوين يظهر في الساحة في طباعة جيدة ومظهر أنيق. وأنني اعتقد أن ديوان جكرخوين سوف يملأ ذلك الفراغ الذي خلّفه الديوانان، ديوان “الجزيري” وديوان “مم وزين”.(96)
إن “جكرخوين” معروف بقصائده العاطفية وشعره في العشق وأحوال العشاق. صدر له حتى الآن سبعة دواوين. ولكن أعماله حسب معرفتي تبلغ بين مطبوع ومخطوط (40) أربعين عملاً.
كان ملماً إلماماً كبيراً بالتاريخ الكردي الحديث وشاهداً عليه مثل موسوعة حية تضم بين صفحاتها. كان على معرفة جيدة بتاريخ العشائر والأسر الكردية.. وكان ينبوعاً غزيراً للقصص والحكم والأمثال لا ينتهي ولا ينضب. في أيام وجوده في السويد كنت أواظب على زيارته كل أسبوع وأصغي إليه وهو يسرد بلغته الرصينة وأسلوبه البليغ الأحداث دون انقطاع أو نوقف كأنما يروي قصة قديمة.
ولدى العودة إلى كردستان تركيا نجد أنّ أيّ جديد لم يطرأ حتى عام 1960م في مجال الكتابة الكردية.. لم يظهر أي كتاب أو سطر ولم تصدر أية نأمة. ولم يبدأ تحرك الأكراد إلا بعد عام 1960م ولكن في مشقه وجهد وصعوبة. فما هي الصعوبات؟.
لنأخذ كتاب الصحافي الكاتب الكردي: موسى عنتر (1962-Kimil ) مثالاً، ودليلاً فهو يعبّر أفضل تعبير عن تلك الفترة العصيبة.
كان “موسى عنتر” ينشر كتاباته في الصحيفة التركية (Heri Yurt) فجمعها وأصدرها في كتاب بعنوان (Kimil) وكانت الكتابات كلها باللغة التركية إلا أنه أورد مقتطفاً من أغنية كردية جاء فيها:
Bi çiya ketim lo apo, çiya melûl bûn rebeno
Ceh seridîn lo apo, genim hûr bûn evdalo
Qimil hate lo apo, bi refan e rebeno
Xwar genimî lo apo, hişte kayê rebeno
Hat qimil e lo apo ji zozanan lo apo
Xwar genimê lo apo me xezanan lo apo
Ro hatibû lo apo wexta dana lo apo
Pez herikî lo apo ser şivanan rebeno
Çar kulekên me man apo li ser guhanan rebeno (97)
“شردت في الجبال يا عماه.. كانت الجبال كئيبة أيها المسكين. أينعت سنابل الشعير…الخ”.
والأغنية بحذافيرها لا تخرج من هذه المعاني- ولكنّ هذه السطور هزت الحكومة التركية بأكملها وأثارت الصحافة التركية في كل أرجاء تركيا وتناولت كبريات الصحف التركية هذا الموضوع وكتبت عن هذه الأغنية محللة ومعللة مدلية بشتى الآراء والنظريات مهوّلة الأمر وإزاء هذه الضجة الإعلامية وضعت الدولة يدها على “القضية” واحتوتها..
ومهما يكن من ضآلة شأن الأغنية وسذاجتها ولكنّ الكتابة بالكردية محظورة والقراءة ممنوعة.. وهل في اليد حيلة؟ فإن الحكومة التركية تفكر بهذه الطريقة، وبهذه الطريقة يفكر المدافعون عنها. وفي خاتمة المطاف أقيمت دعوى قضائية على موسى عنتر وعلى المسؤول عن صحيفة (Ileri Yurt) المحامي: جانب يلدرم ثم زج “موسى عنتر” في سجن “الحربية” في الحجرة/38/ في مدينة استانبول.(98)
لقد كانت الأوضاع في هذه الفترة سيئة وعلى غاية من السوء بالنسبة للأكراد ولغتهم وثقافتهم. وكان الظلم لا يدع أي مجال للمتنورين للتحرك أو التنفس بأي حال من الأحوال. وجميع الفرص والحريات الممنوحة للكُتاب والكتابة كان الأكراد محرومين منها لا قسمة لهم فيها. كانت الدعاوى الجزائية تقام على الكتاب الأكراد دون استثناء وتصادر كتبهم ويزجّ بهم في المعتقلات والسجون.. ومن أوتي منهم حظاً فقد استطاع الفرار وهجروا البلاد.
وعلى الرغم من هذه الويلات والمحن حدثت أشياء ونفّذت أعمال. وطبعت كتب في قواعد اللغة والألف باء.. وصدرت مجلات وصحف وإن كانت أعمارها قصيرة. وصدرت بعض الكتب، وعند الحديث عنها لا بد من ذكر كتاب (الجرح الأسود).. وهذا الكتاب هو أحد مؤلفات موسى عنتر كتب بأسلوب المسرحية.. كتب موسى عنتر هذه المسرحية عام 1965م في معتقل “الحربية-الحجرة/38/. وكان من الممكن أن تنشر المسرحية في كتاب عام 1965م. المسرحية تبحث في شؤون القرويين الأكراد وحياتهم اليومية، الذين يعيشون في القرى على هامش العالم معزولين عن البشر الذين يتجشمون أشق الأعمال للحصول على كسرة خبز. في هذه المسرحية يصور الكاتب بلغته السهلة الدارجة في نصيبين. قرية “زورآفا” وأسرة زينو وبرو كما يصور بطل المسرحية “بدو”. “بدو” شخص لبيب ذو وعي وإدراك.. إنه إشراقة الأمل في مجتمع القرية.(99) يدرس هذا الفتى ويتخرج طبيباً ثم يعود إلى مسقط رأسه. إلى قريته المنكودة ليضع المراهم والبلسم على جراحات أهله ويشفيها. يقول موسى عنتر في مقدمته الوجيزة: “ما أكثر الجروح السوداء في بلاد الشرق”. ثم يقول: الرمد والجدري والسل والجرب ولكن أبشع وأسوأ هذه الجروح التشرد والبؤس والجهل والفاقة والحرمان…(100)
وعلى الرغم من الركود الأدبي فترة طويلة أي فترة كتابة المسرحية فإنّ لغتهُ سليمة نقية لا تشوبها شائبة.
وعلى الرغم من الهشاشة الأدبية والنواقص الفنية في القصة القصيرة “ميرو” التي كتبها محمد أمين بوز أرسلان المعروف بمؤلفاته الكثيرة وخدماته الجليلة في ميادين المعرفة والآداب واللغة. جمع الكاتب القصص التي كتبها في عام 1970م وأخرجها في مجموعة قصصية. إنها معروضة بلغة سهلة وبساطة أدبية ومواضيعها هي المواضيع نفسها التي تطرق إليها موسى عنتر في مسرحيته: التشرد والجهل والفقر المدقع والتخلف. هذه الآفات القاتلة المصلته على رؤوس الفقراء هي التي تظهر دائماً في مضمون جميع القصص القصيرة.
ومع كل هذا وذاك ظهر في تركيا وسوريا نوع من التطور وصدرت بعض الكتابات والأعمال.. وحدث قليل من التجدد والانتعاش وكان لهذا القليل تأثير في الجيل الجديد الذي يمكن أن نسميه جيل عام 1968م وهذا الجيل استطاع أن يصنع شيئاً في مجال النثر وفي مضمار النظم والشعر. إن لم يكن في وسعنا أن نقول: الجيل لم يقدم أعمالاً عظيمة جداً حتى الآن إلا أنه ماضٍ على هذا السبيل.
يعرف محمود باكسي الكاتب والصحافي بكتابة قصصه القصيرة للأطفال. إنه يعيش في منفاه في السويد، يثابر على كفاحه منذ عهد بعيد.
في عام 1984م استطاع أن يخطو في مضمار القصة خطوة رائعة إذ كتب رواية للفتيان والناشئين تحت عنوان “هيلين”. و”هيلين” اسم الفتاة الصغيرة في بطولة الرواية. في رواية الفتيان والناشئين تروي الفتاة الصغيرة “بطلة الرواية” نزوح أسرة كردية من الوطن، هذه الأسرة التي لم تعد تستطيع تحمل الحيف والجور الواقعين عليها فتسللت خفية وفرت بجلدها.
“كوندكي دونو” هي آخر رواية للكاتب. موضوع الرواية هو الأحداث والعلاقات والروابط القائمة بين القرويين والآغا والحياة اليومية في مناطق “غرزان” و “غرزان” هي موطن آباء وأجداد محمود باكسي وهو من أهلها. إنه ينقل حياة قرية “دونو” على الورق ويخرجها في إطار رواية شديدة الأناقة وقيمة جداً والرواية مكتوبة بلغة أهل “غرزان” اليومية وفي كتابة محمود باكسي نتلمس أثر خطوات جادة.(101)
 بين أيدينا رواية أخرى تحكي قصة حياة يومية لطفلٍ. كتبها “بافي نازي”. إنه من أكراد سوريا. تلقى دراسته في موسكو وهو مقيم فيها. إنه يعرض بعونٍ من “جتو” مشهداً حقيقياً ذا ألوان في المجتمع الكردي. وعنوان الرواية مطابق لذلك الواقع “الجبال المروية بالدم” صدرت الرواية بالعربية والروسية أيضاً… إنها رواية جيدة وواعدة بالمزيد… إنها روايته الأولى. ومن الجيل الجديد كاتب آخر جدير بالذكر إنه: “شاهين بكر سوركلي” جده من جهة الأم من أهل كردستان تركيا.. هاجر بأسرته إلى سوريا مقيماً فيها.. إنه أي “شاهين بكر سوركلي” ملم بالنثر والشعر وبهما يكتب…
قصته القصيرة الطويلة الأولى هي: “حظ محمد كارتاش”. وفي اعتقادي إنها ملفته للانتباه. (102) والقصة القصيرة هنا مبنية على مسرحية فتى من كردستان تركيا.. إنه يعيش في خارج البلاد شقياً مشرداً.. لا يدري ماذا يفعل.. على أية صخرة يضع رأسه.. يتغلب عليه اليأس فينتحر.
إن رواية “شاهين بكر سوركلي” رواية حديثة في مضمونها وأسلوبها. عنوانها “الضياع” إن الكاتب يخلط بين المعاني الدينية والاجتماعية والتاريخية والسياسية ويخرج منها حكمة أدبية طويلة ومسهبة.. إنها الحكمة النابعة عن أحساس ووجدان شخص نأى عن وطن. إنقطع عن أهله. إن الكاتب يقع في نزاع مع نفسه، ويحاورها.(103)
ومن المجلات التي تستحق الاهتمام مجلة “تيريزTîrêj ” الشهرية التي صدرت في تركيا. ولكنها وأسفاه- لم تجذب إليها الانتباه عندما صدر في آخر عام 1970م بسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية آنذاك وظروف الشغب التي مرت بالبلاد. لقد كانت أول مجلة كردية باللغة الكردية يصدرها الأكراد بعد عام 1923م.. لم يستمر صدورها طويلاً فلم يُنشر منها سوى أربعة أعداد. وفي صفحات المجلة أسماء كثيرة ملفتة للنظر صاحب أحد هذه الأسماء يدعى “فليت توتاني” الذي يكتب قصصه القصيرة بأسلوب ساخر مشوق يشد إليه القارىء. إنه يكتب بمزيد من التألق والذوق الرفيع ولغة في غاية الرصانة يعرض على أنظار القراء مشهداً من المشاهد الكردية الإنسانية.
في مشهد الكاتب: “فليت توتاني” نشاهد نوابغ من رجال الدين، ونرى انصاف مثقفين، وكتاباً مغفلين لا يدرون كيف يكتبون، وقرويين مشائين بين الناس بالنميمة وآثارة الفتنة، وأصحاب الحوانيت، وأهل المدن المرائين المخادعين. ومن كتاب المجلة الشاعر “روزن برناس” ولشعره شهرة واسعة بين الجماهير الكردية. وعندما صدر له الديوان: “ِلباندفا سبيدى- Li Bandeva Spêde” و “Heyv Li Esmanê Diyarbekirê” ثارت بين القراء موجة من الاستحسان والإعجاب. و “حسن متي” أيضاً اسم مفعم بالأمل.. إنه من كردستان تركيا، يقيم في السويد. مجموعته المؤلفة من القصص القصيرة “آردو” نموذج جيد عن الأدب الشفهي الشعبي. وبعد هذه المجموعة اصدر مجموعته القصصية “سميرنوف” الأسلوب جيد واللغة عذبة والمضمون ممتع وجذاب وهو إلى جانب التأليف يمارس الترجمة. من أعماله التي ترجمها إلى الكردية أعمال “تشيخوف”، و دستويفسكي، و بوشكين، وكان قد أهداها إلى المكتبة الكردية. ومن الأسماء الرصينة “فرات جوهري”.. وكتابه المتضمن قصصاً قصيرة “المعتقل أو السجين” يستحق البحث.
بعد عام 1980م بشكل خاص ازداد عدد الكاتبين باللغة التركية وهم يصدرون كتباً قيمة سوف ينتفع بها الأجيال المقبلة. وحسب رؤيتي اعتقد أن هذا التطور يبصرنا بأن اللغة والآداب في سبيلها نحو الازدهار وأعتقد أيضاً أننا مقدمون على عهد من النهضة.
وفي هذا الصدد ينبغي لنا أن نتحدث عن الأدباء الأكراد الذين يكتبون بلغات أجنبية، وهم كثر في تركيا وسبب ذلك واضح فهم إما أنهم يجهلون الكتابة بالكردية أو أنهم يخشون إرهاب سلطة الدولة. وفي إيران وتركيا وسوريا يوجد كتاب أكراد يكتبون بلغات تلك الدول. ترى هل يستطيع المرء أن يصنف هؤلاء الكتاب بين الكتاب الذين يكتبون بلغة قومية؟ أو أن يقارنوهم بهم؟ وهذا الأمر مسألة خطيرة ليس بالنسبة للأكراد وحدهم بل هي مثيرة للتساؤل بين جميع القوميات في كل أطراف الأرض وتدعو إلى حوار مستفيض ومفيد.
وقد عنيت الآداب الأفريقية بهذه المسألة وصارت شغلها الشاغل وأربكت أدباء أفريقا وكتابها لأننا أينما توجهنا رأينا 90% تسعين بالمائة يكتبون باللغة الانكليزية أو الفرنسية. والجدال في ذلك قائم على قدم وساق. إن هذا الجدال محتدم بين أولئك الكتاب الذين لا يكتبون بلغة الأم مثال ذلك الكاتب الجزائري: كاتب ياسين، و راشد بودجدرا، و الفارسي “عبداللطيف لعاب” والشاعر السنغالي عضو الأكاديمية الفرنسية “Leopold Sedar Senghor”، والشاعر المارتيني “Aime Cesaire” وكتاب نيجيريا “Chinua Achebe” و”Wole Soyinka” و يردون عن السؤال الآنف الذكر كالتالي:
“أجل.. إن كاتباً يكتب بلغة أجنبية يمكن تصنيفه مع الكتاب القوميين الذين يكتبون بلغة الأم ويمكن له أن ينبوأ بينهم مكانة عالية “.(104)
يقول طاهر بن جلّون الكاتب الفاسي (نسبة إلى مدينة قاس” الذي يكتب باللغة الفرنسية في هذا الصدد:
“إنني أكتب عن عادات وتقاليد وأعراف بلادي باللغة الفرنسية لا أستطيع أداء هذه المعاني باللغة العربية والتعبير عنها”.(105)
وفي سوريا وتركيا وإيران والعراق جمهور غفير من الكتّاب الذين كتبوا عن بلادهم وما في بلادهم من عادات وتقاليد وآداب وعن تاريخ شعوبهم بغير لغة الأم-يعني ليس باللغة الكردية- بل بلغة أخرى ومع ذلك أسسوا لأنفسهم مجداً أدبياً. إنهم باختصار يكتبون عن الوطن وعن كل ما يحتوي عليه الوطن.
الكتاب الذين يتجهون إلى هذا المنحى كثيرون جداً، ولكي لا أطيل هذا البحث فسوف أجتزئ بأسماء ستة منهم هم عمالقة في حرفتهم: سليم بركات، وياشار كمال، ويلماز كوني، وسعيد آلب، وأسما أوجاك، ويلماز أوداباشي.
سليم بركات سوري الموطن، إنه كاتب وشاعر مهم جداً في كتابة الأدب الحديث العربي… إنه يفكر تفكيراً كردياً ويكب كتابة عربية،(106) مواضيعه كلها شعر أو قصة قصيرة… رواياته كلها عن الكرد وكردستان. يقتبس مواضيعه من الأحداث والحكم والأساطير والأغنيات الكردية.
يقول النقاد العرب: قليل من الناس من يمتلك مثل مقدرة سليم بركات على الكتابة باللغة العربية بهذه الرفعة والأناقة والسمو”.
أما يشار كمال فلم يوجد له مثيل بين الكتاب من استطاع أن يقحم الآداب الشفهية بهذا القدر من المهارة والحرفية في رواياته بشكل مسهب وموسع.
من حسنات كتب يشار كمال أنها تقرأ بجميع لغات العالم وهو في أحيانٍ كثيرة يتحدث كتاباته عن الآداب الشعبية الكردية وعن الأغاني والمطربين والملاحم الكردية مادحاً ومنوهاً بجودة ذلك كله.
في لقائه بالمتنور التركي “آزرا أرهات” عام 1976م قال: “لدى الأكراد شاعر كبير عملاق اسمه “عفدالي زينكي”.. إنه الرجل الأسطورة عند الأكراد.. وكان بين الأكراد مغنون ينشدون الأناشيد الملحمية.. ولديهم ملحمة “ممي آلان” وهي كغنائية “هوميروس” إلا أنها ليست خاضعة لقواعد النظم إنها أشبه بالشعر الكردي الحر في هذه الأيام… كان “عفدالي زينكي” يروي ملحمته… كتبت في “Yer Demir Gok Bakir”. لقد كانت ملحمة مدهشة.. كانت قصة حياتي…”.(107)
إن يشار كمال شاعر كبير غني عن التعريف إنه عالمي الشهيرة فلا حاجة إلى مزيد من الحديث عنه. وعن أعماله.
يلماز كوني أيضاً-مثل ياشار كمال- ينحدر من أسرة كردية، هاجر مع الأسرة إلى “جوكوروفا” واستقر فيها. كان يلماز كوني مخرجاً سينمائياً بارعاً وممثلاً كبيراً وكاتباً ناجحاً. ففي مهرجان “كان” السينمائي الذي افتتح عام 1982م اشترك فيه بفلمه المشهور “الطريق” وكان كوستاكافراس قد ساهم في المسابقة بفلمه: “الضائع” ونال يلماز كوني الجائزة الأولى.. أمضى الأعوام الطويلة في السجون التركية ومات عام 1984م في المنفى في باريس. وهو معروف برواياته في تركيا وفرنسا.
في بداية أعوام 1960م كتب روايته الأولى “Boyon Bukuk” وعن هذه الرواية حاز جائزة “أورهان كمال” وهي أكبر جائزة في تركيا في عام 1972م.
وعلى غرار روايات “يشار كمال” تتناول روايات “يلماز كوني” حياة أشخاص هجروا بلادهم وذهبوا إلى منطقة “Çukurowa” كي يستطيعوا أن يسدوا رمقهم وتتحدث رواياته بإمعان شديد عن أحوال مجتمع يتحول من الانغلاق إلى الرأسمالية.
“سعيد آلب” كاتب من طراز عام 1968م-يتحدث على النقيض من الكتاب الذين سبقت الإشارة إليهم- عن الأيام الماضية، والتاريخ المترع بالآلام والأسقام، وعن الهجرة والنزوح ألقسري والحسرات. إنه متعلق بالماضي، وهو أحد الأكراد المنفيين إلى الأناضول الأوسط.
وبتقنية عالية يضمن رواياته فكرة من الملاحم الكردية تتحدث روايته “الوطن” وهي روايته الأولى عن نزوح الأكراد ونفيهم إلى مناطق الأناضول وروايته الثانية “دورانDewran ” مثال جيد للإتيان بآراء وأفكار كردية. إنه يستحضر في روايته شخصيات الملحمة الشهيرة “سيابند وخجي” وينقلها بحكمة مهنية إلى أدوار منفصلة، ويكسوها ثياباً جديدة ويسلم إليها وظائف جديدة وفي هذا الصدد يقول كالتالي:
“إنني قبل أن أغيّر فحوى تلك الملاحم أو أبدل كلماتها ومعانيها فانني أصوغها في قالب جديد دائم التجدد يناسب أحوال شعبي. مهما بدت كلمات الملحمة ومعايير الرواية متناقضة فإن ذلك غير صحيح… واعتقد أن المرء يستطع أن يرى المسار التاريخي في نهج الرواية بشكل دائم وشمولي.(108)
إن “اسما أوجاك” في حرفتها الأدبية وتطورها مختلفة كل الاختلاف عن هؤلاء الكتاب الثلاثة. إن كاتبتنا هذه جاءت إلى الدنيا على أرض كردستان وعليها نشأت وترعرعت وما زالت مقيمة هناك في قرية قريبة من دياربكر. جميع كتبها وقصصها القصيرة “Berdel, Kirkar Daginin Duzu” و “Kervan- Servan” تعالج حياة المرأة القروية وتحكي همومها وما تتعرض له من جور واضطهاد. المرأة القروية تعرفها الكاتبة معرفة جيدة لأنها قريبة منها عن كثب. وزواج الشغار (البدل) عادة قديمة سيئة يعانيها المجتمع الكردي. إنها في قصة “زواج البدل- الشغار” تعالج هذه العادة بأسلوب مؤثر وبليغ متسم بالحكمة مليء بالدروس والعبر وفي قصتها “كركار” أيضاً تتحدث عن المرأة الكردية، المرأة الضعيفة البائسة التي لا تملك حيلة إزاء الظلم الذي تتعرض له بشتى صنوفه… وموضوع  “Kervan- Servan” أيضاً لا يخرج عن إطار حياة المرأة الكردية. وحسب عقيدتي فإنني أرى أن المرأة اذا شاءت أن تحمل القلم وتصف وتصور الحياة في بيئتها ومحيطها فإنها ولا شك ستبدع وستقدم فناً رفيعاً إلى الأدب وستفتح له نافذة جديدة.
إن الشاعر الحديث والشاب “يلماز أوداباشي” ينتمي إلى أولئك، ويفترق عن هؤلاء. إنه يبقى مع الآخرين ولأنّ الجميع يكتبون بلغة أخرى فهو مختلف عنهم. إن “يلماز أوداباشي” دائم التحدث عن كونه كردياً وأنه “شاعر كردي”… إنه يرى نفسه شاعراً كردياً… يكثر التحدث عن حظر اللغة الكردية وهضم حقها ومحاربة آدابها. وقد جعل الشاعر هذا الحديث ديدناً و وظيفة و واجباً. أي أنه شاعر لا يستطيع الكتابة باللغة الكردية بسبب الظروف المانعة… له ديوان شعر عن ثورة الشيخ سعيد. وله دواوين كثيرة مطبوعة.

[1] -مجلة هاوار (الصرخة): (1932-1943) وصدر منها 57 عدد.
[2] -مجلة روناهي (الضياء): (1942-1945) وصدر منها 28 عدد.
[3] -صحيفة روزا نو(اليوم الجديد): (1943-1946) وصدر منها 72 عدد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…