مدفن السلطان صلاح الدين الأيوبي

  إبراهيم عباس إبراهيم
 
“كردي كان صلاح الدين .. انتصر فأصبح عربياً .. ماذا لو هُزِم صلاح الدين ..كان جاسوساً كردياً”   

هذا ما كتبه الشاعر معين بسيسو كما كتب غيره من كتّاب وباحثين ومؤرخين كثر عن السلطان الكردي صلاح الدين الأيوبي ( يوسف بن نجم الدين بن أيوب) (589 – 532 هـ /  1193 – 1137م)، الذي أسس دولة إسلامية قوية واسعة مترامية الأطراف امتدت إلى ما وراء الجزيرة الفراتية شمالاً وإلى عدن جنوباً ومن العراق شرقاً إلى تونس غرباً. وحقق إنجازات كثيرة على الصعيدين العسكري والسياسي للمسلمين، كما ارتبط اسمه بالحروب الصليبية، تاركاً خلالها أثراً عميقاً في نفوس المسلمين والأوربيين، وبقي محط إعجاب الكثيرين في الشرق والغرب، وإنْ تباينت الآراء حول شخصيته، وتعمد بعضهم إلى تشويه صورته الحقيقية، وإبراز ما يمكن أن يسيء إليه وإلى إنجازاته.
كان صلاح الدين يتقن اللغات الكردية والتركية والفارسية إلى جانب اللغة العربية، ويعدّ من الأوائل الذين شجعوا على فتح المدارس المتنوعة، وشهد عصره نهضة تعليمية وعلمية وثقافية في مجالات متعددة، لسنا بصدد دراستها، وإنما نريد أن نسلط الضوء على مثواه الأخير، ذلك المدفن المتواضع كتواضعه، والبسيط في تفاصيله، لما يتمتع به من قيمة تاريخية تنبع من اعتبارات عديدة.

هوية الباني:
اختلف المؤرخون القدامى والمحدثون في تحديد شخصية ابن صلاح الدين باني مدفنه في دمشق، فقد ذهب بعضهم إلى أنه العزيز، ورأى آخرون أنه الأفضل. وقد انعكس ذلك في النص المدون على لوحة رخامية حديثة العهد معلقة على الباب الخارجي لمدفنه، جاء فيها:
 “المدرسة العزيزية ومدفن صلاح الدين الأيوبي بناهما ابنه العزيز عثمان سنة ( 592هـ = 1195م)”.
ولعل هذا الحكم بنسب عملية بناء المدفن إلى ابنه العزيز حكم غير دقيق فثمة مؤرخون عاصروا الأحداث ينسبون بناء المدفن إلى الأفضل، وما يؤكد رأيهم أن صلاح الدين حين وفاته سنة 589 هـ / 1193 م لم يكن قد عيّن وارثاً له على الحكم، وظل القائمون بإدارة الحكم مستمرين في عملهم كلٌّ في مكانه قرابة عام، ومعترفين بإشراف الملك الأفضل عليهم في سورية وفلسطين، وإشراف العزيز في مصر.

 ولا نريد هنا الدخول في تفاصيل النزاع بين الأخوين، ودور عمهما العادل في ذلك، ولكن الأخبار تبين أن العزيز حاول أن يستولي على مدينة دمشق أكثر من مرّة، ولكنه أخفق، وقد خرّب في إحدى هجماته الضريح الذي أمر الأفضل ببنائه بجانب جامع القدم ليدفن فيه والده أول الأمر، حيث كان صلاح الدين قد أوصى أن يدفن في دمشق، ويكون قبره على ” النهج السابل وطريق القوافل، ليدعو له الوارد والصادر، والبادي والحاضر، …”، وربما يكون هذا المكان هو الأقرب مما جاء في وصيته.
 وتذكر المصادر أن الأفضل بدأ يفكر في مكان آخر للضريح، فوقع الاختيار على المكان الذي هو فيه الآن، حيث اشترى داراً من أحد الأغنياء بجوار الجامع الأموي، وأنشأ المدفن الموجود الآن، ونقل رفات والده إليه في احتفال عظيم صادف يوم عاشوراء العاشر من محرم سنة592  هـ /كانون الأول عام 1195 م. هذا ما أكده عماد الدين الأصفهاني المتوفى سنة 597 هـ/ 1200 م في مؤلفه عتبى الزمان، وأيّده فيما بعد المؤرخ الدمشقي أبو شامة المتوفى سنة665 هـ/ 1268 م، وابن كثير المتوفى سنة 774 هـ/ 1372م  وغيرهم.  
أما فيما يخص المدرسة العزيزية، فالمتفق عليه أن العزيز هو من أمر ببنائها، وذلك بعد دخوله دمشق مع جنوده، وقيامه بإقالة الأفضل، وتعيين العادل حاكماً على دمشق. من ثم فإن المدفن هو من إنشاء الأفضل، والمدرسة من إنشاء العزيز. ونسب الاثنين معاً إلى العزيز غير صحيح.
مخطط المدفن وخصائصه المعمارية:
يعد المدفن من الأبنية التي تنتمي بطرزها إلى العصر الأيوبي، وفقاً للخصائص المعمارية التي يتميز بها، فهو عبارة عن بناء مربع، بني في كل جهة منه قوس كبير، واستخدم في البناء أنواع مختلفة من الأحجار (الأسود البازلتي، الأحمر المزّي، الأبيض الكلسي، الأصفر) في مداميك متناوبة ومنتظمة.
 لقد اعتمد المهندس في التنقل من المبنى المربع إلى القبة المحزّزة ذات الرقبة المضلعة (ثمانية أضلاع من الداخل، وستة عشر ضلعاً من الخارج) بواسطة حنايا ركنية. واحتوت الرقبة من الخارج على نوافذ تزيينية بصدفة (محاريب تزيينية بصدفة) وعددها ثمان. كما احتوت جدران المدفن من الخارج على نوافذ توائم (زوج من النوافذ مقوسة ضمن تجويفة كبيرة مقوسة أيضاً). وقد جاءت القبة محززة (ستة عشر حزاً)، يعلوها هلال محمول على أربع كرات معدنية بأحجام مختلفة تصغر كلما ارتفعت نحو الأعلى.
يحيط بالمدفن من جهتي الجنوب والغرب مجموعة من الغرف، ومن الجهة الشرقية قوس كبير كان جزءاً من المدرسة العزيزية، يتجه من الشرق إلى الغرب، مدبب في وسطه، مبني من الحجارة البيضاء المختلفة الأحجام.
تحيط بالغرف من الوسط ومن الخارج إفريز للوقاية من الأمطار، وكعنصر جمالي أيضاً، والمدخل الجنوبي مقوس وواسع، وممره المؤدي إلى المدفن مسقوف بسقف معقود. والملاحظ أن أسكفة (برطاش) الباب الجنوبي للمدفن يرتفع عن مستوى سطح الأرض.
اللوحات الكتابية:
يحتوي المدفن على مجموعة من اللوحات الكتابية، ومؤرخة بفترات زمنية مختلفة، أقدمها آية الكرسي، التي نقشت بخط كوفي بديع، وبشكل أحيطت بالضريح الخشبي كاملاً.
أما الكتابات الأخرى فأغلبها عثمانية، منها الكتابة الزخرفية التي تعلو الباب الجنوبي من الخارج، والمؤرخة بسنة1027 هـ، والموضوعة ضمن إطار مستطيل مقسم إلى أربعة حقول بزخرفة نباتية، ورسمت حول الإطار خطوط منحنية متقاطعة سوداء وبيضاء مجدولة، تنكسر في الزوايا لتشكل إطاراً كبيراً يحيط بالإطار السابق، والكتابة بخط الثلث، وهي:
     مزار صلاح الديـن أحياه جارُه                               فحاز تجارات بها صار رابحا
     وحال صلاح الدين نادى مؤرخاً                             مقامي بإبراهيمه تمرّ صالحا
 كما توجد في الخارج، وفوق الباب الشرقي للمدفن قصيدة مؤرخة بعام (1295 هـ)، ومؤلفة من تسعة أبيات، كتبت بالخط الفارسي وبلون ذهبي على أرضية خضراء، وضع كل بيت وعلى حدة ضمن شكل هندسي متناسق (مسدس).
دونت على الجدار الغربي (من الداخل) قصيدة أخرى باللغة العثمانية، وبالخط الفارسي، ومؤرخة بعام 1027 هـ، ومؤلفة من تسعة أبيات، تذكر سبب تجديد الضريح من قبل السلطان الغازي (عثمان خان)، الذي كلف بدوره إبراهيم باشا ليقوم بذلك تقديراً لبطولة صلاح الدين في استعادة القدس، وطرد الصليبيين من الديار المقدسة، وإعادة الاعتبار للبلاد الإسلامية، وقد أحيطت القصيدة من الجانين بمزهريتين، ونقوش نباتية وهندسية مختلفة.
   وفي أسفل هذه الكتابة أبيات من شعر البوصيري (1213 – 1296 م) بخط الثلث في مدح النبي:
                   فاق النبيين فـي خلق وفي خلق          ولم يدانوه فـي علم ولا كرم
               جاءت لدعوته الأشجار ساجدة           تمـشي إليه على ساق بلا قدم
               محمد سـيد الكونين والثقليـن          والفريقين من عرب ومن عجم
الزخارف:
يحتوي المدفن من الداخل – إضافة إلى تلك اللوحات الكتابية التي شكلت عنصراً جمالياً وزخرفياً هاماً- على مجموعة من الزخارف واللوحات الجصية (فريسكات) على شكل خطوط منحنية متقاطعة تشكل أطراً (براويز) مربعة أو مستطيلة، في داخلها أشكال هندسية متداخلة فيما بينها (دوائر، مضلعات، نجوم، مثلثات). وقد نفذت أغلبها بالألوان (الأسود، الأبيض، الأحمر)، إضافة إلى رسوم نباتية مختلفة (زهرة الرمان ، القرنفل) توزعت على الجهات الأربعة، وبالأخص على سواكف الأبواب المقوسة بأقواس محدبة مبتورة نفذت بطريقة الحفر والتنزيل، ومثل هذه الزخرفة شائعة في البيوت الدمشقية القديمة.
 كسيت أجزاء من جدار المدفن من الداخل، وفي العهد العثماني سنة (1037 هـ = 1627 م) ببلاطات خزفية قاشانية زرقاء شكلت أشكالاً فنية متعددة،منها لوحة مقوسة كبيرة تعد الأكبر في دمشق، ولوح مستطيل في أسفلها، وألواح الأعمدة الأربعة، وألواح المشكاة ذات الأشكال والأبعاد المختلفة، وجميعها تحتوي على زخارف نباتية وهندسية جميلة ومتنوعة، كما احتوت على بعض الكتابات.
يحتوي المدفن على ثمانية تجاويف صغيرة من الداخل (مشكاة)، في كل جدار اثنتين منها، وجاءت على شكل خوذة محارب، تعلوها زخرفة نباتية (أغصان، أزهار) نفذت باللون الأحمر والأخضر والأصفر والأسود، وقد خصصت هذه التجاويف لأداة الإنارة (مصابيح).

الضريح:
وضع الضريح الخشبي وهو الأساسي في الجهة الشمالية من المدفن، حتى لا يكون عائقاً للصلاة، واحتوى على زخارف بديعة عكست ذوق الصنّاع والفنانين الدمشقيين وأسلوبهم الفني في تلك الحقبة، وهي تصور موضوعات هندسية ونباتية، إضافة إلى الكتابة (آية الكرسي) التي أحيطت بالضريح كاملاً.
 وإلى الجنوب من الضريح الخشبي يأتي الضريح الرخامي الأبيض الفارغ، الذي قدَّمه الإمبراطور غليوم الثاني، إمبراطور ألمانيا، لذكرى السلطان صلاح الدين الأيوبي، لدى زيارته دمشق في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. عليه مجموعة من الزخارف الجميلة أغلبها نباتية.
خارج المدفن:
يتم الدخول إلى الفسحة السماوية للمدفن عن طريق باب عريض من جهة الشمال، وباب صغير مستحدث في الزاوية الجنوبية الشرقية، وتحتوي الفسحة على بحيرة بيضوية الشكل، ومجموعة من الأشجار، بالإضافة إلى خمسة أضرحة، ثلاثة منها لطيارين أتراك (كما يتبين من الكتابة المدونة على شواهد قبورهم)، أما الضريحان الآخران، فأحدهما للشهبندر، وهو من ” رجالات العهد الوطني “، والآخر لياسين باشا الهاشمي، الذي كان رئيسا لديوان الشورى الحربي سنة 1918م في عهد الأمير فيصل، ثم تقلَّد الوزارة مرتين في العراق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
1-  ابن كثير (أبي الفداء اسماعيل القرشي الدمشقي)، البداية والنهاية، توثيق: عبد الرحمن اللادقي محمد غازي بيضون، مج7، ج13 دار المعرفة، ط9، بيروت – 2005م.
2-  ابن أيوب (تاج الدين شاهنشاه)، منتخبات من كتاب التاريخ لصاحب حماه، دار المنار، ط1، القاهرة – 2000م.
3-  أبوشامة (شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل)، الروضتين في أخبار الدولتين، ج2، مؤسسة الرسالة، ط1، 1997.
4-   البهنسي (عفيف)، “القاشاني الدمشقي”، مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية، مج35، 1985م ibrahim.e.ibrahim@hotmail.com


01المدفن من الخارج


02القوس المتبقي من المدرسة العزيزية


03غرف تحيط بالمدفن من الخارج


04الضريح الخشبي


05الضريح الرخامي


06جزء من الكتابة المدونة على الضريح الخشبي(آية الكرسي)


07الكتابة التي تعلو الباب االجنوبي من الخارج


08البلاطات الخزفية القاشانية التي تزين أجزاء من المدفن من الداخل


09زخارف جصية (فريسكات)


10زخارف جصية

 

11زخارف هندسية تعلو سواكف الأبواب من الداخل


12زخارف هندسية


13مشكاة تعلوها زخرفة نباتية


14المدفن من الخارج


15أحد المداخل من الخارج

 
16كتابة بالخط الفارسي فوق الباب الشرقي للمدفن من الخارج
 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…