الإشكالية المطروحة هنا هو أننا قلّما نجد مثقفاً كوردياً يقرأ نصوصاً من الأدب الكوردي السوراني (بفرعيه العراقي والايراني) على إطلاع بثقافتهم من أبحاث ودراسات وترجمات ومسرحيات وروايات وما إلى أخره. والأسوأ من هذا، مَنْ منّا سَمِعَ باسم الباحث الكوردي الايراني (حسن قزلچي) دعك عن كتاباته وكذلك اسم الكاتب (كريم سنجابي) والدكتور (حسن پوور) وغيرهم، ربما قد ابتعدنا قليلاً في الجغرافية، لنأتي مرةً ثانية إلى العراق، هل سمعنا باسماء خريجي الأكاديميات من حملة الدكتورا منذ سبعينيات القرن الماضي ولا سيما رموز ثقافية غير عادية واسماء لامعة وقديرة من الأدب النسائي أمثال الدكتورة (نسرين فخري) والدكتورة (كوردستان كيو موكرياني) زوجة المؤرخ المعروف الدكتور (جمال أحمد رشيد) والدكتورة (شكرية رسول) والدكتورة (پاكيزا رفيق حلمي)، الاسماء الأربعة من خريجي حملة الدكتورا في الأدب الكوردي من جامعات الاتحاد السوفيتي (السابق)، وباستثناء عملهن التدريسي في الجامعات العراقية، كتبوا أبحاثاً علمية قيّمة في اللغة والأدب الكورديين في الصحافة الكوردية العراقية منذ سبيعينيات القرن الماضي ولا زالو حتى الأن يُقدمن نتاجاً علمياً وآثاراً ابداعية تُعَد ثراءً تُضاف إلى الخزينة الثقافية الكوردية، ومنبعها الذي لا ينضب، يثري العلم والثقافة، وهي المشعل الذي يُضيء الطريق أمام القارئ الكوردي ليستنير به عقله وفكره. أما بخصوص عمالقة الثقافة الكوردية أمثال المفكر والعلامة اللغوي (مسعود محمد) و(علاءالدين سجادي) و(محمد الخال) و(كمال مظهر) و(عبدالرحمن حاج معروف) و(ملا عبد الكريم المدرس بيارة)، فهذا أمر يستحق وقفة تقدير وكلمة مهيب عند ذكر اسمائهم. وهنالك مئات الكُتاب الذين سخروا أقلامهم خدمةً للثقافة الكوردية الأصيلة.
ما يثير التساؤل هنا أين نحن (ككتاب كورد سوريين كمثال) من جميع هؤلاء؟ وأين كُتاب كوردستان تركيا من هؤلاء؟؟ وأين مثقفي أكراد العراق وايران من كتابات وثقافة أكراد تركيا وسوريا؟؟ وماذا عن ثقافة أكراد ارمينيا وجورجيا والروس؟ وماذا عن ثقافة كورد أوربا؟ لا شك أن الإجابة على هذا السؤال أو هذه الأسئلة من الأمر البسيط جداً ولا يحتاج إلى أي جهد في إعمال الفكر باعتبار أن ما هو معلوم بالنسبة لنا هو أننا جميعاً في نقطة الصفر من بعضنا البعض، ويكمن السبب في وجود واضح لإنقطاع كامل بين أوصال الثقافة الكوردية الكوردستانية لأسباب عديدة: منها ما هو موضوعي يرتبط بمدى تطورات القضية الكوردية في السياسة الأقليمية والدولية التي قطعت أوصال الكورد ببعضهم البعض عن طريق فرض الحصار والقيود الأمنية على الثقافة الكوردية من جانب الحكومات التي تتقاسم كوردستان أرضاً وشعباً، ومنها ما هو ذاتي يرتبط بطبيعة حراكنا ككورد ودرجة تطور حركتنا السياسية ودورها الضعيف والغائب تماماً في بناء جسور بين أجزاء الثقافة الكوردية الكوردستانية وخاصةً في ظرف لم تكن الشبكة الانترنيتية قد توفرت، عدا أن الحدود الأقليمية والسياسية كانت مغلقة إلى حد ما، باستثناء الهامش الموجود وخاصةً في فترة تواجد الحركة السياسية العراقية على أرض سوريا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي مما سمح للظهور الجزئي للصحافة الكوردية العراقية وانتشارها بين أوساط السياسيين والمثقفين السوريين، وكان لهذا الاحتكاك دوراً ايجابياً وفاعلاً في نمو الحركة الثقافية الكوردية في سوريا.
أما من الجانب الأخر، والأكثر أهميةً، نجد أن هنالك إختلافاً واضحاً بين السورانية والكورمانجية في مستويات لغوية عدة: أبجدياً ونحوياً وصرفياً واصطلاحياً. هذا الإختلاف بحد ذاته مرشح للإتساع طالما أن المثقف والسياسي الكورديين كلاهما غير أبهين بها، أو أنهما لا يكترثان بهذه المسألة، فالسياسي يبرر موقفه بأن التصدي لمسألة كهذه لا يدخل ضمن اختصاصه وبالتالي لا يستطيع أن يتدخل فيما لا يعنيه وغير قادر في معالجته أو البث فيه لذا يترك المسألة لأهل الإختصاص مستقبلاً. أما المثقف، كاتباً كان أم لغوياً، هو الأخر يعول على السياسي ليبث في هذه المسألة ويصدر قرارته، لذا نراه يكتفي بنشر مقالٍ يبين موقفَه من هذه المسألة، إذ غالباً ما ينظر إليها من زاوية واحدة ويُقدم مبررات معينة يحاول بها تقديم مشروعية من أجل تفضيل لهجته على اللهجات الأخرى، أو هو الأخر يترك الأمر إلى المستقبل. ومن ناحية أخرى نجد أن اللغويين والمختصين وبالأخص من لهجة السوران لا يأبهون بهذا الموضوع، وحتى أنهم لا يُحبّذون إثارته طالما أن لهجتهم (أعني السورانية) هي اللغة المستعملة على نحو شبه رسمي في كوردستان العراق وبالتالي صمْتهم يعني الإبقاء على هذا الحال حسب رأيهم، أي الإستمرار في البقاء على اللهجة السورانية كلغة شبه رسمية للكورد، وهذه العملية يُخطط لها على نحو مدروس ليتم تثبيت أقدام هذه اللهجة كلغة رسمية لكل الكورد. هنا، وانطلاقاً من شعوري بالمسؤولية كدارس في حدود إمكانياتي في المجال اللغوي بشكل عام، وفي اللهجتين الرئيسيتين بشكل خاص، أريد أن أُبدي برأيي في هذه القضية الحساسة جداً وأرى أنه رغم ما تتمتع به هذه اللهجة السورانية من عوامل القوة في صياغة مباني الكلمة الصرفية والنحوية في حدود معينة، إلا أنها بالمقابل تتضمن مباني نحوية لا تساوي الكورمانجية في قوتها المنطقية والذهنية عند المقارنة اللغوية بالاعتماد على معايير النحو السليم بنيوياً، فمثلاً:
اللغات العالمية | السورانية | الكورمانجية |
I didn`t eat (English) I haven`t eaten |
nemxwardiye | 1. Min nexwariye |
I want (English) Je désire (French) |
Demewê | 2. Min divê |
لو تمعّننا في الأمثلة السابقة من حيث المباني النحوية المتوازية بين اللهجتين، نجد أن طريقة البناء الكورمانجي أكثر توافقاً من السورانية بالنسبة لمبنى اللغات الانكليزية والفرنسية ولمعظم اللغات العالمية. كما هو واضح في المثالين أعلاه هنالك سبب لغوي يتعلق بنحو الضمير المتصل (راناوي لكاو) الموجود في السورانية والغائب في الكورمانجية صيغةً وكيفيةً وموقعاً، إذ يصادفنا ضميراً منفصلاً ومستقلاً في بداية الجملة وهو المنطق المستعمل الكورمانجية والانكليزية والفرنسية وفق الأمثلة المكورة أعلاه بينما في السورانية هذا الضمير يتمثل بالوحدة (m) التي تاخذ موقعها بعد علامة النفي في المثال الأول (nemxwardiye)، وبعد علامة المضارع في المثال الثاني (Demewê). وهنا يكمن سر الإختلاف بين اللهجتين. في هذا المقال لسنا في صدد الخوض في القضايا اللغوية بين اللهجتين وهذا يتطلب بحثاً مستقلاً، لأن غاية المقال إثارة إحدى اشكاليات الثقافة الكورية التي تُعتبَر نتيجة لظاهرة لغوية ولو جزئياً أو لنقل إلى حد غير قليل. لهذا السبب يمتلك الكورد ثقافتين: واحدة تخص السورانية، والثانية تخص الكورمانجية، وكلتاهما تتلاقيان في بعض الأوجه وتتباعدان في أوجهة أخرى، لكن ما يثير الاشكالية هو غياب التواصل بينهما، وهل نستمر على هذا الحال ونبقى في هذا الوضع؟ أم نفكر بتغيير الوضع الحالي؟ ونفكر جدياً بالكيفية التي نستطيع بها ايجاد وسائل التواصل بينهما وبناء جسور ثقافية، وخاصةً أننا لم نعد نعيش حال القرن الماضي بعلاقاته المحدودة والمغلقة في اطار الحدود الجغرافيا لكل بلد، أننا الأن نعيش في عصر التكنولوجيا والشبكة الانترنيتية التي تشبك علاقات دولية جديدة وفرص كبيرة للتواصل بين البشر أينما كان، ومتى ما شاء؟ لهذا السبب أرى أن إحدى الطرق الممكنة جداً للتواصل بين مثقفي كوردستان هي تخصيص موقع أو أكثر على الشبكة الانترنيتية تطل على مثقفي كل الأجزاء الكوردستانية باستخدام لغات وسيطة (العربية والانكليزية) واستخدام اللهجتين الرئيسيتين (الكورمانجية والسورانية)، مع استبعاد التركية والفارسية باعتبار كل واحدة منهما تنحصر بجزء واحد. والجانب الأهم هو فتح حوارات بين مختلف المثقفين الكورد من الأجزاء الخمسة حول مواضيع عدة لأستبيان الرأي في مختلف القضايا: الثقافية واللغوية والأدبية . . . الخ. باعتقادي أن هكذا موقع سيشجع من نقاط التقارب بين اللهجتين الكورديتين وبروز المصطلح الواحد في عالم الكتابة باللغة الكوردية، علماً ان اللهجة الكورمانجية موجودة في كل الأجزاء الكوردستانية، وأن السورانية موجودة في كوردستان العراق وايران، لذا أرى أن الكورمانجية ربما تأخذ نصيباً أكثر في عملية التحاور الثقافي بين المثقفين مع احترامي ومحبتي للهجة السورانية.
أحد أبرز مظاهر الإنشقاق اللغوي بين الكورد هو إستعمال لهجتين مختلفتين في بعض جوانب البنية النحوية والصرفية، إلى جانب الإختلاف التام في شكل الأبجدية (اللاتينية والعربية)، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى فقدان التواصل الثقافي بين ناطقي اللهجتين الأساسيتين، واللتان تتحركان في تطور مستقل، كل على حدة، وهذا في اعتقادي سيؤدي بالضرورة إلى تكوين لغتين للقومية الكوردية دون أية محاولة تبذل في مسعى يقرّب بينهما بدلاً من أن يزيد الهوة. ويشجعه بعض التيارات السياسية من الطرفين وخاصةً الذين يبحثون عن زعامات، أو المجاميع التي لا تعرف من اللغة الكوردية شيئأً سوى القضايا السطحية، وليسوا ملمين بأسرارها وخفاياها ليصدروا بعد ذلك فرماناتهم وقراراتهم. بينما دعاة القومية الكوردية الحقيقين وكل من يشعر بالغيرة على مصير شعبه ومستقبله يرفضون هكذا منحى. وما يثير الدهشة أن التواصل بين أكراد الكورمانج في كل من تركيا وسوريا وارمينيا من جانب، وأكراد السوران في كل من العراق وايران من جانب أخر، يستدعي لغة غير كوردية كالانكليزية ليتم التفاهم عبر مترجمين أو من خلال اللغة الوسيطة (العربية أو التركية أو الفارسية) حسب جغرافية الدول الخاصة بكل جزء. هذا العامل سبب شرخاً في الثقافة الكوردية التي تتجه تدريجياً نحو عملية إنتاج ثقافتين مختلفتين في كثير من الأوجه، ومع مرور الزمن تتسع الهوة بينهما مما يؤثر سلباً على الرابطة القومية بين الكورد، وهذا ما يسمح لأعداء الكورد الدخول والتسلل من خلال هذا النفق ليزيد من حجم التباعد بين القوى الكوردية وخلق الفتن والنزاعات الداخلية بينهم بهدف اضعافهم ليتحولوا إلى فريسة سهلة للإنقضاض عليها.
حقيقةً لو أطلعنا الأن على النتاجات الثقافية المدونة باللهجة السورانية التي تصدر الآن في كوردستان العراق لعله أمر يثير الدهشة أمام هذه الحركة الضخمة في نشر هذا الكم الهائل من الإصدارات، سواء كتب أو جرائد أو مجلات، وخاصة ما ينشر في حقل الترجمة من كتب اجنبية (انكليزية وفرنسية والمانية … الخ) تنتمي إلى حقول معرفية عديدة: تاريخية وسياسية وفكرية وعلمية وأدبية . . . الخ.
إلا أن المعضلة الخطيرة هنا تكمن في أمر مهم وهو أن جميع قراء الكورد المنتمين إلى اللهجة الكورمانجية غائبون كلياً عن ساحة الثقافة السورانية، والحال نفسه مع ساحة الثقافة المدونة باللهجة الكورمانجية حيث القارئ السوراني غائب عنها تماماً كما لو أن قدرنا يتطلب ذلك. لذلك نجد أن الكوردي يلجأ إلى لغة وسيطة كالعربية والتركية والفارسية التي هي الأخرى لا تفي بالمردود التام والشامل بالنسبة للأجزاء الأربعة من كوردستان باستثناء أكراد ارمينيا وجورجيا وروسيا وأوربا.