(مأساة ممّي آلان) توأمة الحكي والفن

محمد المطرود

تتخلق عادة فجوة بين الحكي والفن وماقصدته بالحكي :الحكاية وماقصدته بالفن: فنيات القص،شفاهاً هناك توأمة سيامية،بين السرد الذي يتمظهر في الحكاية، وبين ماترجوه الحكاية نفسها في تظهير خطابها، مرة باجتراح ممكنات وقائعية يتمسك بها المتلقي ويحرص عليها، ومرة بانتهاج آلية كفيلة بتجبير الخطاب ولي ممكناته إلى ماهو غافل ومهمش،يقال بالعامية:صف حكي،وليس بالضرورة أن تذهب المقولة بتوصيفها إلى الكذب كمسرود، وإلى الكاذب كسارد، فشبه الجملة هنا صحيحة وتتقصد في جزء منها تلك الغواية، الملمح، في مكاشفة الحقيقة،
 فلو أن القطعة السردية التي اقتضت التوصيف ماكانت من القوة والوقع اللذين يحفزان السامع ويأتيان بها إلى المنطقة الخطرة من تتبع الحكاية من أولها، من صفرها، إلى حدها الأعظمي صعوداً، والإيمان بها إلى حد كبير، ماكنا وقتها أمام شبه الجملة الدامغة ولكن المختلة أيضاً، إذ هي وصفت الحدث على أنه حكاية، وفككت لنا (بصف) المفردة التي عنت التنسيق والتهذيب،ومن ثم الكلمة التي يمكن أن تكون نقدية أكثر في حالتنا هذه (الاشتغال) أي الفنية، والبحث عن مستويات العرض، ومن ثم سبر مستويات التلقي، تتعالق مأساة ممي آلان مع هذا التنظير،أو لنقل أن شغل محمد باقي محمد بجملته في كتاباته الإبداعية تروم هذه المساحة وتعمل بها، وكأن (الناص) يريد قول حكاية يرددها الآخرون على أنها حدث واقعي، ويريد لقارئ محترف أن يراها قصة، تستحوذ المبنى والمتن الحكائيين،قصة مخاتلة،ولها ماتضمره من الحنكة والحيلة،لتسويق ماهو ورائي،أو ميتا قصي،جمالي،ولعل إحدى قصص مجموعته (عن اختفاء العامل يونس) الصادرة منذ أكثر من 25 عاماً، وشخصية (أبو حزاوة) التي أستطاع القاص إعادتها من قاعها الواقعي إلى حيزها الفني، والعمل عليها لتكون نموذجا على إعادة إنتاج الشخصية مرة أخرى، ولكن المرة هذه بشيء من إلباسها صفات أخرى ماكان الناظر العادي يراها، تفاصيل ربما باهتة لكنها جاءت غريبة وصادمة، ومتندرة بحيث يقفز النص(الشخصية) بوعي من الناص إلى هدر مقولاته المتخفية، المقولات التي تجعله وجها لوجه مع الغائب الحاضر،فهو كائن حي، والبؤرة المعنية به كبيئة ضيقة للغاية، ويتم تشكيل حكايته الجديدة باعتباره غائباً، وممنوحا كثيراً من الصفات الملبسة له من الناص ومن المتلقي، الذي لم تعنيه الفنية بشيء،سوى أنها بصرته بخفاياه، تفاصيله، وتركته بقربها منه، القرب الذي قلنا عنه المدروس، المخطط له في الاصطياد، لينعم هو بنفسه في اللعب والمداورة، بإضافات مشتهاة، وتخدم تطلع ورؤى الصائغ الجديد، وحسب أسلوبه وقدرته في مخالفة النص الحرفي للحكاية.

في مأساة ممي آلان الحكاية مطروقة وحيكت على أكثر من مستوى من ُسرّاد كثر شفهيين، مافعله محمد باقي محمد انتشال الشخصية وإعطائها اسماً يتوافق مع اسم بطل قصة حب عميقة وفجائعية، ولكن بوقائع مختلفة بل مغايرة، وإن كان من رابط بينهما فهو النهاية السوداء، والتي قد تجمع العنوان كعتبة مع العناوين الأخرى بمتونها، نهاياتها، فالحدث الذي يصعَّد بالتحاق ممي بالجندية (العصملية) وغيابه 7 سنوات في مطارحات مع الموت والفقد والحنين إلى أم عجوز وامرأة، إلى العودة، وقد جاء ليلاً ليدخل خدر زوجته كلص،ومن ثم التثوير والتبئير الحاصل، حين تتنبه الأم على صوت خفيض وهمهمة في مختلى زوجة ابنها، لتظن سوءً وخيانة واقعة لامحالة، لتستل خنجرها وتغمده في صدر الولد الذي لم يشأ إيقاظها، رأفة بها، إذا النهاية لاصباح سيطل على ممي وهو يفاجأ أمه بمجيئه الذي تأخر سبع سنين،تنتهي القصة بالموت،كما في أغلب القصص إما انتحارا أو كما حدث مع البطل الذي تنسحب شخصيته كمقهور له الكثير من الخذلان والخسارات، على شخوص أخرى في قصص أخرى،وفي قصة الرائحة الانتحار بعد قتل الزوجة في لحظة ضغط نفسي مارسته الحياة ضد البطل، وفي (مع سبق الإصرار)،وفي قصة (لذاكرة مكتظة بالدمامل على نحو ما) هناك عتمة وغور يمارس ضد الشخصيات، لتنتهي في المحصلة، نهايات حقيقية أو نهايات مجازية، وفي(انكسار الحلم) إذ يتم نقد المدينة على أنها مضيعة للمشاعر الطيبة، المشاعر التي تؤسس لإنسانية حقة،ووجودها ضروة وليس سقط متاع.
في قصصه ينتهج محمد باقي محمد تقسيما ذكياً دراماتيكاً، يزيد من خصوبة القص،وتحميله المتعة الكافية،لتعلق صنارة القارئ العادي بصيد وفير،فلايتوه في شكل القصة وفنيتها أكثر من الحدث الذي بنيت عليه أو تميَّع بفعل التجريب أو مداورة اللغة والرهان عليها،ففي القصة العنوان (مأساة مم آلان) يكون تشكيلها كالتالي:الليلة الأولى،مقدمات الليلة الأولى، تفاصيل الليلة الأولى،إضافات على الليلة الأخيرة، خاتمة الليلة الأخيرة،ينسحب عنصر التقسيم على أخرى (الرائحة_لذاكرة مكتظة بالدمامل)، وإذا قلنا قارئ عادي، قصدنا مايتبين من الحكي ولم نقصد اللغة التي تأتي كلية لصالح الحكاية ولكن بأناقة وجزالة وصعوبة لايبينها ولايفك عراها إلا الواضح من الحدث والمبيت من القارئ كقصص مرَّ بها،وتعرّف على أشخاصها لكنه كان يجهل تفاصيل وجودها في حيزه،أو كيف صار له أن يتشبّه بها وهي كائنات لغة على الأغلب،وكائنات مخيلة قريبة، لم تبعد كثيراً لا لشح، وإنما لغنى في القريب نفسه.
السارد في (مأساة ممي آلان) هو الراوي المفجوع، بشخص المؤلف ذاته، بذاته المتشظية، والنهايات التي جاءت كلية سوداء ومأساوية لتلف المجموعة بذلك الخيط الموحد لها،ماضياً بالدلالات إلى أقصى ماتستطيع الوصول إليه في خلق توأمة بين الواضح، المعطى الذي تبيحه التقليدية السردية من تأصيل للروي ضمن الحدث والإحاطة به،من حيث أنه أحد الحوامل المهمة، إن لم نقل الأهم، وبين المضمّر المؤول، الشيفرات التي تتناهب الخطابين الظاهربوصفه من جوهر مجيئه بحالته المكشوفة، أنه لابد ويوحي للقارئ أن الشغل الذكي واللعبة التي تتمظهر جلية لابد وأن القاص هنا عنى ذلك، وكانت لعبته من صنع يده، وأن الأشخاص الواضحين بأفعالهم ومنتهاهم، ماهم إلا الخيوط المحركة بمعرفة تامة بذواتها، وماتطمح إليه،في سياق القص، أو مايطمح القص لترسيخة،إذ قلنا في مكان سابق،أن الحكاية تؤسس للحوامل أكثر من كونها تتحمل بحمولتها المعرفية والثقافية ذلك العبء، الذي يمكن له أن يفيض على المضمر بسخاء، فالنهايات المنتهية بالدم دائماً، شيء فيه الكثير من الإشارة القوية إلى دموية الوقت الذي نعيشه، وتمت الإشارة إليه من خلال أناس دائمي المأساة، أناس قدموا على أنهم مهزومون ومرضى بفعل ضغوط الحياة أو بفعل سلطة ما،بالضرورة هي أقوى من أن تزاح، كأن تكون هذه السلطة فعلا قدرياً، ضمن ثيمة المعتقد، واليقينيات،أويكون التابو، ليأتي المضمر كتخف فني يراد به قولاً آخر ، قد يكون هذا القول هاجس القاص، ومراميه الأخرى، كون الشخصيات التي قدمها وحكمنا عليها بالمرض أو الاستلاب،كشفت الحقيقة المفككة عكس ذلك،فهم عاقلون مدركون، ليسوا مستلبين، فالسجين الافتراضي لايقرر مصيره ووقت خروجه من خلف القضبان، بل هناك من له السلطة لفعل ذلك،في حين الموجودون في فضاء القص(مأساة ممي آلان) لهم مايؤلهم لأن يطلوا على مصائرهم، وتكون العصمة في يدهم،هم يختارون مايريدون،وما النهايات المختارة وعموماً المتمثلة بالانتحار كحل أخير إلا ضدية لما يمارس حيالها حيوياً، وبهذا هي تقطع على الناهب فرصة الزهو بالانتصار.
وإذا قلنا أن من القصص ماهو قد سمعناه أو ألفناه لم نعني أن اللغة المنتهجة من محمد باقي محمد إلا مختلفة وحسبها هذا الاختلاف الذي جاءت به، يقول أندريه جيد بمامعناه، علينا أن نقول ماقيل، طالما أن لا أحد يقرأ، قصص (مأساة ممي آلان) تحتمل وجهة نظر أخرى، غير التي سوقت لها، منمذجاً قراءتي بالدخول عليها من نافذتي الحكاية والفنية.
مأساة ممّي آلان (قصص)
محمد باقي محمد
دار التكوين 2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…