تحتفل الأوساط الثقافية الكوردية يوم (22نيسان) من كل عام بذكرى ميلاد الصحافة الكوردية، ويوم (26 نيسان) من كل عام أيضا بذكرى ولادة الأمير جلادت بدرخان، حيث ولد يوم 26/04/1893 في استانبول، وتوفي يوم 15 تموز 1951 بدمشق.
ساهم إلى جانب والده مع الوطنيين الكورد في تكوين ” جمعية التشكيلات الكوردستانية ” باستا نبول، و شارك إلى جانب الأتراك في الحرب العالمية الأولى برتبة ضابط في جبهة القفقاس، حتى وصل إلى تبريز وباكو.
بعد الحرب العالمية الأولى وفي سنة 1919م، كان موفداً عن ” جمعية تعالي الكوردية ” مع أخيه د. كاميران وأكرم جميل باشا، لإعداد قوة عسكرية مسلحة من الكورد، لأجل تحرير كوردستان الشمالية إلا أن وصول ” ميجر نوئيل ” الإنكليزي، وتبليغه لهم وجوب تفريق القوى الكوردية والقيام معاً بجولة في أنحاء كوردستان لمعرفة متطلبات الشعب الكوردي. وكانت النتيجة معاهدة سيفر عام 1920م ببنودها الثلاثة ( 62- 63- 64 ) الخاصة بكوردستان.
نفي الأمير جلادت مع والده أمين عالي بدرخان، أكثر من مرة في أرجاء الإمبراطورية العثمانية الواسعة. ثم ألجأته الظروف إلى التخلي عن المستقبل الواسع الذي ينتظره بعد زوال الحكم الحميدي، ليحارب النـزعة الطورانية الرامية إلى إفناء العناصر غير التركية، ونتيجة هذه الظروف القاسية، لجأ مع بقية أفراد عائلته إلى مصر وسوريا وأوربا.. وذلك بعد تعاظم حركة مصطفى كمال باشا ودخولهم الأستانة ( استانبول ) سنة 1922، بعدما خانوا عهدهم لزعماء الكورد والقوميات الأخرى الذين ساهموا في إنقاذ البلاد بدماء غزيرة.
عندما استقر الأمير جلادت في دمشق كان يعاني من ضيق ذات اليدين حيث كان معدم الدخل تماماً، وقد كانت الدولة العثمانية توقفت عن دفع التعويض عن ممتلكات عائلة بدرخان الواسعة في جزيرة بوتان وتوابعها، منذ تسلم أتاتورك السلطة، واستبدال التعويض ببدل نقدي هزيل من ملكية الإمارة البدرخانية. حينها عرضت عليه دولة فرنسا المنتدبة نفقة خاصة، فرفضها ليبقى حراً إلى جانب أحرار سوريا، وعرض عليه شاه إيران ” بهلوي” منصب وزير مفوض في إحدى الدول الأوربية، إلا أنه رفضها، كما عرض عليه الملك عبد الله الهاشمي منصباً خطيرا.. ؟! بحكم أواصر صداقة قديمة تربطه بعائلة أمراء بوتان إلا أنه رفضها أيضاً.
ومن جديد حاولت الحكومة التركية استرضاءه بوظائف مغرية إلا أنه رفضها لتبقى حياته حرة من كل قيد مكرسة تكريساً كلياً لقضية قومه.. ورغم ذلك بدأ في دمشق العاصمة السورية بإصدار المجلات والكتب، فأصدر في 15 أيار 1932م مجلة ( هاوار : النجدة ) ثم ألحق بها ملحقاً مصوراً اسماه ( روناهي : النور ) ، تميزت مجلتيه بصبغة اجتماعية عامة، دون التطرق إلى الأمور السياسية، نشرت فيهما مقالات قيمة عن الأدب والشعر.
لم تخدم هاتان المجلتان الكورد من الناحية السياسية فحسب، بل خدمتهم من الناحية اللغوية والعلمية والاجتماعية أيضاً، إذ أن الأمير جلادت كان أول من كتب الكوردية بأحرف لاتينية وأول من ضبط قواعدها، وأول من رتب تلك القواعد في كتاب كوردي صرف.
كانت اللغة الكوردية في نظر الأمير جلادت رمزاً للقومية الكوردية، وكان شديد التمسك بها ممعناً في درسها، فكانت لغة عائلته البيتية، وله فيها مؤلفات عديدة منها:
صفحات من ألف باء، قواعد اللغة الكوردية، قاموس كوردي – كوردي… إلخ بالإضافة إلى مؤلفات أخرى عديدة، وكان يتقن اللغات التالية: العربية – التركية – الفارسية – الإنكليزية – الألمانية – الفرنسية – الروسية – اليونانية، بالإضافة إلى لغته الكوردية.
مما زاد شخصيته رونقاً، وهو حبه الجم للمطالعة، وشغفه بالحياة الفكرية، وكان بالرغم من الظروف المضنية التي مرت به، وبالرغم من شظف العيش والحرمان اللذين عرفهما مراراً، كان مغرماً ببعض مراتع الحياة، غراماً شديداً كولعه بالصيد واحتضانه لمغن كوردي اسمه ( أحمد فرمان ) حيث كان ذواقاً ومولعاً لسماع الأغاني الكوردية القديمة.
كما لم تنحصر خدماته ببني قومه، بل خدم الأمة العربية بعمله وتمنى لها الخير كما تمناه لبني جلدته، وسعى بكل ما أوتي من قوة ليؤمن التفاهم والولاء بين أبناء قومه، ولم يدخر جهداً في توطيد العلاقات وحسن الجوار بين العرب والكورد، فعرض على الثوار العرب في فلسطين خلال حرب 1936 مساعدتهم بالرجال والسلاح. وفي سنة 1948م اقترح على الحكومة السورية أن يؤلف فرقة من الكورد تعاون العرب على صد هجمات خارجية.
في سنة 1935 تزوج من الأميرة ( روشن بدرخان ) ابنة الأمير صالح بدرخان، وقبل بوظيفة في الدولة السورية، فدرس أولاً الفرنسية في مدرسة الصنائع بدمشق من سنة 1934 ولغاية 1936، ثم أصبح محامي شركة ” الريجي ” ورئيس مفتشيها، وفضل الحياة العائلية الشريفة على العيش برفاهية رغم الكثير من المرارة والحرمان. حيث كان يقيم في غرفة رطبة من بناء أرضي في حي الشهداء، طريق الصالحية فيستعمل تلك الغرفة كمكتبة وقاعة استقبال وغرفة منامة ودار للتحرير في آن واحد، وكان يكتب جميع المقالات لمجلتيه ويوقعها بأسماء مستعارة مختلفة مثل: جلادت عالي بدرخان – هراكول ازيزان – هاوار – روناهي – صاحب هاوار – صاحب روناهي – بافي جمشيد – فرهنكَفان – جيروك فان – ستران فان – نيجرفان … ثم كان ينضدهها بنفسه ويحملها إلى المطبعة، ويقوم بتوزيعها، وكانت تساعده في ذلك حرمه الأميرة ( روشن ) ونجله ( جمشيد ).
غير أن للأقدار طرقاً غير طرق البشر، ففي عام 1951 قبل الأمير طلب صديقه ( حسين بك إيبش ) لمشاركته استغلال أراضيه الواسعة في قرية ( هيجانة ) القريبة من دمشق لزراعتها قطناً، اقتضى المشروع حفر بئر عمقه 25 متراً، ونصبت الآلات لسحب المياه ودعى البئر بالبئر ( المقدور ) قبل خمسة أشهر من وفاته.
وفي يوم 15 تموز 1951 بينما كان يشرف على العمال وهو واقف على حافة البئر وإذا بجدار البئر ينهار تحته، فلم يع نفسه إلا وهو في قاع البئر المقدور الذي كان قلبه يحذره منه.. لم تنقذه النجدة، ولا المستشفى الفرنسي بدمشق، بل فارق الحياة بعد بضع ساعات من الحادثة المفجعة، وذاع النبأ الأليم في مختلف أوساط البلاد، وقبل بالحزن العميق والأسى البالغ، واحتفل بتشييع جثمانه موكب مهيب تتقدمه عشرات من أكاليل الزهور، ومشى فيه بعض الوزراء والوزراء السابقين وكبار ضبط الجيش السوري ورجال السياسة، ووجهاء مدينة دمشق، حيث أودع جثمانه الطاهر إلى جانب جثمان جده ( بدرخان الكبير) وبنفس الضريح !! في مقرة الشيخ خالد النقشبندي بحي الكورد بدمشق . وقد ابنه بعض الخطباء بكلمات مؤثرة، عددوا فيها مآثره وأشادوا بعمله وفضله، كما ذكروا نضاله وجهاده في سبيل عقيدته القومية.
ومن الصحف السورية التي وصفت وفاة الأمير جلادت بدرخان: العلم – النصر – الحضارة – النضال – البردى – الأيام – الكفاح – دمشق المساء – الحوادث… إلخ وأجمعت كلها على ذكر الخسارة التي حلت بالأدب والعلم بوفاة الأمير جلادت بدرخان.
نعم لقد رحل الأمير جلادت عن عالمنا، وأوري جسمه التراب، لكن اسمه أصبح خالداً على الألسن، وصورته ماثلة للأعين، مترسخة في القلوب وصفحات التاريخ.
كان الفقيد ذاك الرجل الإنساني، الذي يبحث عن إيجاد الوسائل، ويلتمس الأسباب لخدمة الإنسانية، التي نذر لها نفسه السمحة، وجسمه الطافح قوة ونشاطها، وما عرف التواني في سبيل ذلك، وهنا لا أجد مجالاً لحصر مناقبه مآثره الكثيرة، وليس من السهل تعداد ماله من آثار في مضمار الأدب واللغة والتاريخ، أبت عليه عزة نفسه وكبرياؤه على التظاهر بها أثناء حياته، تلك العزة، وذاك الكبرياء جعلاه يعيش بعيداً عن الجميع ليقدم خدماته للإنسان بقلب مؤمن ونفس هادئة مطمئنة.
إن حياة الشعوب لا تقاس بحياة أفرادها، وما لا يحققه شعب من الشعوب في فترة من الزمن، قد يتحقق في الفترة التالية، المهم هو أن تبقى لذلك الشعب حيويته ومثاليته وشخصيته، وعلى هذا القياس يمكن أن نجزم أن الأمير جلادت أمين عالي بدرخان، خدم الأمة الكوردية، خدمة لا تقدر بثمن، إذ أنه ساهم بفضل كفاحه المتواصل وكتاباته في المحافظة على حيوية الشعب الكوردي وأصالته القومية.
من الإنصاف أن نذكر هنا الأستاذين : منصور شليطا المحامي، والمفكر الكلدوآشوري يوسف ملك، صاحب جريدة ( اثرا) الوطن ، لما لهما من فضل على نشر كتيب حول الأمير جلادت بدرخان متضمناً، ما وصل إليهما من برقيات، وأقوال وأصحاب وأصدقاء المرحوم، فكان خير ذكرى لمرور عام على فقدانه.
وكذلك لمساهمتهما في المشاركة والمساعدة في يوم ذكراه الأولى مع الأميرة روشن بدرخان يوم 15 تموز 1952م في دمشق بدار صديق المرحوم الوجيه (حسين بك إيبش) فكان ذكرى مرور عاميين على وفاته.
أما ذكرى مرور أربعين عاماً على رحيله، فقد قمنا بأحيائها في مدينة القامشلي يوم 15 تموز 1991م، وذلك بمشاركة جمهور غفير من المهتمين والمثقفين الكورد، من بينهم أرملة الشاعر ( جكر خوين ) وابنتاه ( روزين وكل برى ).
وأما ذكرى مرور إحدى وأربعين عاماً على وفاته فقد أحييناها ثانية في مدينة القامشلي يوم ( 11 تموز 1992م ) وذلك لتصادفها مع يوم مرور أربعين يوماً على رحيل شريكة عمره الأميرة روشن بدرخان.
لاشك أن الأمير جلادت بدرخان كان من الوطنيين الأقحاح، حيث أحرز موقعاً ممتازاً بين جماهير الشعب السوري عامة والكوردي خاصة، لهذا فتح له الشعب الكوردي صفحة مذهبة من تأريخ نضاله المستمر، ودون خدماته الجليلة بإجلال وإكرام. ويحق له أن يوضع على مرقده تمثال الوطنية والبطولة كما حفرعلى شاهد ضريحه الشاعر الخالد ( قدري جان ) هذه الكلمات:
(( أمير الكورد، ابن كوردستان البار، حفيد بدرخان، صاحب العزائم، جلادت.. ذو التضحيات، وأن كان جسمه مدفوناً هنا، إلا أن روحه صعدت إلى السماء، في سبيل الوطن، صاحب العهد والميثاق، جعل روحه قرباناً، لم يمت، هو خالد واسمه أبدي )).