‫بانوراما

غسان جان كير

لعامودا , في مثل هذه الأيام من السنة , صفاءُ لونٍ تُدركه العين فيما تغيب الروح في متاهات لا حصر لها , كما يعجز اللسان عن وصفه , فإن أردتَ الخوض في اكتشاف كنهه لا بد أن تكون مُتسلحا بقوة ذاكرة توقد ما يحاول الزمن تناسيه .
أوائل صيفٍ آنَ للزرع أن يُحصدُ مسبوقا بأماني مُذ زُرعت البذور , وبأدعية ما كان الله مُباليا بها , وسماء انحرفت عن واجبها , فتُنزل المطر خبط عشواء لا ينتظم البلاد والعباد والأيام , من حقّ السماء أن تستمدَ الرطوبة من الأرض , ومِن واجبها ألّا تتشبّع وتستأثر بها لنفسها أو لِمن تراه جديرا بغيثها دون غيره , وليتها اكتفت بهذا القُبح في التوزيع فتتمادى في الدمار بإرسال حبات البَرَد فتُقصف مزروعاتٍ قاومت الموت عطشا وفاءً لِمن يبكيها وهي في حالة إجهاد .
النُذر اليسير مما تبقّى من المزروعات واغلبها مروية بواسطة الآبار (وبالتقتير) في مازوت المُحركات , يجعل من عامودا كخلية نمل لا يجد وقتا للنقاش أو الردّ على تبجّح السماء بمِنَحِها المُعظّمة زوراً . وحده استشراف الأيام القادمات القاسيات يُحدد ما على الناس فعله .
وحساب الحقل لا يتطابق مع حساب البيدر , والبيدر في الكثير من الحالات قد لا يسلم من المرابين الذين يسبقون المزارع والحصادة إلى الحقل , وحساب صاحب الحصادة يخذله في نهاية الموسم , والعامل الذي يُخيّط شلول التبن الذي يدخل الجهنم مرتين في اليوم مخذول من راتبه الذي تُذريه رياح الغلاء في نصف شهر هذا إن لم يكن مُعتاشا على الديون وموسم كان يُمنّي النفس بوفرته .
على الطرقات العامة يطغى مشهد للسيارات المُحملة بالتبن كالأبراج المتحركة , وحده الله يحميها من نسمة هواء ألّا تنقلب السيارة فينقلب الحال على الراعي والرعية من الأغنام في الأيام المُجدبات القادمات , وقطعان الغنم تغذ السير باتجاه الشمال كجيوشٍ جرارة لا تترك الأرض إلا يباباً كحالها في يومٍ خريفي .
في المدينة يُعلن البائع على عربة الخضار عن بضائعه من بواكير الخيار والبندورة والكوسا … مُستخدما الاستمالات العاطفية والعقلية معا , فالخضار المروية بغير المياه الآسنة تُضفي على بضاعته قيمة تُساهم في جذب الانتباه دون أن يتبعه شراء من قِبل الكثيرين الذين يمنعهم الفقر من حُب التظاهر أو الرغبة في الاقتناء , فيتسلحون بالصبر ريثما تنخفض الأسعار فيتساوى الجميع .
الحديقة التي تحولت بقدرة قادر إلى منتزه مُستثمَر لا يدخله إلا من يجد في جيبه القدرة على شراء الدوندرمه أو الكازوز , منحت ظل أشجارها الجنوبية للجماهير التي اجتمعت خارج أسوارها في ندوة جماهيرية رعته لجنة السلم الأهلي في عامودا ؛ مُتشبهة بحديقة (هايد بارك ) فالشعب – بحسب البعض – بحاجة إلى دورات تدريبية في ممارسة الديمقراطية التي غيّبوها عنّا لمدة نصف قرن .
Ghassan.can@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

إلى أخي آزاد؛ سيد العبث الجميل

في مدينة قامشلو، تلك المدينة التي يحل فيها الغبار ضيفاً دائم الإقامة، وحيث الحمير تعرف مواعيد الصلاة أكثر من بعض البشر، وبدأت الهواتف المحمولة بالزحف إلى المدينة، بعد أن كانت تُعامل ككائنات فضائية تحتاج إلى تأشيرة دخول، قرر آزاد، المعروف بين أصدقائه بالمزاج الشقي، أن يعبث قليلاً ويترك بصمة…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يُعْتَبَر عَالِمُ الاجتماعِ الألمانيُّ ماكس فيبر ( 1864 _ 1920 ) أحَدَ الآباءِ المُؤسِّسين لِعِلْمِ الاجتماعِ الحَديثِ . وَقَدْ سَاهَمَ بشكلٍ فَعَّالٍ في دِرَاسَةِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ ، وتأويلِه بشكلٍ مَنْطقيٍّ وَعَقْلانيٍّ ، وتَفسيرِه بطريقةٍ قائمة عَلى رَبْطِ الأسبابِ بالمُسَبِّبَاتِ .

عَرَّفَ فيبر الفِعْلَ الاجتماعيَّ بأنَّهُ صُورةُ السُّلوكِ الإنسانيِّ الذي يَشْتمل…

سيماف خالد محمد

أغلب الناس يخافون مرور الأيام، يخشون أن تتساقط أعمارهم من بين أصابعهم كالرمل، فيخفون سنواتهم أو يصغّرون أنفسهم حين يُسألون عن أعمارهم.

أما أنا فأترك الأيام تركض بي كما تشاء، تمضي وتتركني على حافة العمر وإن سألني أحد عن عمري أخبره بالحقيقة، وربما أزيد على نفسي عاماً أو عامين كأنني أفتح نافذة…

ابراهيم البليهي

منذ أكثر من قرنين؛ جرى ويجري تجهيلٌ للأجيال في العالم الإسلامي؛ فيتكرر القول بأننا نحن العرب والمسلمين؛ قد تخلَّفنا وتراجعنا عن عَظَمَةِ أسلافنا وهذا القول خادع، ومضلل، وغير حقيقي، ولا موضوعي، ويتنافى مع حقائق التاريخ، ويتجاهل التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية فقد تغيرت مكَوِّنات، ومقومات، وعناصر الحضارة؛ فالحضارة في العصر الحديث؛ قد غيَّرت…