ثمَّة أفلام علميَّة عن عالم الحيوان، نستكشف عبرها طبائع هذه الكائنات وخصالها و «عاداتها وتقاليدها». ومعها، نستكشف الطبيعة وعلاقة الحيوان بها. لكن، أنّ تتحوّل قصّة حَمَل، منذ ولادته، وحتّى نحره، خلفيّة أو منصّة لتحقيق شريط سينمائي، يجمع بين طبائع الحيوان والنبات والإنسان، والغوص في فهم الطبيعة وطبائعها، والحيوان وطبائعه، وإسقاط تلك الخلاصات والنتائج على حياة البشر! هذا ما لم يكن في الحسبان، قبل مشاهدة الفيلم الكردي «الموسم الأخير – شواخان»، لمخرجه كاظم أوز.
وبالتالي، يظهر الفيلم وجهي الطبيعة، القاسي والخلاّب، مركّزاً أكثر على الجانب الجمالي للطبيعة الأمّ، الحاضنة للبشر والحيوان والنبات، لجهة الاستحواذ على أكبر كمّ ممكن من الحوارات الخفيّة بين مفردات الطبيعة من حيوانات وبشر وشجر وحجر، وتحوّلات أزمنتها وتتابعها. ونظراً الى غزارة المشاهد الرائعة، والمدهشة التي التقطتها عينا المخرج القنّاصتان، والفائقتا الذكاء، ونقلتهما من الطبيعة إلى الشريط السينمائي، بدا فيلم «الموسم الأخير – شواخان» وكأنّه احتفاء بالطبيعة وبهرجها وألقها وكبرياء جمالها الذي يثير الرعب والذعر، من فرط انبهار المُشاهد بها. كل ذلك، وبطل الفيلم هو حَمَل! إذ نشاهده حين يولد ويطلق صرخته الأولى. ثم يقفز بخفّة واعتباطيّة وارتجال، حتّى يتعلّم المشي. ونشاهده كيف يجرّب صوته أثناء الثغاء. وكيف يرضع. وينخرط ضمن القطيع، ويكبر ويكبر، يوماً بيوم، خلال مشوار العشيرة في هذه المروج.
مشهدان مؤلمان
إلى جانب كثافة المشاهد الرائعة التي يزخر بها الشريط، كان هناك مشهدان، غاية في الإيلام والتأثير. الأوّل؛ الحصان المحمّل، فوق طاقته، بالأشياء والأدوات والأثقال، ما جعل هذا الحيوان يفقد قدرته على التحمّل، أثناء المسير في تلك المسالك الجبليّة الوعرة، ويسقط مُنهاراً، من دون أن يقوى على النهوض مجدداً… وضرب الرجل له، محاولاً إجباره على معاودة الوقوف والسير، بالعنف، وتدخّل النساء للحؤول دون ذلك. وهنا، ركّز المخرج عدسة كاميرته عين الحصان، بغية كشف مدى الحزن والألم واليأس فيها! وفي نهاية المطاف، قام الحصان، بعد أن تمّ تخفيف بعض أحماله. والمشهد الثاني، هو سَوق الخروف الصغير، مع قسم كبير من الأغنام في شاحنات، بغية بيعها للمسالخ وتجّار اللّحم. ورؤية الخروف، كيف يقفز من الشاحنة، من دون أن يدري، أن خاتمته النحر! وهنا، سعى المخرج لتوظيف هذا المشهد، الى الحدود القصوى من التأثير الواخز للمشاعر والأحاسيس، بداعي إثارة أكبر قدر ممكن من الحزن والأسف على ذلك الخروف الذي كان جزءاً من هذه الحياة، وتفصيلاً من تفاصيل تلك الطبيعة الرائعة. ويدغم المخرج هذا المشهد بمشهد ولادة الخروف، وإطلاقه صرخته الأولى، ليرينا الخروف مذبوحاً مسلوخاً، معلّقاً بمشاجب المسلخ، ولا يزال يطلق ثغاءه ذلك!
ربما الإكثار من مشاهد الطبيعة، بتلك الحنكة والدهاء والقنص لدى المخرج، حتّى لو أخذت زمناً يزيد عن اللزوم، يمكن قبوله. أمّا أن تزيد مدّة المشاهد في المسلخ، فهذا ما لا مبرر له البتّة! بل كان مؤذياً للعين والمشاعر. من جهة أخرى، بدا الفيلم، وكأنّه عديم السيناريو، وأقرب إلى الفيلم التسجيلي من جهة، والفيلم الوثائقي الذي يرصد سيرة عشيرة بدويّة كرديّة، أثناء رحلة الربيع والصيف والخريف، من جهة أخرى… بالإضافة إلى المدخل الدرامي للفيلم، والليل مخيّم، وإحدى النساء العجائز، تسرد قصّة للأطفال، قبيل النوم، على ضوء الفوانيس، أوحى للمشاهد أنّه أمام فيلم روائي طويل. وبالتالي، غدت هويّة هذا الشريط السينمائي ملتبسة، فهو فيلم طويل (92 دقيقة)، وتسجيلي ووثائقي في آن! وقد يعتبرها البعض مثلباً، وربما يعتبرها آخرون، ميزة وخصلة من خصال الفيلم، ومحاولة اجتهاد من كاظم أوز، في مسعى لإيجاد خلطة سينمائيّة جديدة، تجمع ما بين الروائي والوثائقي والتسجيلي! إلاّ أن ما لم يكن أيُّ داعٍ له، أن يقحم المخرج نفسه في حوارات الفيلم، عبر طرح الأسئلة، من وراء الكاميرا، على رجال العشيرة والاستفسار عن علاقتهم بنسائهم ومواقفهم من المرأة…! فإذا كان أوز، يريد تسليط الضوء على موقف رجال العشيرة من نسائها، كان في إمكانه الحصول على الإجابة، ليس بتلك الطريفة، بل بطريقة أخرى.
مثالب وعلل وفرادة
ميزة الفيلم أنّه لم يكن فيه أبطال، ممثلون، ما عدا الفتاة المغنيّة، التي هي أصلاً من هذه العشيرة، وكذلك مخرج العمل من هذه العشيرة. وربما أبرز مثالب الشريط، توظيف المخرج أغاني فرقة «كام كار» الكرديّة، كموسيقى تصويريّة. علماً أن هذه الفرقة، تغنّي فقط باللهجة الكرديّة الصورانيّة. وهذه اللهجة، متداولة في السليمانيّة وهولير (أربيل) وكركوك، وبعض مناطق كردستان إيران، وغير متداولة في كردستان تركيا، فما بالكم بمناطق ديرسم البعيدة جداً عن الحدود التركيّة – العراقيّة! وكان الأجدى به، توظيف أغان وموسيقى من تراث المنطقة، من دون أن ننسى أن كاظم أوز، سقط في تقنية التكرار، بأن جعل مدخل الفيلم وخاتمته، وهو سرد حكاية للأطفال، على لسان امرأة عجوز. وسبق له أن استخدم هذه التقنيّة في فيلمه «باهوز»، الذي حققه نهاية 2008. (وكانت لكاتب هذه السطور وقفة مع هذا الفيلم في هذه الصفحة)، حيث دخل بطل فيلم مدينة اسطنبول، طالباً جامعيّاً، ورحل عنها، نهاية الفيلم، في المشهد نفسه، مع تغيّر المقولات والدلالات والرموز. وبالتالي، عمليّة التدوير تلك، في «الموسم الأخير – شواخان»، كانت نفسها في فيلمه السابق «باهوز».
يبقى القول ان هذه الفيلم، لاقى رواجاً في المناطق الكرديّة، كما عرضته صالة، في حي تاكسيم في اسطنبول. ومن الأهميّة بمكان الإشارة إلى أن كاظم أوز، يعتبر من ابرز المخرجين الشباب في كردستان تركيا. ولد عام 1973 في محافظة ديرسيم. خلال دراسته الجامعيّة في كليّة الهندسة المدنيّة، جامعة يلدز في اسطنبول، كان يعمل مع فرقة «jiyana nû” (الحياة الجديدة) المسرحيَّة التابعة لمركز موزوبوتاميا الثقافي (الكردي)، كممثل ومخرج وكاتب. منذ عام 1996، عمل في قسم السينما في المركز نفسه. أنجز فيلمه القصير الأوّل «الفأس» عام 1999. وفيلمه الطويل الأوّل كان «فوتوغراف» عام 2001، وحاز الفيلم جوائز عدّة. فيلمه الوثائقي الأوّل، كان بعنوان «دوور – البعيد» (74 دقيقة) ونال جائزة أفضل فيلم وثائقي في تركيا. نهاية 2008 حقق فيلمه الطويل الثاني «باهوز – العاصفة». يحمل ديبلوماً من كليّة الفنون الجميلة، قسم السينما، جامعة مرمرة في اسطنبول
الجمعة, 06 أغسطس 2010