ضلالات الشاعر

د. حاتم الصكَر

لم يعتد القراء أن يروا اسم المهدى إليه على غلاف المطبوع لا سيما إذا كان ديواناً، لكن هذا ما اختاره الشاعر حسين حبش لديوانه “ضلالات إلى سليم بركات ـ نص طويل” دمشق 2009 لتزيد بذلك حيرة القراءة الغلافية التي تدخل إلى النص من عتباته للتعرف على برنامجه وهويته وجنسه.

لكن قراءة عتبة أخرى في الديوان سترينا المقصود بالضلالات، فالشاعر يمهّد باقتباس من شعر طاغور هو (أنّى تكن الدروب معبدة، أضل طريقي).
عائدية النص إلى الشاعر سليم بركات ليست في الإهداء فقط، بل تتضح في اللغة والتقطيع البيتي والخيال الشعري الذي يذكرنا بعوالم سليم بركات وحداثة نصه، لا لمجرد كون نص حسين حبش قصيدة نثر ككتابات سليم بركات الشعرية فحسب بل في هذه الحرية العارمة في الصياغة والتمثيل اللغوي والصوري للأشياء. وأيضاً عبر الضمير النحوي الذي يؤدى به السرد في النص منذ المقطع الأول ويحافظ عليه الشاعر في انضباط وإتقان يساعدان على تخيل بورتريت شعري لسليم بركات بمقاطع مصدَّرة بالفعل المضارع كناية عن الحضور ـ ومستقلة في صفحات خاصة، فالتوزيع الخطي للنص مدروس ومفكر به تجسده طباعة مقطع في كل صفحة مهما كان طوله، رغم أن التفاوت ليس كبيرا بين عدد أبيات المقاطع، وهكذا نرى النص يبدأ بالقول:

 “يزم شفتيه الضالتين في جهالة الكلام/ وينزل إلى الزوايا المختبئة للأودية المكتومة/ محركاً غفوة الماء الصامت في القيعان العميقة”
سيرة لشاعر تقوده جهالة الكلام: إدارة الظهر للشائع والمعروف ثم اختيار الهامش للتموضع في (الثنايا المختبئة للأودية المكتومة) فالجغرافية المشخّصة هنا ذات وجود هامشي أيضاً: زوايا/ الأودية، والزوايا مختبئة لا ظاهرة كما أن الأودية وهي أمكنة سفلى موصوفة بأنها مكتومة.
كل شيء في النص حدس بتلك الضلالات التي انبنت عليها شخصية بركات الشعرية وقراءة حبش له شاعراً متمردا في الأسلوب الشعري المشاكس المتمثل في قصيدة النثر، وفي اللغة ذاتها والتراكيب الصورية خاصة:
“يفك سيور الغيمة ويلاطف شكوك/ المطر المنثورة في أطوار السماء/ المتقلبة كأمزجة الطيور”.
ثمة قدرة على استحضار الطبائع والمزايا النفسية والشعرية معا، وكشف علاقة الشاعر بالعالم والأشياء، وتعيين زاوية نظره في ما حوله، وإن بدا المنظور مكرّراً مؤكَّداً فذلك لما يحمّله الشاعر من علامات وما يحتفظ به من إشارات عن ضلالات صديقه، وما يريد إيصاله في هذا النص المحتدم كسيرة غيرية لشاعر مسكون بالضلالات التي تسري منه إلى النص وإلى القارئ بالضرورة:
“يدحرج المغاليق عن ذهب الخيال/ فتتضح الرهبة فائحة في مراميه وضجره/ يصرف شؤون اللعثمات في غرة الترجمة/ ترجمة أسى المعاني الهاربة من إهانة النظم”.
ما الترجمة وما اللعثمات والثغرات والمعاني الهاربة من إهانة النظم؟
ذلك جزء من جذر الشاعر المحتفى به، وأس ضلالاته التي تسري عدواها عبر النص.

الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاماراتية
14يناير 2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…