الوجودية فلسفة الفوضى والإنهزامية

خالص مسور

إن الفلسفة وحسب الفلاسفة الأقدمين ما هي إلا دراسة الماهيات ذاتها، ومن هؤلاء الماهويون نذكر أفلاطون الذي كان قد أكد على أن المثال لكي يستطيع أن ينحت تمثالاً، فإنه يتطلع دوماً إلى ما يتمثل أمام عقله، ومن هنا فكل مايصنعه الإنسان يأتي نتيجة تأمله لماهية معينة، بينما يرفض الوجوديون تحديد الماهية بهذا المعنى، ويذهبون إلى أن التمثال قد تكون له ماهية، بينما الإنسان ليس له ماهية مثلها.

أي يمكن أن نسأل ماالتمثال…؟ ولكننا لايمكن أن نقول ماالانسان…؟ بل نقول من تراه يكون…؟ وبهذا فهو ليس له ماهية قبل وعيه بذاته بل هو وجود فقط.

وكذلك مثلاً، فالشجرة موجودة وماثلة أمام ناظري ولا أستطيع إنكار وجودها، وماأعلمه عنها أيضاً أنها متفرعة ولها أغصان وثمار وأوراق، فهذه هي ماهيتها، أما وقبل إعمال الذهن في الأغصان والأوراق والثمار فهي وجود فقط  أي أن وجودها تسبق ماهيتها.
ويذهب فيلسوف الوجودية الأول سارتر، إلى أن الوجود هو كل ما هو موجود، والموجود هو الأشياء الظاهرة التي نلمسها بأصابعنا وأيدينا وتقع تحت أنظارنا، فالوجود عنده يسبق الماهية لدى الإنسان، أي أن الإنسان وجد أولاً ثم وجدت ماهيته فيما بعد. وما يعنيه سارتر بالماهية لدى الإنسان بأنها هي الإختيار، والفكر، والإنفعال…الخ. وكان اعتبار سارتر سبق الوجود للماهية السبب في توجيه انتقادات من بعض الفلاسفة الذين يعتقدون بأن الوجود والماهية متزامنان وإلا لكان يمكن للإنسان أن يكون شيئاً آخر غير الإنسان ذاته. ولهذا يرى الوجوديون الذين انقسموا إلى ملحدين وعلى رأسهم (سارتر) ومؤمنين وعلى رأسهم(كارل ياسبرز) بأن الأشياء لا توجد على ما نعرف عنها دون إدراك الإنسان لها، وقالوا علينا أن نميز بين الكائن والوجود، فالصخرة كائنة ولكنها غير موجودة في حال بعدها عن العمل الذهني للإنسان، ولأنها أيضاً تفتقد القوة للإنتقال والحركة من الإمكان إلى العمل. يقول الوجوي (غابرييل) عن الكينونة هو مالايمكن تحويله أو الوصول إليه، وماينبغي لنا أن نبدأ منه بالضرورة.
 ولهذا يرفض الوجودي (كيركغارد) مقولة ديكارت القائلة: أنا افكر إذاً انا موجود،  أي ما يراه ويرفضه هو أن المقولة الديكارتية تعطي الأولوية للفكر على الوجود وهو ما تؤكده على الدوام مثالية كانط الذاتية على أنه ليس هناك وجود خارجي منفصل عن الذهنية الإنسانية أي أن الوجود الخارجي هو ثمرة ونتاج هذه الذهنية الانسانية، وأن الشيء ليس إلا فكرتنا عنه أو الاسم الذي نعطيه له. بينما يقول كيركغارد : إنني كلما انصرفت عن التفكير كلما كنت موجودا. أما لدى (هيكل) الجدلي فنرى الداخلي والخارجي هما شيء واحد وما من مكان للسر في نظره،  نرى بالمقابل لدى كيركغارد أن الأشياء لايمكن لها أن تتخارج ولايمكن لها أن تعبر عن ذاتها.  والمسيح لدى (هيكل) هو الفرد المتميز رمز الانسانية اللانهائي والمسيحية هي الدين المطلق وفيه يتحقق التوحيد بين الفرد والانسانية، بينما المسيح لدى كيركغارد الوجودي هو فرد متميز لايرمز الى أي شيء مهما كان. ويتهم كيركغارد الأمور الدينية بأنها سبب القلق أي أن القلق هو نتيجة للتحريم فتحريم الله على آدم أموراً معينة كان سبب القلق الأول لدى أحفاده وهناك أيضاً حسب كيركغارد قلق العدم مع الديانتين المسيحية والإسلامية ويتمثل في مقولاتهما الدينية من أن الله يخلق الإنسان والكائنات من العدم، كما يتماهى الذات مع الموضوع لدى الوجوديين الذين يرفضون الفصل بينهما. ويقول سارتر: إن الإنسان المحكوم عليه بالحرية يحمل على كتفيه عبء العالم كله، فهو مسؤول عن العالم، ومسؤول عن نفسه باعتباره لونا من الوجود……وبدون العالم لاوجود للشخص أو الذات البشرية، وبدون الذات البشرية أو الشخص الإنساني لاوجود للعالم. أي أن الإنسان لايمكن أن يكون شيئاً بمعزل عن بيئته، والوجود البشري خارج ذاته   (ex – sistence) يعني حسب اشتقاقه اللغوي الظهور خارجاً أو الإنبثاق.
وهكذا فالوجودية السارترية تسمح بحرية منفلتة من عقالها أي كأن الفرد إله نفسه يعيش وحيداً في عالم آخر ليس في حاجة أحد، تاركة بذلك للفرد حرية الاختيار ورفض كل انضواء مرتبط بالمستقبل. وهذا ما يعتبره غير الوجوديين خطأ جسيماً في حفريات المعرفة الوجودية السارترية، وذلك لأن الفرد لايعيش وحده منعزلاً في هذا العالم فهناك الى جانبه أناس آخرين أيضاً.  وقد فطن سارتر لخطأه هذا فألف من اجله كتابه (الوجودية مذهب انساني) حيث يقول فيه: لايسعني أن أعتبر الحرية هدفا لي إلا إذا اعتبرت حريات الآخرين هدفاً لي أيضاً. وهذا الكلام يتناقض مع مجمل نظريته عن الوجود الذي يرى الحرية هي الخير الاعلى للانسان. فالوجودية هكذا نراها لاتؤمن بالتعاون والتواصل الاجتماعي  وتخلو بالتالي من إنسانية جدية وآراؤها هي وسيلة للتفكك الاجتماعي وفساده(1).
هكذا تعتقد الوجودية بأن الإنسان هو المحور والموجود الأول، ويتمتع بحرية الإختيار والفكر والإرادة، وبذا تدل على نفسها بأنها مذهب إلحادي لا يعترف بوجود الله والرسل والأديان التي جاؤا بها، وبذلك فليس هناك من خالق للإنسان، والإنسان هو الاقدم وجوداً من كل شيء في الكون، وكل الأشياء بالإضافة إلى الإنسان هو وجود وماهية بينما – وكما قلنا- يسبق وجود الإنسان أو الأشياء ماهيتها(2). 
 ومن هنا يعتبر سارتر أن الله غير موجود أو مات بحسب تعبيره، كما يرى بأنه من  المستحيل على الأديان أن تحل مشكلة الإنسان بل كانت هي السبب في ازدياد مشكلته تعقيداً، ولهذا يطالب سارتر بوجوب إطلاق العنان لحرية الإنسان وأحاسيسه وغرائزه، فليس للحرية من قيود وعهود وأن الضمير هو الدين ذاته، والإنسان له أخلاقيات متعددة ولايمكن فرض أخلاق معينة عليه. وبهذا أيضاً ينكر الوجودي ما هو مصدر الأخلاق الخارجي ويتبع فكره الحر وغرائزه وما تملي عليه، وهي في مجمل مكوناتها المعرفية تصبح الوجودية خصماً عنيداً للتراث والأديان والعقائد والتاريخ، وتتصف بالإنعزالية والإنهزامية في مواجهة المشاكل الحياتية. وما ذلك إلا لأنها جاءت كردة فعل عنيفة على سلطة الكنيسة وعلى جرائم الحروب وما جرتها وما ستجرها من ويلات على الإنسانية ومتأثرة كذلك  بسقراط وقوله الشهير:أعرف نفسك، وبالرواقيين ومذهبهم في اللذة.
وفي الختام نقول: بأن ما نعلمه هو أن الوجودية كان أول ظهورها في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ومنها انتقلت إلى باقي الدول الأوربية كفرنسا وإيطاليا، وقد استطاب المراهقون أفكارها فانتشرت بينهم بشكل خاص مما أدى إلى الجنوح والفوضى والإباحية. وأن أهم موضوعات الوجودية تتركز حول الحرية واتخاذ القرار والمسؤولية)حيث هناك الإعتراف بالإثم والإغتراب في هذا الوجود، فالإنسان في نظرهم ليس جزءاً من الكون (cosmos)  أبداً بل هو الإله الأوحد وسيد نفسه والمستقل في هذا العالم،  ولهذا يمتعض الوجودي من أن يقال عنه أنه وجودي، لأنه يصبح عندئذ كواحد من الناس المعروفين بالوجوديين بل يقول: إنني لست إلا ذاتي، لا أحب ماتبذله من جهد لكي تحشرني في تصنيفك.
………………………………………. 
(1) – معنى الوجودية-  نشر مكتبة دار الحياة – بيروت
(2) – سارتر – الوجود والعدم  بحث في الإنطولوجيا الظاهراتية- ترجمة عبد الرحمن بدوي- 1966م.

25/12/2009م.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…