تعد الأجيال الشعرية في كردستان العراق، إشكالية حقيقية لراهن النقدي، نظراً لوجود عدد كبير من الشعراء الذين ينتمون إلى أكثر من مشهد شعري. و في وضع كهذا فإن تراكم الأسماء الشعرية من تنوع للأصوات و للتجارب و للأجيال، يُربك عموم المشهد الشعري.
أسوق هذا المثال للدخول في تجربة الشاعر طيب جبار، بوصفه شاعراً ينتمي إلى الحداثة الثانية في الشعر الكردي (جيل السبعينيات) الذي يلي جيل الرواد. و يسعفنا- في هذه الدراسة – الشاعر و المترجم عبد الله طاهر البرزنجي، الذي نقل (ذات زمان الظلا كان أبيض) إلى اللغة العربية.
ووفقا لمقاربة المترجم فأن مسيرة طيب جبار الشعرية تتضمن تجربتين:
الأولى، تنتمي رغم قلتها إلى مشهد السبعينيات الشعري.
و الثانية ، تسجلها النصوص الأخيرة التي كتبها في الآونة الأخيرة و التي شكلت قيماً شكلية و رؤى شعرية مغايرة للتجربة الأولى السبعينية.
و على هذا الأساس يعتبر الشاعر طيب جبار (السبعيني) شاعرا واكب ما إستجدّ في ساحة (التسعينيين) ، و من تلاهم، و هو بذلك ينضم إلى أكثر من مشهد شعري، بدليل إنزياح فضاءات نصوصه عن قصائد السبعينيين و الثمانينيين، و تزايد درجة إنحرافاته الشعرية.
و يمكننا متابعة ذلك، من خلال المجموعة الشعرية (ذات زمان الظلام كان أبيض) الصادرة حديثا ضمن السلسلة الشعرية (2010) لمنشورات “الغاوون”.
و تتضمن دراستنا لهذه المجموعة في إستدراج الواقع و إنعكاسه على قصيدة طيب جبار، بإعتباره تكثيفا لتجربة الشاعر الشعورية إزاء المكان و اسئلة الذات بالقدر الذي يتطلبه الحدث و يقتضيه الهدف، كما في هذا المقطع من قصيدة ” السليمانية” المؤرخة بنيسان عام 1987، و فيها نقرأ:
في مدينة المذاق الطيب
اليأس كالدود
يزحف بهدوء
نحو خيمة قلبي.
اليأس كالضباب
يأتي و يغطي جميع أجزاء جسدي.
يثبت هذا الخطاب الشعري، أن الشاعر يخضع في قصيدته لمراهنات مختلفة مع المكان، و خاصةً إذا ما عرفنا أن ” السليمانية” مكانا واقعياً (جغرافياً) تعرفه الذاكرة الثقافية، و الذاكرة التارايخية، و الذاكرة النضالية و الذاكرة الجمعية، منذ قديم الزمان و حتى يومنا هذا.
فالقصيدة من جهة نقل للتجربة الحياتية بهدف تقريبنا من الآخر في أسرة إنسانية واسعة، دون الإخلال بالأنساق الرمزية المشكلة للمعنى الشعري، لأنّ الشعر – هنا – إحتفاء بالعزلة و التغني بالموت بكل إخفاقاته.
و من جهة أخرى نقل للزمن الشائك، من قدرية المكان و اسراره، بهدف تعميق الحس المأساوي، لمدينة ” السليمانية ” – و لكافة المدن الكردية – أيام النظام البائد، بكل ما تحمله اللغة من حس درامي و تراجيدي معاً:
كالإعصار
تلفني مع قامتك.
تديرني …حسب ما تشاء.
ثم تطلقني
في العراء بلا مأوى،
بلا أحد.
آه.. أيها اللامأوى
ما أشدَ قساوتك؟
هل سيأتي يوم،
أحصل على شبر من الأرض؟
و أقول: وا حسرتاه، هذا مثواي.
الشجرة برفيف ظلاله
كان يهف الريح.
الماء بضحكته
يدغدغ ارجل الناس.
الشمس تمسح وجهها بسحابة.
البدر مرات كان يغفو في ظل ذؤابة الغيوم.
الكائنات بوخزة الشعاع
تنهض من النوم.
أمي برؤى العشب،
كانت ترش العتبة.
استحضر في هذا السياق ما قاله الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر:
” الشاعر الذي يستطيع فتح كوة من الضوء نكتشف على ضوئها وجود شجرة، أو قطعة من الحجر، أو وجه إنسان، أو تشققات جدار- شاعر وطني يساهم في المعركة مساهمة أكثر قوة و إنسانية من الهتافات الخالية من الفن و الحرارة”.
فقلة من الشعراء رسموا آفاق شعرهم بحرفية و فنية واعية لقضايا الشعر، و متطلبات القصيدة المستمرة بحرارتها و فنيتها، و طيب جبارمن هؤلاء القلّة، و لعلّ قصيدة ” شعر قليل الملوحة” المهداة إلى الشاعر المبدع لطيف هلمت تقدم صورة واضحة عمّا ذهبنا إليه:
عائد إلى ظلال سقيفة وميض القمر
أتصالح مع رنين الضباب
مع ظمأ المياه
مع جوع الأرغفة
مع سكون الغدير.
كلانا يجلس في الحديقة الضيقة للإلهام
نزين خوان دغدغة الاشراق
ندير كأس نثيث الخيال
أنت تناول القصائد اللذيذة جداً
و أنا شعراً قليل الملوحة.
عدا بناتي
لا تبكي عليّ… في هذه المدينة
أيّ فتاة.