إبراهيم يوسف
elyousef@gmail.com
elyousef@gmail.com
ثقيلاً، جارحاً، كان وقع رحيل العالم الجليل ملا عبد الله ملا رشيد علي، وأنا أتلقاه، عندما كنت أفتح بريدي الإلكتروني، في منزل أحد الأصدقاء الفنانين الكرد في مدينة الشارقة، حيث التقينا، عشية الإعداد لعزاء آخر، بعد أن تناهى إلى مسمعنا نبأ رحيل الكاتب “ريوي” ومن ثم الشخصية السياسية البارزة رشيد حمو، كما تم ذلك بعيد رحيل كل من المناضلين إسماعيل عمر، ودهام ميرو، رحمهم الله جميعاً حيث جعلوا من عام 2010 عام الخسارات الكردية الكبرى بالنسبة إلينا ككرد سوريين.
استطراد في مكانه:
صحيح أنني لم ألتق بالراحل رشيد حمو الذي كانت تتناهى إلى أذني أطراف من سيرته ومواقفه من قبل بعض رفاقي القدامى في الحزب الشيوعي السوري، إلى جانب آخرين هجسوا بهمهم القومي الإنساني، وناضلوا من أجله، بكل ما أمكن، مهما كانت التضحيات جسيمة وشاقة، بالرغم من أن صديقنا العزيز -رشيد عبد المجيد- وهو أحد الرشيدين الثلاثة- أبو فؤاد- كان قد دعاني هو وزوجته نازلي خليل “أم الشعراء”، إلى حلب، عشية سفري إلى دولة الإمارات، من أجل كتابة مقدمة الأعمال الكاملة لصديقي الشاعر الراحل حامد بدرخان، كما كان وعدهما، واتفاقنا، منذ عقد ونيف من الزمن، وكلفا أحد الأشخاص الحضور- الأخ محمد جزائر حمكو جرو وقد تعرفت إليه لأول مرة في تلك الجلسة- وهو- بأن يتعهد بإرسال نسخة الكترونية من الأعمال الكاملة لحامد إلي ، لأقرأها وأدققها، وأكتب لها مقدمتها، الأمر الذي لم يتم، حيث أن الأخ المكلف قام -مشكوراً- بإعداد الكتاب، بل وكتب المقدمة بنفسه، وعوضني السرور بظهور الديوان، عن عدم تحقق كتابتي للمقدمة المذكورة، وكان معنا في تلك السهرة الأديب حفيظ عبد الرحمن.
اقترح عليّ مضيفاي أن أحاور أبا قدري- وسمى الراحل رشيد حمو ابنه قدري، كما يبدو، تيمناً بالخالد قدري جان رفيقه أيام الحزب الشيوعي- و أعلمني أنه على فراش المرض، وأشارا أنه يسكن في بيت آخر لهما، كنت أعرفه من قبل، وأنه يتحدث بصدق وصراحة كاملين عن ظروف تأسيس أول حزب كردي، ما جعلني أشعر بالألم لعدم إمكان تلبيتي لذلك المطلب في الساعات القليلة المتبقية لي، قبل موعد إقلاع الطائرة بي، إلى محطتي الجديدة في حياتي هذه، ومنيت نفسي بأن أفعل ذلك في إحدى إجازاتي إلى الأهل، وهو ما لم يتحقق بسبب الظروف المريرة التي عشتها خلال تلك الإجازة. وظل ذلك يؤلمني،كلما ذكر اسم الرجل من قبل بعض من عرفه عن قرب –هنا- وازاد احساسي بالألم عندما علمت أنه قضى في حادث سير ، وهو يحاول- بالرغم من أنه في عقده التاسع- أن يواصل حبه القديم بين مدينتين هما عفرين وقامشلي.
في صميم المقال:
عذراً، بعد هذا الاسترسال الذي كان لا بدّ منه، أعترف أن فجيعتي برحيل العم ملا عبد الله-لم تقل عن فجيعتي بأي مقرب مني- حيث خلدت إلى صمت عميق، وأنا أعيد قراءة الخبر من بريدي الإلكتروني، وما كدت لأخرج منه، إلا أمام إلحاح سؤال أحد الأصدقاء الأعزاء الجالسين، لم أكن مهيأ له في الأصل للإجابة الدقيقة عنه، في إطار تلك الجلسة.
ومعرفتي بالشيخ الجليل عبد الله ملا رشيد، كانت منذ أيام الطفولة، حيث كثيراً ما كان يرد اسم الرجل، على لسان أبي، مقروناً بالحديث عن خصاله، ومناقبه الحميدة، وسعة علمه، وفراسته، وبسالته، ما جعلني أكنّ له كل الإعجاب والحبّ، إلى جانب أسماء أخرى، لم تسمح لي ظروف الحياة بأن أتوقف عندها كما ينبغي.
ولقد رأيت أن هناك من يحاول أن يضرب طوقاً حول ملا عبد الله، من خلال إساءات متعمدة بحق مقامه، أكاد أقول أكثر من ذلك، وهو ما حدا بي أن أسلط الضوء على بعض خصال هذا العلامة الكردي البارز، وتاريخه، وثقافته، وذلك في حوار طويل، أجريته معه في 2002( وقد أفرحه أن وجده في ما بعد منشوراً على أحد المواقع الألكترونية وقال: كنت أعرف أنك ستنشر آرائي لا كما يفعل من يزورني ويسرق ما أقوله ليضعه باسمه) وكان أول حوار معه على الإطلاق. قامت دار سما كرد بطباعته له- وكنت قد تنازلت عن حصتي من الكتب للراحل، وللأسف لم يتم توزيعها –بعد- في حدود مظنتي، نتيجة ظروف خاصة كما قيل لي. لأندهش أمام ذاكرته الجبلية القوية، التي ظل يتمتع بها إلى اللحظة الأخيرة من حياته.
لا أدري لم أنني-كلما كنت أهمّ بالسفر إلى مكان ما- كنت أدأب على أن أزوره مودعاً، طمعاً في دعائه لي، ولعل من زياراتي الأخيرة إليه (قبيل السفر في كل مرة) كانت ذات مرة بحضور الصديقين بكرحمو وسيامند ميرزو، ومرة أخرى مع الصديق الجميل الراحل أكرم كنعو، و الصديقين العزيزين عبد القادر خزنوي ومحمد زكي حاجي” أمد الله في عمريهما” وكان أكرم من أوفى الناس معه كما كان كذلك مع كل من حوله-وكانت علاقته الشخصية به قديمة تعود إلى أول أيام شبابه- عندما عاد من جبال كردستان، منكسراً، مهدوداً، متعباً، لا بيت يأويه وزوجه وأطفاله، ولا بساط يجلسون عليه، ولا كسرة خبز يأكلونها، فكان أول من أمن لهم كل ذلك بنفسه- وأحببت في هذا اللقاء أن أفرحه وأنا أخرج نسختي كتاب حواري معه واللتان كانت قد وصلتاني للتو، حيث على الغلاف الأول للكتاب صورته، فقلت له: لن أكتب لك الإهداء عليه، لأنه كتابك، فضحك، وهو يصر على أن أفعل ذلك، ليتلقف الكتاب من يدي، بعد ذلك، وليختطف أبو لقمان نسختي الشخصية، وليصلني صوته في ما بعد سعيداً بأمانتي في إيراد ما قال، وإن كنت دأبت على أن أحرص من خلال أسئلتي- أثناء الحوار- ألا أقوده إلى جرح أحد، ولا سيما أنني كنت أعرف إجاباته ومواقفه من كثيرين من حولنا.
إذا كان حواري مع ملا عبد الله استطاع أن يسلط بعض الضوء على جوانب محددة، من سيرته، وآرائه، إلا أنه لا يشكل نقطة من بحر الرجل الفياض، لأن حياته لأشبه بملحمة واسعة من الأحداث والذكريات والمواقف، إنها حياة رجل دين كردي حكيم، صاحب رأي، ظل أبياً، ودفع الكثير نتيجة مواقفه، وعدم تسبيحه بحمد أحد، ما جعله يعيش في شبه عزلة من قبل بعضهم، إلا أن غرفته الصغيرة كانت تعج يومياً بعشرات الزوار، وأهل العلم، بأكثر من مجالس كثيرين من الأدعياء المعزولين روحياً عن سواهم.
أعتقد أن هناك مقربين من ملا عبد الله أكثر مني، قادرون على تناول ضروب معاناته اليومية في تفاصيلها، لأن ما تعرض له من محنة أشبه بمحنة ابن باجريق الكردي الذي حكم عليه بالإعدام في القاهرة وبغداد والشام نتيجة مواقفه وآرائه، وهي صورة عن الموقف من المثقف، المخلص، الذي يقابل ممن حوله بالجحود. ولعل عبارة نجله مصطفى لا تزال تتردد في أذني وأنا أقول له: لقد قمنا بتكريم والدك عضو ماف وهو يرد علي بسخرية مريرة: هل أن هذا التكريم ” يصرف”؟، ولكم كان الموقف أليماً عندما علمت بأن أحدهم قد ابتزه وهو يوصل التكريم إليه- وكان التكريم عبارة عن” كرتونة” ورق مقوى، لا أكثر- نعم كان لعبارته تلك وقع شديد على نفسي، وأنا أعرف أن تأمين ثمن أدوية الرجل كان يشكل عبئاً كبيراً على أسرته، التي كانت تعيش حالة إملاق رهيبة وقصوى، شأن كل من هو مخلص مع نفسه و ثقافته وموقفه، بعيداً عن الممالقة والاتجار بالقيم.
في مقام الراحلين
*ملا محمد ملا حيدر(أو الحيدري) وهو أيضاً من أصدقاء أبي رحمهما الله، التقيته قبل أيام من رحيله، وكان يلح على أن التقيه على انفراد، وخارج إطار جلستنا الأخيرة، وأن نزور الملا عبد الله ، لنتحدث معاً عن بديع الزمان الذي كان الحيدري جد شغف به، وغير ذلك …….. ، ولم أستجب لدعوته تلك، ما دعاني لأتحسر على عدم قيامي بتلك المبادرة…. بأسف….
* شعرت بألم كبير وأنا أقرأ نبأ رحيل الشاعر الصديق ريوي، الذي تعرفت عليه منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أثناء قيامه بطباعة أحد كتبه، عن طريق مجلة Aso ، وكان معروفاً بحنوه، ووفائه في خدمة رسالته، حريصاً على حسن التواصل مع من حوله من الكتاب والمثقفين.