حمد يا حمد

وزنة حامد

القرية نامت يا حمد … كما تنام بقرتك المعلفة … أضوائها ضوت في مصابيح هرمة … كلب جارتك العجوز والتي راودتها  أكثر من مرة , تكوم منزوياً بعد معركة غير متكافئة مع البراغيث … وعجل الحاجة خديجة … استسلم للنوم بعد مراوغة مع النعاس وأنت ما زلت تتحصن بالعرق وتتشبث بالسهر … ما بك يا حمد ؟ ثيابك نظيفة لولا هذه الرقعة في مؤخرة بنطالك والتي توحي بخريطة الهند قبل اقتطاع بنغلادش منها ومن جارتها باكستان … لا تهم هذه الرقعة … فبنطالك آخر هدية من خالتك التي رأينها نادراً وبعد أن قرف ابنها من هذا البنطال الذي أخذه بدوره من موظف في المصرف في البلد … وبعد هديتها ودعتها للمقبرة …

كم كنت عظيماً يا حمد حين استدررت على روحها الفاتحة بوجهك الجنائزي … يومها ضربت كفاً بكف وظن أهل القرية انك تندب حظها العاثر , لكنك أشرت بذلك بأنها التحقت بأختها ( أمك وأبيك وأخيك ) … وهذا تأكيد لشؤمك بان لا تترك من أهلك ولا نافخ نار …. سقتهم لخدمة ربهم في الآخرة … خرجت على الناس بسلاح جديد بصيغة انفردت بها لوحدك – الهبل – ورضى بهبلك الرقيق أهل القرية … على حساب ادعاءاتهم بأنهم يملكون ثمة عقول كإدعاءات ( بعض ) الموظفين المرتشين سراً على حساب بعض الموظفين المرتشين علناً …
تجولت في القرية بما تملك من حرية التصرف … تضاحك زهرة صاحبة الردف المكور … والذي تلمسه بكفك وابتسمت بغنج … تمازح سلطانة …. وتبكي لأتفه الأسباب أمامهن .. وترضى بلقم – الراحة – من أيديهن ضاحكاً في سرك لان الترضية على حساب دلعهن كالجمرك – ترضيته على حساب المهرب – واليوم أرضتك سمية بصحن الخيار مع البيض التهمته بنص رغيف ودلقت في جوفك وعاء اللبن الحامض الذي يكفي ثلاثة أجداء في القيظ .. ما بك لا تنام يا حمد والساعة تزحف متثاقلة كأم عيوش الحبلى إلى الواحدة صباحاً ؟ أتفكر في سمية ؟ أتحب يا حمد .. ؟  أم تفكر في شيء آخر ؟ سمية وان حسرت الثوب عن ساقيها لتريك الأنوثة الطاغية فهي تشفق عليك لا أكثر لأنك خصي بالأساس أو ربما تكون كذلك .. انك أبله .. انك تافه .. أن دعتك يوماً – لغرفة الموتور – فقد كانت تخشى الأفعى التي انسلت في أرضها .. أنت دابة .. لا تصلح إلا لدهس الوحل والتبن .. وجر الماء من البئر .. والحبل الخشن ينخز كتفك ويضحكن عليك وأنت تصر على جر المزيد .. وتعرق ويسري العرق من رأسك إلى مؤخرتك , وتغالب جرحك الداخلي النازف وتعاند في ضعف .. وتقاوم في هشاشة .. لتنتصر ولكن على من ..؟ على حمد الذي يبكي من الداخل والذي لا ترضيه سمية ولا الأجمل منها .. ولا صحن الخيار ولا .. ولا .. أنت سراب يا حمد .. أنت وهم وخيال .. ومن حق نصف العقلاء في القرية اللحاق بك والضحك عليك .. حمد .. ؟ حمد ..؟ أتبكي يا حمد وفي هذه الساعة المتأخرة ؟ على ماذا ؟ على فقرك المتزامن معك ..؟ الفقر يا حمد ليس عيباً .. حمد .. حمد ونام حمد كما ينام الحمار فوق كيس التبن
هبت نسمة من نافذته المكسورة.. أطفأ ت سراجه الهزيل.. و غيبته في عتمة حالكة
لا يستيقظ من بين تلا فيفها إلا مرة واحدة – للتبول- و لا يهمه أن ارتطم بالسطل
أو الحائط .. و كم تكاسل في العودة لفراشه فنام جوار مؤخرة البقرة في الغرفة الوضيعة ذات السقف المبقور و الباب المتآكل الصدئ.. ترى بماذا كان يفكر حمد؟
بوحدانيته في القرية ؟ أم بعزوبيته القاسية أم بفقره المدقع أم بعقله الضائع ؟ من يدري ربما كان يفكر بكل هذه المعضلات التي نغصت هدوءه و عكرت مزاجه فأقلقت مضجعه ..؟و لكن القرية كلها تعتبره واحداً منها ..و الفتيات اللواتي يمازحنه لسن إلا فضوليات على روحه التي تهيم في أغوار بعيدة .. الكل يداعبنه و يلبن بعض رغباته و التي تتوافق مع مزاج مراهقتهن و دلعهن .. من في هذه القرية يملك الكثير يا حمد؟ الكل في لجة الفقر حتى المختار فقد استدان من (النور)
أكثر من نصف مليون على حساب الموسم القادم .. هذا النصف من المليون في ذمة الأرقام ما هو إلا مائتي ألف ليرة و جنونك يا حمد لم يكن مصطنعاً بقدر ما كان مكتسباً من عائلة تقادمت بالجهالة و تساقطت على الفقر من سابع جد لها و الذي كان مشرداً بين القرى و هل تلد البقرة قرداً يا حمد..؟ هف لسمعه نقرات على الباب.. فتح عيناً واحدة .. تثاءب بكسل تماطى.. اتجه صوب الباب:
 حمد .. أم علي تسأل أن جاء ديكها لدارك؟ و قبل أن يفتح الباب عرف صاحب الصوت فرد بامتعاض :
أتسال عن ديك ضائع أم عن زوج ضائع..(العمى) روح يا رجل..قال ديك قال.. يلعن أبو ..أبو..حسب الله و قرفص من جديد ليسكب لنفسه كأساً من الشاي البارد من ليلة أمس.. و قبل رشفه أول رشفة قهقه بصوت مسموع :
الديك الذي تبحث عنه أم علي هو زوج بالأصل كان يدفئ لياليها الباردة و رشف نصف الكأس و نفث دخان سيجارته من خياشيم ضيقة حتى دمعت عيناه و تبع الدمع سعال جاف متواصل فدفع بالكأس جانباً و أصبح خارج الدار ورذاذ السعال بلل ياقة قميصه و كمه … وصل دار أم علي استند على الحائط صائحاً :
يا أم علي .. بيد إن أم علي كانت في قن الدجاج تعد الفراخ و البيض…أخرجت رأسه الكبير وصوص صغير أعرج على يديها:
حمد أين الديك ؟
أي ديك يا أم علي ؟ برحمة أمي ووالدي و عمي و خالي ما رأيت الديك… وأنت حرة تصدقيّ أم لا ..
لا لن اصدق ابن الحرام ذبحت الديك قبل يومين وأكلته وأقسمت ألف يمين .. لك يوم يا حمد .
تظاهر بالانفعال فقز على الحائط :
أم علي وحياة رأس الشيخ ما رأيت الديك …
أم علي تصدق قوله وحباً في المداعبة قالت
: حمد متى تتزوج ونفرح بك ونرقص ؟ قل لي من تحب ؟
بدأت صورة حمد المنفعلة وبارتياح اقترب منها هامساً
: سمية , يا أم علي .. نهدها تقلي جبن بنت حرام .. أخ يا أم علي ..
وبقرف ملفق ردت : ولكن سمية لا تليق بك .. أنت اكبر من ذلك ..
يا عجوز النحس تسخرين مني .. سمية ملكة .. على الأقل أجمل من ابنتك انظري إلى قفاك بالمرآة كأنك بطة وخرج من صحن الدار مولياً شطر دار سمية .. مودعاً خلفه ضحكة ام علي .. عند أول دار توقف حمد .. تنفس ببطء بحث عن سيجارة .. لم يجد عابراً يناوله سيجارة تلفت حوله .. شباك أبو محمود مغلق .. نقر على النافذة .. طفلة تغسل أقداح الشاي وبصوت آمر :
أين أباك ؟
يفطر .
ناوليني منه سيجارة .
بابا لا يدخن .
آه نسيت : من أمك .
أمي ليست هنا .. ذهبت إلى البلد .
من أخيك .
أخي نائم .
يلعن ( أبوك ) أغلقي النافذة .
وهرب باتجاه دار سمية وأمام حمار المختار المشدود كانت سمية تحاول فك حبله من الوتد ومثل الثعلب يدنوا من كرمة هدأ من خطواته واتزن في حديثه
: سمية صباح الخير .. ودون التفات من سمية ردت :
الحمار عقد حبله من كثرة اللف والدوران .. تعالى ساعدني .
سمية الحمار أفضل مني .. ؟ قلت صباح الخير فعلامك لا تردين .. ؟
أوف .. أقول الحمار لف الحبل على رجله وأنت تتثاقل في الحديث .. صباح الخير .. صباح النور .. صباح الوجع والعمى .. هل أعجبك الرد ..؟ تعالى ساعدني تعال .
لا لن أساعدك والعمى لأبيك بنت الكلـ …. ومشى دون أن يعيرها أي اهتمام حمد زعلت .. ؟ أنا أمزح معك .. حمد حبيبي وبغيظ رد كذابة وبرأس الشيخ أنت كذابة .. سمية أنا لست مجنوناً .. صدقيني .. وبكى أنا لست حماراً لك ولأهل القرية .
حاشا أنت زهرة القرية تعالى وفك معي الحمار …
عاد إليها حتى لاصق نهدها .
سمية .. سمية ..
( وجع وقلع عين ) فك الحمار يا حمار .
طيب حمار لا مانع ولكن رائحة نهديك كالمسك …
( تفو ) … يلعن سابع جدك يا ابن العورة …
وقلعت السكة من لأرض ومشت مع الحمار .. نظرته سقطت على مؤخرتها المدورة .. نسمة أسرعت لتلصق الفستان بفخذها .. بدت ممتلئة
سمية .. سمية حبيبتي لحظة .
وعدا صوبها .
إلى أين .
للتل ألا تعرف .. أنا لا احبك .. اغرب عن وجهي ..
أعندك راحة وبسكويت ..؟ أنا .. أنا .. احبك برأس أمي
نعم وافتر ثغرها عن ابتسامة عاقبتها بغمزة .. جن الحمار .. عفواً حمد .
صاح بفرح اذاً سآتي معك وامسك من يدها حبل الحمار ومشى معاً هي والحمار والحمار ابن الحمار .
حين احتضن الأفق قرص الشمس الذهبي ولم يعد للظل أي استطالة على الأرض كانت المضافة تغص بالضيوف الذين وصلوا من قرية بعيدة .. ما هي المناسبة حمد لا يدري ولا يرغب في معرفة السبب .. ما يهم حمد في هذه اللحظة منسف البرغل واللحم .. فهو قائد مصاصي العظام وآمر الأطفال بالانصراف حين ارتفع صوتهم أمام نوافذ المضافة وكلما ارتفع صوته آمراً زادوا له عظماً ممتلئاً لحماً .. والجميع يفسح لحمد المجال إذا جلس حول الطعام .. فليس من الغرابة أن وجد لنفسه موضعاً بين الجالسين .. ثيابه نظيفة .. ومثل المخبر الذكي التزم بالصمت مقتدياً بقول أمه
: اشتر الحديث ولا تبع .. وكأي رجل نفث دخان سيجارته عالياً في سماء المضافة المتلبد من دخان الحاضرين .. وبين لحظة وأخرى تزوغ عيناه صوب الباب ترقبان إدخال الطعام حتى إذا يئس عاد ببصره صوب الجالس هناك على فراش وثير متوسداً صدر المضافة ومن حوله ثلة لم يتعرف على واحد منهم وما صادف منهم أحدا قرأ في وجه الكل انتظار الطعام .. لم يعبأ بما يدور من حديث .. عيناه تلتصقان بدرج الباب الذي سيصعد عليه بعد قليل حملة العشاء بمناسفهم الكبيرة ذات الحلقات الأربعة كل يحمل من حلقة .. جلجلة الرجال ارتفعت أحدهم يصرخ
: على مهلك .. التهبت أناملي .. وبالفعل تريث الرجال ثم صعدوا الدرج يحملون المناسف  ببرغلها ولحمها . فرغ الكل من تناول الطعام , كان موقع حمد جوار عجوز كفيف ولحسن حظ حمد , كانت كتل اللحم تسقط أمامه , كيف لا وحمد خبير في إسقاط اللحم يحفر بالبرغل نفقاً فيسقط منهاراً تحت ركام البرغل في حين كان يدفع بكتل الدهن أمام العجوز قائلاً : كل يا شيخنا … كل اللحم أمامك ولولا الحياء لشتم العجوز حمد .. ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله .
كالعادة هب واقفاً ليغسل يديه . وهذه من نوادره والتي يتظاهر من خلالها بالنظافة فألف مرة مسح فمه بكمه .. بل بريق كمه مؤشر على محطة القذارة فوقه ولكم نفرت فتيات القرية لما شممن منه رائحة الدهن والدخان وللبن الجاف .. مرة حين دعته خديجة لقن الدجاج ليمسك لها بدجاجة قالت له
: رائحتك تشبه رائحة التيس يا ابن الحرام .. وقت ذاك لم يشتمها بل اكتفى إن لوا زندها لوراء ظهرها واختلس منها قبلة لاصقاً جسده بقفاها ولاذت بالصمت بل تململت بجسدها ودفعته بمؤخرتها منسلة من القن .. عاد وبين أصابعه شيء ما .. يدخله بين أسنانه لتنظيفها ومن يدري ربما علق بين الضرس و الضرس نتوء من عظم أو لحم…و قبيل أن يستقر به المكان بحث بعينيه عن موقع جديد .. فبعد قليل سيأتي الشاي و يحلوا الحديث و يتنوع و ربما أحب أحدهم ممازحته  فسوف يتحدث عن نزواته و تجاربه مع فتاة تعرف عليها في المستشفى حين ماتت أمه … قادته تلك الممرضة إلى غرفتها الملاصقة لغرفة أمه..وأفرغت جيبه من السكاكر و التمر..و أعطته سيجارة و أشعلتها ..و إن ألقى استئناساً من سماعه يتابع فيقول
: و طلبت منها كشف الساق .. وضحكت .. و رتبت على فخذها قائلة
: هل سيقان فتيات أهل القرية مثل هذا الساق .. و بعد أن مسح فمه من اللعاب أجاب : لا و الله برأس والدي … و تحسس الساق ..و..جاءه النفير بأن أمه ماتت ..و ماتت اللقطة مع النعي…
قبل أن يحتسي الضيوف الشاي ..تنحنح محشرجاً ليلفت أنظار السامعين
– يا ضيوف الخير….بوجودكم يطيب الحديث ..و يحـ.. قاطعه الجالس على فراشين .
– ووجودك أطيب يا أخ..تفضل..سوى حمد من قعدته و عقاله متابعاً
– لي طلب عند المختار..إذا سمح .. لـ سرت همهمه بين الكل ..و لحظة استغراب لكن المختار قطع شريط الحيرة .
– تفضل يا حمد .. أنا عند عيونك …
وابتسم مازحاً .
– أنت خير الرجال في قريتي يا حمد … أطلق حمد العنان لوحشه الداخلي .. لأول مرة يحس اللحظة آتية ومناسبة في موقعها .. أراد لأول مرة تأكيد رجولته … تأكيد شخصيته … إثبات وجوده … و بعدها لتسقط القرية كلها في المستنقع .. لتنهد الدور فوق رؤوس أصحابها .. كفاه عذاباً .. كفاه إشفاقا ورحمة موخزة .. التفت صوب المختار .. الكل يحدق فيه .. ينتظر إطلاق القنبلة متحدياً غطرسة المتهامسين كجذع شجرة تحدى فأس الحطاب ……. احتقن وجه المختار .. اتسعت عيناه .. انفتحت فتحة أنفه .. على بركانه .. مادت الأرض تحت رجليه .. تصدعت السماء .. اقتربت الغيوم و مسحت أديم الأرض .. زوبعة ملتوية هبت ململمة كل الأوراق و بقايا القش .. ارتفعت .. و ارتفعت معها الغيوم … في حين ظل حمد رابط الجأش … لم تترك فيها عضلة ترنح الجميع من هول الزلزال الذي أوقعه في صدورهم .. تصدعت نفوسهم … أسقطت أفئدتهم فوق أيديهم … وكان بمقدور كل منهم إبعاد الركام الذي سقط عليه .. إلا أن الجميع أحبوا البقاء تحت أنقاض الزلزال كمن يرغب النوم تحت تأثير مخدر ما … وكان أول من نفض عن نفسه أتربة الزلزال وأحجار الأنقاض .. المختار فمسح لحيته وارتفع صوته :
–    الحمد لله … ولا حولة ولا قوة إلا بالله .. كما تريد يا ولدي .. كما يريد … وضغط على مشاعره تجاه ضيوفه بل ضغط على صمام الأمان أكثر محاولاً كبح جماحه .
–         أمن زمن بعيد تحب سمية ..؟
–         قفز الوحش من داخله بشراسة .. ألقى البركان حممه .
–    نعم يا مختار … ومهرها يشهد الله الذي تطلبه .. ماذا تقولون يا ضيوف الخير رد وجيه الضيوف الجالس على فراشين والمتكئ على وسادتين محشوتين .
–         نشهد بالله على موافقة المختار … قل لي عندك مهر .. يا حمد .. ؟ وبدون أن يدري .
–         أي أي عندي .. قاطعه المختار بتأدب ( وما زال محافظاً على صمام الأمان )
–         مهرها يا حمد كل الذي تملكه ومؤخرها نصف مليون .
وكأن المختار ضغط على صمام الأمان للانفجار كي لا يجد أثرا لحمد .
مثل ما تريد يا مختار .. يا جماعة الخير اشهدوا .. وارتفع صوت وجيه الضيوف الفاتحة على نية الخطبة والزواج ورفع الجميع أيديهم وسرت البسمة ….. هل جننت يا مختار ؟ ألهذا الحد تعاميت وخرست ؟ أي خطأ فادح ارتكبت يا مختار .. يا وجيه القرية ! ؟ يا صاحب المشورة يا حلال المشاكل وتسقط في أبسط مشكلة ؟ أيضحك عليك مجنون تافه مثل حمد ؟ يشهد في حمد اذكي منك بكثير أنت حمد … أنت .. أنت …. صوتها النحاسي أسقطه أرضا , لم يعد يدري زوجته تعاتبه أم تشفق عليه … تشتكي منه أو تشتكي عليه … تلعنه أم تسخطه كل ما فهمه جملة واحدة  (يا وجيه القرية ) سقط وسط دوامة دارت به … ألقته هشيماً متكسراً مضعضعاً فوق ارض صلبة … سد أذنيه ولكن صوت زوجته كان أقوى من كل وسيلة … صراخها خلق منها وحشاً أصيب بسهام … لبوة جريحة مدمومة أمام شبلها الأخرس .. أفعى جرحت في خاصرتها لم تمت .. ستقاوم .. ستفسخ الخطبة … سوف تتحول إلى رجل .. إلى مختار لا نحتاج إلى شهود وهيئة اختيارية … سترفض هذا الزواج .. ستلعنه .. ولسوف تغرس أظافرها في عنق حمد … ولسوف تلعن جد حمد …
اسمع يا مختار : هذا الزواج باطل .. لن أعطي سمية أفهمت .
هز رأسه كانت عيناه فقط يجوس فيهما الندم ويكبو في مآقيه الذل والخنوع … انحدرت دمعة غسلت آنياً كل المرئيات التي تجلت على قسمات وجهه …. وكما يشير الميت قبل رحيله بأصابعه : اسكتي ولقد وافقت وانتهى الأمر ..
( وأومأ لها أن تلوذ بالصمت أن تطبق فاهها وإلا … )
إلا ماذا يا مختار ؟ أتهددني ؟ على ماذا يا مختار على رجولتك الكسيحة أم على تخبطك الليلي الواهن ..؟ لقد بدأت أحس إنني أكرهك وحانت ساعة اللعنة إلى نهاية العمر .
تزوجت يا حمد .. بعت البقرة وثلاثة عشر خروفاً وعشر دجاجات ولملمت ديونك وأرضيت الوحش الذي في داخلك .. رويت زرعك و قطنك الهش و لم يعد يجدي الندم أو الرضا يا مختار … سواء غلبته بوجود الضيوف أم لعبة الخط .. سمية كانت تشفق عليك .. تجود عليك بالطعام و الملبس لا من عاطفة متأججة أو شوق دفين .. واجبها يقتضي التكرم  والتحنن عليك وعلى غيرك …أنها الآن بين يديك تستطيع أن تفعل بها ما تشاء .. دمية تلهوا بها …عجينة تتسلى بها تحركها كيف ما تريد تعجنها كيفما اتفقت …تنام بأمرك و تستيقظ بأمرك و تتقلب بأمرك و تأكل كما تريد أنت … و تشرب كما ترغب … قبلتها … همست لها … ناجيتها … ناغيتها … وأطفأت النور و … و… ماذا بعد ذلك …؟ ماذا بقي لك من حطام الدنيا يا حمد…؟ غرفة حقيرة و زريبة فارغة … ونصف كيس من الشعير كان من نصيب الجدي  الأبيض الذي ضاع مرة و بكيت عليه .. وها هي سمية ترغمك على مغادرة القرية كطريد منبوذ.. لقد آلمتها نظرات أترابها الوقحة والساخرة ورثائهن المقرف لها … كم كنت لطيفاً … كنت وديعاً أمينا … أتذكر يوم ضاعت نقود أبي سعيد وأسرعت إليه وفي يدك النقود ؟ أتذكر حين حملت العجوز العليل على ظهرك والمطر يغسلك وحين عدت إلى بيتك كان الجميع يسخر منك فقد كنت في نظرهم كلباً سقط في مستنقع القرية واخترقت سخريتهم بكبريائك وأنفتك … احتقروا أنفسهم أمامك ؟ اليوم اختلفت الأمور واختلطت الأوراق . وتبلبلت المفاهيم … تحولت في نظر الكل إلى نمر غدار إلى نمرود جاحد إلى منتهز وصولي … لقد بعت كل شيء وطليت الحيلة على الجميع من اجل فتاة … الآن لم يعد بمقدورك الهرب من طلباتها وما عليك إلا كالجمل السير مع الصبر وفوق ظهرك الهم … رمل يلهب رجليك وعوسج يوخز بلعومك أنها تريد المدينة تريد الكهرباء والتلفزيون والماء الساخن المتفق من الصنبور … لا تريد ولم تعد تريد ماء البئر الضحل بالخبز المتفتت ودوده المقزز وأنت يومها كنت كبغل تجر الحبل الطويل ويصرخون في وجهك إذا وصل الدلو إلى فوق … كفا يا حمار .
ألقى نظرة من نافذته المكسورة … التساؤلات تطن في رأسه فقط كانت المقارنة مجهدة بين ماضي عاشه عزيزاً رغم السخرية الطفيفة وبين حاضر يعيشه ذليلاً رغم القناعة المبتذلة … بين مستقبل لا يدري كنهه وغد مجهول لا يدري سره ومفاجئاته … أكثر من دمعة أيقظت خده الرقيق فمسحها … أكثر من حشرجة أنت في صدره فكبتها وسمية كقطة مستلقية على السرير لا تدري ماذا تقول .
مضى أكثر من شهرين لهما في المدينة .. اقتنى لها التلفاز والغسالة … جلب لداره المؤجرة بألفي ليرة في الشهر .. ثمة صحون ولوازم … وكان برنامج يومه الاستيقاظ صباحاً والهرولة باتجاه مكتب الحبوب ليعمل عتالاً والعودة بعد الأصيل منهوك القوى مغبراً متهالكاً … وزوجته قد طلت وجهها بمساحيق وأصباغ , فتارة كان يتمعن فيها خشية عدم المعرفة وطوراً يتشهى عناقها رغم عرقه ونسقه ورائحة القمح المنبعثة في جسده وحينها تحضر له الطعام كان يردد لجملته المشهورة
: الحياة في المدينة معركة تحتاج لكل سلاح … وتقهقه محدقة بالمرآة ساخرة : الآن تعرف .. ؟ ما زلت في أول الطريق .. وبعد أن يمضغ لقمته يقول
: بعد أن ينتهي الموسم سأبحث عن عمل غير هذا .
تطلعت في وجهه مستغربة : مثل ماذا .. ؟
أي شيء … ما رأيك تعمل حارساً في دائرة من الدوائر .
ويضحك مزهواً فكرة جيدة .. أو آذن مدرسة .. ما رأيك ؟
لا .. لا .. حارس أفضل .. وتستطيع أن تعمل في النهار .
ويحبوا إليها هامساً : ولكن الليل أحبه معك يا سمية .. وبغنج ودلع ساذج 
حبيبي حياتنا الزوجية في بدايتها ولا يهمنا الليل أو النهار ما دامت هناك ألفة ومحبة .. وبفضولية زوج عاشق ولهان : سمية اقتربي .. هاتي قبلة
أتريد أن اصبغ وجهك بالحمرة … ؟ وتلملم ابتسامتها .
لا يهم وجهي قد اصطبغ بحمرة القمح .. تعالي .. يجذبها نحوه وكأنه يجر سخلة من قرنها : آه رائحتك نتنة يا حمد … الم اقل لك دائماً اغتسل وبعدها تصرف كما تريد .. ؟ وتسوي شعرها متأففة .
بنت حرام .. الآن رائحتي نتنة ؟ سوف نرى ليلاً … ويدس اللقمة في فمه ويتناول الطعام في نهم.
لأول مرة نسي المفتاح في جيبه … ولأول مرة يقف كرجل متحرر متطور يدس المفتاح في أكرة الباب … كان متعباً رغم عودته في منتصف النهار .. غمرة الفرح في صدره أنسته تعبه .. فتح الباب بهدوء وصمت ليفاجئ زوجته بالدخول على غير عادة – وبدون شك ستكون في المطبخ أو في الحمام أو نائمة – فها هو احد المطربين يغني في القناة الفضائية أظن ستكون جالسة أمام الشاشة تدخن أم متكئة أو مستلقية … آه ما أجمل ساقيها الآن من خلال ثوبها الشفاف … ما أجمل النهدين وقطرة العرق منحدرة بين ساقيها لا تدري لأي نهد تلجأ .. سيباغتها على غرة … وسيلقيها أرضا وسيان أن أنهى المطرب أم يتوقف خجلاً لا يهم .
هفا لسمعه صوت رجل يقول بخنث : أشعلي سيجارتي …. صوت من يا ترى ؟ حتماً انه مدخن … ولماذا هي بالذات تشعل سيجارته ؟ أيعقل أن يكون صوت التلفزيون .. صوت ممثل أم مغني .. ؟ قبل لحظة كان مطرباً ومازال .. وألقى بمنديله جانباً .. وولج الغرفة بخطى بطيئة .. كانت سمية تتأوه تحت عراك جسدي وذئب أفطس ينهش من عطاياها …. سمية ودوى صوته طلقة في الغرفة .. ارتجت كل الزوايا … تصدعت الأرض تحت قدميه .. انشق السقف إلى قسمين أو أكثر … انفلق القلب مثل حبة القمح تدوسها أسنان الآلة … وبعدها لم يعد يدري ماذا يقول .. ماذا يفعل … ينقض .. ؟ يقتل .. ؟ يصرخ أكثر من ذلك .. ؟ يهرب .. ؟ يتفرج .. ؟ يخرس .. ؟ يبكي ويولول .. ؟ لم يعد يدري .. عاصفة دون سابق إنذار رفعته إلى فوق حلقت به .. إلى أين لا يدري بأي جدار يتمسك .. ؟ بأي شجرة يتعرش .. ؟ بأي حاجز يحتمي .. ؟ لم يجد شيءً كانت السماء حمراء قانية .. الأرض من تحته مزروعة بالمسامير الهواء فحيح نار مؤججة .. سمية ( لفظها ) ولفظ معها الانكسار الأبدي .. لفظ الدم المتدفق من حنجرته .. أخطأ كل حساباته … سمية هذا الاسم الذي أحبه أكثر من عشر سنوات ينطفئ في عشرة دقائق 
بل عشر ثوان …. اسم قدسه عشر سنوات وكوثن صلى له عشر سنوات فإذا به اليوم حجر تحت قدميه .. ما أقدس السماء وما أحقر ما تتغلف به .. كم ندفع ثمن أسماءنا غالياً كم .. وكم .. ؟ وخرج لا يدري وحين توسط فسحة الدار لمح رجلاً يهرول باتجاه الباب ليخرج إلى الشارع وغاب .. بعد دقيقة .. بعد دقيقتين .. بعد ساعة بعد يوم آو شهر لم يعد يجدي تحديد الزمن .. وقفت قباله وآثار الخطيئة ما زالت مرسومة على جسدها ووجهها :
لماذا صرخت يا حيوان ؟ اما كنت تتوقع مثل هذا الموقف .. ؟ وأشعلت سيجارتها وأرسلت الدخان بشراهة متابعة .. ومتى جاءتك الرجولة حتى تصرخ .. ؟ اسمع افعل ما تريد .. لا تهمني إجراءاتك .. أتريد الطلاق .. ؟ هات المؤخر وهذا من المستحيل لأنك لا تملك ألف ليرة .. تقتلني .. ؟ فسجل لنفسك خمسة عشر سنة سجناً .. أتريد الإبلاغ عني .. ؟ ولمن ؟ فكل من تتوهم أن يعاقبوني هم من جياع هذا الجسد ( وأشارت على نهديها ) اعرف الكل .. فقد أرضيت الكل .. والكل مبرمج لدي خلال أسبوع .. فاختر ما تريد ولوت بوجهها مشيحة بقرف ..
إن رضيت أم لا ألديك نصف مليون وهذا أبعد من المستحيل .
تطلع في رقعة السماء البعيدة .. وثمة تمتمة ترتعش بها شفتاه يا رب لا مال للطلاق ولا صبر على السجن والشيخوخة بعده وكل الأبواب مغلقة على جياع جسدها فأين الاتجاه وأين السبيل ؟ أتسكت على عهرك .. على خنوعك .. على تلويث سمعتك ؟ وهدر كرامتك ؟ حمد قبل أن تغادر المدينة إلى مكان مجهول .. أما رأيت ديك جارتك .. أتأكل الراحة وبسكويتاً .. وأغلق الباب حمد وخرج إلى أين لا احد يدري ومن يدري الحل المناسب لحمد .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…