كائنات من غبار: الكشف والتعرية

  سمير أحمد الشريف*

مستفيدا من تقنيات عصرية كثيرة كاللقطة السينمائية ورسائل الموبايل وحوار الماسنجر وتقنيات فنية أسلوبية كالاسترجاع والتداعي وأحلام اليقظة وأسلوب السخرية والمفارقة، يحملنا (هشام بن الشاوي) في نصه السردي (كائنات من غبار) لنقف على عتبات عمله الأولى/ العنوان مدققين في دلالاته العميقة الغنية والموحية، مسلطا أضواءه على حيوات المهمشين والمسحوقين في قاع المدينة والحياة.

جمل قصيرة لاهثة متوترة قلقة تحملنا لفضاءات عمله، حيث الشخصيات الشاردة المتسكعة القلقة على مصيرها الحياتي والوجودي وإحساسها القاتل باللا جدوى، في حواريات أحادية (المونولوج) أو ثنائية.
يرصد نص كائنات من غبار اليومية البسيط من معاناة الفرد، راسما صورة للوجع الإنساني، كاشفا عن رغبات الناس المخبوءة في أعماق لا وعيهم  يمارسون البوح بطريق حر وحيد (أحلام اليقظة).

يمتح نص كائنات من غبار من الغوص عميقا في ذاكرة الطفولة، معمقا إحساسنا عبر اختياره الموفق للمفردات الناقدة الساخرة لسوءات السحر وممارسات الدجل التي يجترحها البعض مستغلا حاجات الناس وأمراضهم، مشرّحا أحوال المدينة التي يحيا الناس فيها مستويات عيش متباينة ولا تحس فيها طبقة بالأخرى، محرضا من جانب آخر، ساخرا من (الحمار المديني الذي يرضى الذل).

تعيش شخصيات النص وحدتها ككائنات منبوذة مقصاة حائرة ضائعة مهمّشة تجتر فراغاتها النفسية والاجتماعية التي تعود أسبابها لعدم الوعي بسبب الأمية وتردي الحالة الاقتصادية وضآلة  المداخيل، منغلقة على همها مجترة أحلام يقظتها أملا بتغير الأحوال أو تحسنها، ويستخدم القاص لغة نجحت إلى حد كبير في التعبير عن الحالة النفسية لتلك الشخصيات.

انعكس مذاق المحلية بوضوح على فضاء النص وحركة أشخاصه التي رسمت بصدق فني موضوعي عند رصدها أطياف ذلك الفضاء وإن غلّفت السخرية تعابيره ومفرداته وجمله.
تناول (هشام بن الشاوي) لهذا الكشف جاء جريئا مليئا بالإدهاش والتشويق موظفا آخر التقنيات الحديثة لكشف زيف الحيوات التي تحياها شخوص نصه.
التركيز على الجوّاني كان لافتا بكشف أعماق الشخصيات التي تحترق بحرمانها ومكبوتاتها وانكسار أحلامها التي أوصلها لتعاطي السكر وفقدان الترابط الأسري وضياع حميمة الدفء فيها.

شخصيات (هشام ) جاءت متنوعة مع انزياحات  واضحة جميلة على مستوى اللغة (الحافلة تمخر عباب الإسفلت)، إضافة لتداول ضمائر السرد بين المخاطب والغائب.
حضور لافت للغة الشعر واللغة المحكية المغرقة في محليتها حد الاستغلاق على من لم يعايش تلك اللهجة وتطعيمها بمفردات أجنبية وتصوير دقيق معبر ومؤثر.

هناك حضور للتحريض عن طريق الإيحاء للكائنات الغبارية بتغير حالتها، هناك حضور للجسد المتوتر المشوه المهمل، هناك تعدد لأنماط المرأة، هناك شخصيات تجتهد لتحقيق ذواتها التي يدمرها الفقر والحرمان العاطفي، هناك حفر في تناقضات الإنسان وتعدد أقنعته وتتبع تشعبات أبعاده النفسية وصراعاتها، هناك توظيف لافت للفصحى والعامية والنكتة التي أصبحت مرآة دالة على عمق المأساة، وإن قيلت بقالب فكاهي أقرب إلى جلد الذات.

إذا سلمنا بأن النص الأدبي/ والرواية تحديدا، أداة معرفية وشكلا تعبيرا كاشفا لتناقضات وصراعات الفرد وتحولات المجتمع فقد نجح مؤلف كائنات من غبار في اجتراح فضاء روائي تخييلي عبّر باقتدار فني عن كشف وتعرية وفضح الواقع المجتمعي.

* كاتب وناقد من الأردن

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى أنيس حنا مديواية، ذي المئة سنة، صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة
إبراهيم اليوسف

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا، بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفًا، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلًا وجوديًا، حاسمًا، مزلزلًا. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته،…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…