إبراهيم محمود
تحيلنا الترجمة إلى وضعية تقابل بين لغتين، حيث يتم نقل نص من إحداهما إلى الأخرى.
إن إشكالية الترجمة الكبرى تتركز على مدى دقة المترجم، وشعوره بمسؤولية ما يقوم به، على جانب الكفاية في عملية الترجمة، وموقعه بينهما.
ثمة الترجمة الأخرى، تلك التي تحيل المصمت أو الجاري تخيله، إلى نص مقروء، ولدينا في كتابة الرواية تجلّي الألم الممض لكاتبها، كيف أنه يعاني الكثير ليحسن ترجمة الصورة، أو الفكرة والصورة في نص أدبي يسمّيه.
تحيلنا الترجمة إلى وضعية تقابل بين لغتين، حيث يتم نقل نص من إحداهما إلى الأخرى.
إن إشكالية الترجمة الكبرى تتركز على مدى دقة المترجم، وشعوره بمسؤولية ما يقوم به، على جانب الكفاية في عملية الترجمة، وموقعه بينهما.
ثمة الترجمة الأخرى، تلك التي تحيل المصمت أو الجاري تخيله، إلى نص مقروء، ولدينا في كتابة الرواية تجلّي الألم الممض لكاتبها، كيف أنه يعاني الكثير ليحسن ترجمة الصورة، أو الفكرة والصورة في نص أدبي يسمّيه.
ذلك ما يمكن اعتباره ضرباً من ضروب الاستحالة حتى بالنسبة للروائي نفسه، وهو يحاول التنظير لرواية له، أو الاعتزاز بروايته أو تلك، كما هو المعتاد بين جمهرة روائيينا، في منافسة مضمرة، هي ذاتها فعل ترجمة لحدث أدبي، فني، استباقي، ودخول في منحى استعراضي تبعاً لنوعية المصرَّح به هنا وهناك.
عن الرواية مستحيلة الترجمة
ذلك ما يمكن التشديد عليه، من جهة أن الروائي، أي روائي دون استثناء، وهو ينجز روايته، ويدفع بها إلى المطبعة، ثم يتابع ردود قرائه أو يتلقاها، يمارس لعبة التكتم المتعددة الأدوار إزاء حقيقة روايته تلك، كيف بدأ بالكتابة، كيف تهيأ لها، ومن أين نبعت فكرتها، وماذا تملَّكه نفسياً وذهنياً، وكيف تخيل قراءه، أو نفسه في الطرف الآخر، وهو في معمعان الحدث الكتابي: حدث كتابة الرواية، ليس في البداية، وإنما بامتداد صفحاتها.
ليس من كاتب لا يعيش نوعاً من الصراع الذي بالكاد يُسمى، بين إظهار رضى مما كتبه في رواية ما، والتهرب من الإجابة الدقيقة» أي معيار يعتمَد في تبين الدقة هذه؟»، ليكون في مقدور الآخرين الإقبال على قراءتها، وما يتكتم عليه، لأنه في موضع ما، أو حالة ما تعنيه، كان عليه أن يكون أفضل مما عرِف به..
أظن أن ثمة شيزوفرينية واعية في الكتابة، يتلمس فيها الروائي حضوراً لذاته الأقدر على الاستجابة للمصمت فيه. شيزوفرينيا يضطر إلى اعتمادها الروائي، ليحسن التخلص من ذاته الأخرى: اليومية، لبعض الوقت، ثم يعود إليها لحظة الانتهاء من عمله، لكن ذلك يكلفه الكثير، خصوصاً حين يتقدمه اسمه الروائي، إذ عليه أن يعمل مترجماً لدى ذاته في عالم اللاوعي المعتبَر: عالم الإبداع، ويصدّق ترجمته وهو مفارق ذاته..
إنها الترجمة البينية: الترجمة التي يقوم بها الروائي لفكرة وقد استحالت شخصيات ومناخات وعلاقات، ترجمة وضعية ما جرت نمذجتها، حيث يصاب بالعسر في رؤية الهدف، بالعجز النسبي في امتلاك المرغوب فيه.
إن المتردد- مثلاً- عن أن همنغواي، كان يكتب كل صفحة من الصفحات الأخيرة لروايته» وداعاً للسلاح»، ثماني وثلاثين مرة، تأكيداً على مدى انشغاله الإبداعي بها، لا يعني أنه انهمَّ بها كثيراً، إنما كان يعيش سلسلة من الصراعات جراء عملية الكتابة في كل مرة، أنه كان يعتبر كل صفحة يقبل على كتابتها، ترجمة أكثر استجابة للمعنى، إنما- بالمقابل- ترجمة لا تفي بالغرض إطلاقاً، ليموت همنغواي وفي قلبه حسرة من الصفحة التالية..
ليس من روائي لا يتحدث عن علاقته الخاصة بما يكتبه، يتحدث فيما لا يريد تسميته حرفياً، وهو أنه يخون ذاته المتعددة، جهة النسخة التي يراهن عليها، وهي على مسافة قريبة منه، ولكنها سرعان ما تفلت منه.
ليس من روائي لا يترجم ما يريد تدوينه مراراً وتكراراً وفي متخيله، وفي المراجعة.
ثمة افتراض راسخ الجذور لدى الروائي يتعلق بذلك الاعتقاد الفولكلوري الشديد الذاتية، وهو أن طريقاً أسلم وأوسع يشق الغابة، لكتابة الأجمل، كما لو أن تقصّي النسخة الغائبة أو الضائعة، افتراض جدير بالأخذ به، بقدر ما يمثل حقيقة ما يصبو إليه، لهذا تظل المسافة الفاصلة بين كتابة نص الرواية، وما عاناه الروائي، عرضة للتكهنات والمداولة بين أهل الأدب والنقد، وحتى التحليل النفسي، إلى درجة التوهم، لأن العالم الذي ينطوي عليه الروائي في داخله يحفّز على تصور هذه الشبكة الهائلة، شبكة القنوات التي تمرّر مؤثرات تسلط الضوء عليه..
علينا في هذا المقام، أن ندفع بهذا التصور الافتراضي إلى أقصى مدى، بما أن كتابة الرواية لعبة في قلب متاهة، وأن الكتابة عن الرواية بحث عن مكونات اللعبة ومسوغاتها، وذلك في القول بأن ما كتبه دوستويفسكي، في « الإخوة كارامازوف»، أو تولستوي، في» الحرب والسلام»، أو بروست، في» البحث عن الزمن المفقود»، أو محفوظ في» ثلاثيته»…، كان يمثل الوجه الأكثر مأسوية في مكابدة المأمول، في محاولة تجسيد المعنى، إيحاء إلى أن العمل الروائي الضخم لدى أي من هؤلاء، إنما يستند إلى المعاناة الكبيرة في ترجمة المتخيَّل الروائي، أنه كان ثمة عودة مستمرة إلى بداية ما» إلى بدايات شتى»، رغم التقدم في كتابة النص، والتعويض عنه بتقديم مشهد على آخر، أو تحويل مسار فرعي في الرواية، ليكون في المتاح هذا الشعور برضى ما، الشعور بأن ثمة ترجمة أفضل للمعنى قد تحققت،
لكن» الرضا عن النفس أمر مستبعد» بتعبير الكندية مارجريت أتوود، وخصوصاً بالنسبة لمتوخّي الإبداع. لهذا يجد القارئ نفسه وهو يعيش حيوات شخصيات الرواية هذه أو تلك، إزاء كم وافر من الأسئلة عما تصوره الروائي عن النسخة الضائعة أو الأصلح، النسخة التي يستحيل العثور عليها، لأنه يخرج من دائرة الأدب، لا يعود معترفاً به، لا بل يتوقف عن الكتابة، وبالتالي، تكون مجموعة الأعمال الإبداعية في حقيقتها، بمثابة الترجمة المتعددة لحقيقة النسخة غير الممتلكة، لهذا، فإن الحديث عن كتابة رواية غير مسبوقة اعترافاً ضمنياً، بأن الذي يعرَف به لا يعتبر الترجمة الجديرة بالثناء عليها..
ذلك يذكّرنا بما كان يقال عن القصيدة الحولية، والتي تسمّي هنا» زهير بن أبي سلمى»، قصيدة تكتب على مدار عام كامل، ولنا أن نتخيل كيف يعيش أجواءها، كيف يمارس ترجمة مشاعره، لتلد قصيدته مستوفية شروطها الإبداعية بلغة أهل زمانها، ليظل السؤال مكرَّراً: هل حقاً كانت تلك القصيدة المنتظرة؟
هذا ينطبق على الرواية، واستماتة الروائي في كتابتها، ما يخربشه على الورق، أو من كتابة وإمحاء لها، أو تعديل أو تغيير، أو تجاوز، في حوار متعدد المستويات، إزاء عملية الترجمة العائدة إليه، حيث ينتظرها قارئها الذي لا يمكن التقليل من نباهته في إبراز جمالية الترجمة أو تبين أوجه الخلل فيها..
إن القارئ ضليع بالترجمة الذاتية، صفيق أحياناً في مساءلة المتكتم عليه لدى روائيه هذا..
نحن إزاء سلسلة من «الكذبات» المسماة فناً، أعني إزاء سلسلة من الترجمات أو قائمة لا تحصى منها، للرواية الواحدة، وقد تعددت نسخها، وتباعدت أمكنتها وأزمنتها بالمقابل، يتوقف الروائي عند إحداها بوصفها الأكثر دقة نزولاً عند رغبة تتملكه أكثر من غيرها، كما هو عمل المحقق الذي يقارن بين مجموعة من النسخ الخاصة بعمل أدبي، فكري ما، سوى أن الأخير يعتمد على الملموس، أما الآخر فليس لديه سوى عوالم مركَّبة، وهو وحده وقد تعدد وتنوع، ليكون الأكثر غواية لديه، أي بمثابة النسخة الأصدق ترجمة. إن عدم إظهار رضى الروائي عن روايته هذه أو تلك، وباعترافه الصريح كتابة أو في حوار ما، يعني أن ضغطاً ما دفعه إلى ذلك، بمعنى أنه بعد « الولادة» الوهمية لها، تبدى لديه أن ثمة ترجمة أفضل، أو ربما أكثر من واحدة، إنما بعد فوات الأوان، ولعل الحديث عن عدم نجاح الرواية الفني، أو صعوبة تصديقها، هو الأثر السيئ للترجمة الذاتية لها، هو أن الروائي لم يحسن تفهم ذاته الأخرى التي لا تتوافر لأي كان، ويعني ذلك أيضاً، أننا مترجمون بامتياز داخل اللغة الواحدة، سوى أن الذي يقاوم ذاته اليومية أكثر من غيره، وحده من يتأهل إلى مستوى المترجم، ليحقق إبداعاً لا يعدو أن يكون مصادقة على ما ليس موجوداً في الأساس. إنها الرومانسية التي لا مفر منها للدخول في عالم بعيد المنال لكنه ممتع، إذ لا مفر من المصادقة على هذا الوهم الذي يمد بحيواتنا خارج حدودنا الأرضية، على هذه الترجمة، كونها تخفف عنا وطأة العالم الوحيد الذي نعيشه..
إن ذلك لا يعدو أن يكون تعميقاً لتراث الرواية، لترجماتها الذاتية التي لا تنتهي، وهي تنوع في أساليبها وعناوينها، أعني وهي تلجأ إلى تقنيات شتى في الترجمة، إذ على الروائي أن يستسيغ ترجمته لروايته، ولو نسبياً، ليحسن تقديمها للآخر: القارئ!
ذلك ما يمكن التشديد عليه، من جهة أن الروائي، أي روائي دون استثناء، وهو ينجز روايته، ويدفع بها إلى المطبعة، ثم يتابع ردود قرائه أو يتلقاها، يمارس لعبة التكتم المتعددة الأدوار إزاء حقيقة روايته تلك، كيف بدأ بالكتابة، كيف تهيأ لها، ومن أين نبعت فكرتها، وماذا تملَّكه نفسياً وذهنياً، وكيف تخيل قراءه، أو نفسه في الطرف الآخر، وهو في معمعان الحدث الكتابي: حدث كتابة الرواية، ليس في البداية، وإنما بامتداد صفحاتها.
ليس من كاتب لا يعيش نوعاً من الصراع الذي بالكاد يُسمى، بين إظهار رضى مما كتبه في رواية ما، والتهرب من الإجابة الدقيقة» أي معيار يعتمَد في تبين الدقة هذه؟»، ليكون في مقدور الآخرين الإقبال على قراءتها، وما يتكتم عليه، لأنه في موضع ما، أو حالة ما تعنيه، كان عليه أن يكون أفضل مما عرِف به..
أظن أن ثمة شيزوفرينية واعية في الكتابة، يتلمس فيها الروائي حضوراً لذاته الأقدر على الاستجابة للمصمت فيه. شيزوفرينيا يضطر إلى اعتمادها الروائي، ليحسن التخلص من ذاته الأخرى: اليومية، لبعض الوقت، ثم يعود إليها لحظة الانتهاء من عمله، لكن ذلك يكلفه الكثير، خصوصاً حين يتقدمه اسمه الروائي، إذ عليه أن يعمل مترجماً لدى ذاته في عالم اللاوعي المعتبَر: عالم الإبداع، ويصدّق ترجمته وهو مفارق ذاته..
إنها الترجمة البينية: الترجمة التي يقوم بها الروائي لفكرة وقد استحالت شخصيات ومناخات وعلاقات، ترجمة وضعية ما جرت نمذجتها، حيث يصاب بالعسر في رؤية الهدف، بالعجز النسبي في امتلاك المرغوب فيه.
إن المتردد- مثلاً- عن أن همنغواي، كان يكتب كل صفحة من الصفحات الأخيرة لروايته» وداعاً للسلاح»، ثماني وثلاثين مرة، تأكيداً على مدى انشغاله الإبداعي بها، لا يعني أنه انهمَّ بها كثيراً، إنما كان يعيش سلسلة من الصراعات جراء عملية الكتابة في كل مرة، أنه كان يعتبر كل صفحة يقبل على كتابتها، ترجمة أكثر استجابة للمعنى، إنما- بالمقابل- ترجمة لا تفي بالغرض إطلاقاً، ليموت همنغواي وفي قلبه حسرة من الصفحة التالية..
ليس من روائي لا يتحدث عن علاقته الخاصة بما يكتبه، يتحدث فيما لا يريد تسميته حرفياً، وهو أنه يخون ذاته المتعددة، جهة النسخة التي يراهن عليها، وهي على مسافة قريبة منه، ولكنها سرعان ما تفلت منه.
ليس من روائي لا يترجم ما يريد تدوينه مراراً وتكراراً وفي متخيله، وفي المراجعة.
ثمة افتراض راسخ الجذور لدى الروائي يتعلق بذلك الاعتقاد الفولكلوري الشديد الذاتية، وهو أن طريقاً أسلم وأوسع يشق الغابة، لكتابة الأجمل، كما لو أن تقصّي النسخة الغائبة أو الضائعة، افتراض جدير بالأخذ به، بقدر ما يمثل حقيقة ما يصبو إليه، لهذا تظل المسافة الفاصلة بين كتابة نص الرواية، وما عاناه الروائي، عرضة للتكهنات والمداولة بين أهل الأدب والنقد، وحتى التحليل النفسي، إلى درجة التوهم، لأن العالم الذي ينطوي عليه الروائي في داخله يحفّز على تصور هذه الشبكة الهائلة، شبكة القنوات التي تمرّر مؤثرات تسلط الضوء عليه..
علينا في هذا المقام، أن ندفع بهذا التصور الافتراضي إلى أقصى مدى، بما أن كتابة الرواية لعبة في قلب متاهة، وأن الكتابة عن الرواية بحث عن مكونات اللعبة ومسوغاتها، وذلك في القول بأن ما كتبه دوستويفسكي، في « الإخوة كارامازوف»، أو تولستوي، في» الحرب والسلام»، أو بروست، في» البحث عن الزمن المفقود»، أو محفوظ في» ثلاثيته»…، كان يمثل الوجه الأكثر مأسوية في مكابدة المأمول، في محاولة تجسيد المعنى، إيحاء إلى أن العمل الروائي الضخم لدى أي من هؤلاء، إنما يستند إلى المعاناة الكبيرة في ترجمة المتخيَّل الروائي، أنه كان ثمة عودة مستمرة إلى بداية ما» إلى بدايات شتى»، رغم التقدم في كتابة النص، والتعويض عنه بتقديم مشهد على آخر، أو تحويل مسار فرعي في الرواية، ليكون في المتاح هذا الشعور برضى ما، الشعور بأن ثمة ترجمة أفضل للمعنى قد تحققت،
لكن» الرضا عن النفس أمر مستبعد» بتعبير الكندية مارجريت أتوود، وخصوصاً بالنسبة لمتوخّي الإبداع. لهذا يجد القارئ نفسه وهو يعيش حيوات شخصيات الرواية هذه أو تلك، إزاء كم وافر من الأسئلة عما تصوره الروائي عن النسخة الضائعة أو الأصلح، النسخة التي يستحيل العثور عليها، لأنه يخرج من دائرة الأدب، لا يعود معترفاً به، لا بل يتوقف عن الكتابة، وبالتالي، تكون مجموعة الأعمال الإبداعية في حقيقتها، بمثابة الترجمة المتعددة لحقيقة النسخة غير الممتلكة، لهذا، فإن الحديث عن كتابة رواية غير مسبوقة اعترافاً ضمنياً، بأن الذي يعرَف به لا يعتبر الترجمة الجديرة بالثناء عليها..
ذلك يذكّرنا بما كان يقال عن القصيدة الحولية، والتي تسمّي هنا» زهير بن أبي سلمى»، قصيدة تكتب على مدار عام كامل، ولنا أن نتخيل كيف يعيش أجواءها، كيف يمارس ترجمة مشاعره، لتلد قصيدته مستوفية شروطها الإبداعية بلغة أهل زمانها، ليظل السؤال مكرَّراً: هل حقاً كانت تلك القصيدة المنتظرة؟
هذا ينطبق على الرواية، واستماتة الروائي في كتابتها، ما يخربشه على الورق، أو من كتابة وإمحاء لها، أو تعديل أو تغيير، أو تجاوز، في حوار متعدد المستويات، إزاء عملية الترجمة العائدة إليه، حيث ينتظرها قارئها الذي لا يمكن التقليل من نباهته في إبراز جمالية الترجمة أو تبين أوجه الخلل فيها..
إن القارئ ضليع بالترجمة الذاتية، صفيق أحياناً في مساءلة المتكتم عليه لدى روائيه هذا..
نحن إزاء سلسلة من «الكذبات» المسماة فناً، أعني إزاء سلسلة من الترجمات أو قائمة لا تحصى منها، للرواية الواحدة، وقد تعددت نسخها، وتباعدت أمكنتها وأزمنتها بالمقابل، يتوقف الروائي عند إحداها بوصفها الأكثر دقة نزولاً عند رغبة تتملكه أكثر من غيرها، كما هو عمل المحقق الذي يقارن بين مجموعة من النسخ الخاصة بعمل أدبي، فكري ما، سوى أن الأخير يعتمد على الملموس، أما الآخر فليس لديه سوى عوالم مركَّبة، وهو وحده وقد تعدد وتنوع، ليكون الأكثر غواية لديه، أي بمثابة النسخة الأصدق ترجمة. إن عدم إظهار رضى الروائي عن روايته هذه أو تلك، وباعترافه الصريح كتابة أو في حوار ما، يعني أن ضغطاً ما دفعه إلى ذلك، بمعنى أنه بعد « الولادة» الوهمية لها، تبدى لديه أن ثمة ترجمة أفضل، أو ربما أكثر من واحدة، إنما بعد فوات الأوان، ولعل الحديث عن عدم نجاح الرواية الفني، أو صعوبة تصديقها، هو الأثر السيئ للترجمة الذاتية لها، هو أن الروائي لم يحسن تفهم ذاته الأخرى التي لا تتوافر لأي كان، ويعني ذلك أيضاً، أننا مترجمون بامتياز داخل اللغة الواحدة، سوى أن الذي يقاوم ذاته اليومية أكثر من غيره، وحده من يتأهل إلى مستوى المترجم، ليحقق إبداعاً لا يعدو أن يكون مصادقة على ما ليس موجوداً في الأساس. إنها الرومانسية التي لا مفر منها للدخول في عالم بعيد المنال لكنه ممتع، إذ لا مفر من المصادقة على هذا الوهم الذي يمد بحيواتنا خارج حدودنا الأرضية، على هذه الترجمة، كونها تخفف عنا وطأة العالم الوحيد الذي نعيشه..
إن ذلك لا يعدو أن يكون تعميقاً لتراث الرواية، لترجماتها الذاتية التي لا تنتهي، وهي تنوع في أساليبها وعناوينها، أعني وهي تلجأ إلى تقنيات شتى في الترجمة، إذ على الروائي أن يستسيغ ترجمته لروايته، ولو نسبياً، ليحسن تقديمها للآخر: القارئ!
جريدة الثورة – الملحق الثقافي
21/9/2010 م
21/9/2010 م