هشام بن الشاوي
يستهل وليد سليمان كتابه “إيروس في الرواية” برسالة من الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا في نسختيها الأصلية(الإسبانية) والمعرّبة، معنونة بـ”إلى أصدقائي التونسيين الذين لم ألتقهم”، تحدث فيها يوسا عن كتب يشترك فيها مع قراءه التونسيين (العرب)، فيثبتون رغم البعد الجغرافي و الانتماء إلى ثقافتين مختلفتين بأن بينهم وبينه “هذا الكاتب الذي هو أنا وشائج عميقة لا تنقطع. مثلا، عشقي للروايات العظيمة التي أثرت حيواتنا ومكنتنا من الحلم، تعويضا عن التقلبات والخيبات التي تُعرِّضُنا لها، أحيانا، حياتنا اليومية”. مؤكدا على أن وظيفة الروايات الجيدة إيقاظ الروح النقدية في ما يتعلق بالواقع المعيش والحث على العمل من أجل إصلاحه وتحسينه، متمنيا أن تحرض مقالاته بعض قرائه التونسيين على قراءة أو إعادة قراءة تلك الروايات التي تعتبر من أفضل ما أنتج في القرن العشرين، “قرن الكوارث السياسية الكبيرة والحروب الفظيعة، ولكن أيضا، قرن إبداعات العقل الرائعة”.
وأشار وليد سليمان في مقدمته للكتاب إلى أنه اختار هذا العنوان للكتاب بدل العنوان الأصلي “حقيقة الأكاذيب”، لوجود رابطين أولهما تناول نصوص الكتاب لروايات مهمة، وطغيان الجانب الإيروسي عليها (والذي طغى كذلك على روايات يوسا الأخيرة)، والثاني أن تلك الروايات بقيت أعمالا خالدة في ذاكرة الإنسانية، وكذلك غوصه -يوسا- العميق في ثنايا تلك الروايات مستفيدا من خبرته الروائية واشتغاله على أسرار الكتابة الروائية…
* “الموت في البندقية” لتوماس مان:. حسب ماريو (للإشارة فهي الرواية التي اتهم بسببها كاتبها بالمثلية الجنسية)، فهي تمتاز بفتنة الحبكة والتميز الشكلي، والإشعاع اللامتناهي للتداعيات والرموز التي تولدها الحكاية في ذهن القارئ، وإعادة قراءتها تجعل القارئ يحس بأن أمرا ملغزا بقي في النص، له صلة بالقدر وبالتجربة الإنسانية. إن غريزة الموت/الشر/البحث عن سيادة الفرد الكاملة، التي تسبق المواضعات التي يحددها أي مجتمع للحيلولة دون تفكك الجماعات والعودة إلى البربرية، وكبح أهواء الأفراد حتى لا تشكل خطرا على الجسد المجتمعي… إنه التعريف الحقيقي لفكرة الحضارة. لكن الملاك الذي يعيش داخل الإنسان لا يستطيع هزم الشيطان الذي يتقاسم معه الشرط الإنساني، وإن كانت الفضيلة تضمن رقي المجتمع، فهي لا تكفي لتحقيق سعادة الأفراد الذين تكبت أهواءهم حتى لا تشكل خطرا على الجسد المجتمعي. إنها تتحين الفرصة للظهور، مما يؤدي إلى الدمار والموت، والجنس هو المنطقة المفضلة التي تتحرك فيها الشياطين القادمون من المناطق المظلمة بالنفس الإنسانية، ونفيه التام يفقر الحياة ويحرمها من الحماسة والنشوة الضروريين للكائن.
هذه هي المضامين الشائكة التي سلط عليها توماس مان الأضواء. فجمال الطفل الذي أغرم به بطل الرواية الخمسيني كان الحافز الذي أطلق حالة تدمير انتهت إلي تدمير واقعي بالكوليرا، فيما يمكن أن يكون إشارة لانحلال أوروبا الاجتماعي والسياسي، الخارجة من زمن الانفلات المرح إلي الاستعداد للتدمير الذاتي. الوباء ثمن الانحطاط والجنون والإفلاس وهي نزعة أخلاقية لدى الكاتب، وقد كان توماس مان ضحية أخلاق البورجوازية الصارمة، ويتساءل بارغاس: لماذا يعاقب الفنان بكل تلك القسوة وكل خطيئته أنه اكتشف اللذة متأخرا على المستوى الذهني فقط؟
* “المحراب” لوليام فوكنر: هي ابتكار أفظع حكاية يمكن تخيلها، حكاية قاسية حد العبث، لكن يلعب الشكل فيها دور البطل، فهو شديد الحضور في السرد، والرواية تبقي جزءً من الحكاية خارج السرد، متروكا لنزوة القارئ، والتلاعب بمعطيات الحكاية المختلسة لفائدة القارئ الأكثر براعة. الراوي لا يكشف عما تفكر فيه الشخصية، ويقفز إلى حركات وأفعال يكشف عنها فيما بعد بشكل مباغت. ويرى ماريو أن الأدب الخيالي عملية تطهير، فكل ما يكبت في الحياة الواقعية لضمان استمراريتها، يجد فيها ملجأ وأحقية للوجود وحرية للعمل على نحو أكثر إيذاء ورعبا.
* “مدار السرطان” لهنري ميلر: يعتبرها الناقد كتابا عظيما ورجيما، راجت حوله الأساطير قبل ثلاثين عاما، فقرأه وانبهر به، واكتشف أن فضائحيته ليست بسبب المقاطع الإباحية، وإنما بسبب ابتذاله وعدميته، ورغم انتهاك أدب ميلر -وهو الذي عاش بوهيميا- للمقدسات، مهمته تذكير البشر بأن المدينة التي يسكنونها مهما بدت عامرة، فهناك شياطين مختبئة في كل مكان يمكن أن تسبب الطوفان في أي لحظة.
ترصد الرواية قاع باريس بشخصياته المنبوذة التي استوطنت الهامش الثقافي، أما الموقف الأخلاقي لميلر فيلخص في أنه لا يجوز للفرد أن يضحي بأهوائه ونزواته، ويجب المطالبة بها بإلحاح أمام الزحف الجائر للحداثة التي تهدد بمحوها… هي نزعة فردية متطرفة ليحافظ على حريته. وفي روايته حقق التوازن بين فوضى التلقائية والحدس المحض والتحكم العقلاني في العمل الروائي، رغم انتصاره للأهواء والأحاسيس. ويخلص يوسا إلى أن كتاب ميلر جميل وفلسفته مؤثرة رغم سذاجتها، ولا توجد حضارة يمكنها الصمود أمام فردية متطرفة، باستثناء تلك التي تكون مستعدة لإرجاع الإنسان إلى العصر البدائي.
* “حسناء من روما” البرتو مورافيا: يعترف بأنه قرأها أول مرة حين كان لازال صبيا يرتدي التبان، متحديا الحظر العائلي لجديه وأمه.. ويصنفها ضمن قمم الواقعية الجديدة بإيطاليا. الرواية لا يصدقها إلا القارئ الذي يتخلى عن الوهم الواقعي، ويستعد ليعيش في نزوة أدبية، وقد برع فيها مورافيا في رسم البورتريهات النفسية، ولا يرى ماريو ما يبرر تلك الضجة التي رافقت الرواية، فالمشاهد الجنسية معظمها تافه تقريبا، والساردة -رغم ممارستها البغاء- تظهر أخلاقا صارمة، وجسارة الكتاب الوحيدة هي لاأخلاقية الأم، التي تكاد تكون شاهدة عيان على لقاءات ابنتها مع زبائنها، مع صعوبة تخيل هذا التفصيل الهامشي.. ويختم مقاله بالإشارة إلى أن تغيرات عقلية القراء، بعد هذه الأربعين سنة، سيجعلهم يقرؤون الرواية دون السقوط في الأحكام الجاهزة.
* “لوليتا” لفلاديمير نابوكوف: مع انتشار الرواية ذاع مصطلح “لوليتا”، كناية عن المرأة/الطفلة، المتحررة دون علمها، والتي ترمز في اللاوعي إلى ثورة الأخلاق المعاصرة، والرواية من الأحداث التي مهدت لـ”عصر التسامح الجنسي”.. تلاشي التابوهات بين المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية. إنها استعارة تعكس شعورَ كاتبها كأوربيٍّ، شرقيٍّ أحس بخيبة أمل شديدة اتجاه الولايات المتحدة، بسبب ما فيها من قلة نضج، بعد حبه الجارف لها…
* “بيت الجميلات النائمة” لياسوناري كاواباتا: يتحدث في مستهل ورقته عن قراءة نص مترجم وما قد يفقده أثناء رحلته اللغوية من عطور النص الأصلي، ويشير إلى أن الرواية مستلهمة من التوراة، (وهي الرواية التي فتنت صديقه اللدود ماركيز، فكتب “ذاكرة غانياتي الحزينات”)، وأنها ليست ذات نزعة طهرانية، بل تزخر بسفاحات وحشية تفضح فظاعة الخطيئة.
* “المفكرة الذهبية” لدوريس ليسنغ: الرواية إنجيل النسويين، وأنصار الرواية و مهاجموها يعترفون بدورها كرواية تنتمي إلى عصرها، تطرقت إلى عدة مواضيع منها: التحليل النفسي، الستالينية، العلاقة بين المتخيل والمعيش، الحرب بين الجنسين، تحرير المرأة والوضعية الاستعمارية والعنصرية، والرواية ليست وصفة ضد استلاب المرأة في المجتمع المعاصر.. إنها رواية حول الأوهام الضائعة للمثقفين وفشل اليوتوبيا، بعيون امرأة، وبالمعنى الذي يريده عشاق القيامة.
* “الموت في البندقية” لتوماس مان:. حسب ماريو (للإشارة فهي الرواية التي اتهم بسببها كاتبها بالمثلية الجنسية)، فهي تمتاز بفتنة الحبكة والتميز الشكلي، والإشعاع اللامتناهي للتداعيات والرموز التي تولدها الحكاية في ذهن القارئ، وإعادة قراءتها تجعل القارئ يحس بأن أمرا ملغزا بقي في النص، له صلة بالقدر وبالتجربة الإنسانية. إن غريزة الموت/الشر/البحث عن سيادة الفرد الكاملة، التي تسبق المواضعات التي يحددها أي مجتمع للحيلولة دون تفكك الجماعات والعودة إلى البربرية، وكبح أهواء الأفراد حتى لا تشكل خطرا على الجسد المجتمعي… إنه التعريف الحقيقي لفكرة الحضارة. لكن الملاك الذي يعيش داخل الإنسان لا يستطيع هزم الشيطان الذي يتقاسم معه الشرط الإنساني، وإن كانت الفضيلة تضمن رقي المجتمع، فهي لا تكفي لتحقيق سعادة الأفراد الذين تكبت أهواءهم حتى لا تشكل خطرا على الجسد المجتمعي. إنها تتحين الفرصة للظهور، مما يؤدي إلى الدمار والموت، والجنس هو المنطقة المفضلة التي تتحرك فيها الشياطين القادمون من المناطق المظلمة بالنفس الإنسانية، ونفيه التام يفقر الحياة ويحرمها من الحماسة والنشوة الضروريين للكائن.
هذه هي المضامين الشائكة التي سلط عليها توماس مان الأضواء. فجمال الطفل الذي أغرم به بطل الرواية الخمسيني كان الحافز الذي أطلق حالة تدمير انتهت إلي تدمير واقعي بالكوليرا، فيما يمكن أن يكون إشارة لانحلال أوروبا الاجتماعي والسياسي، الخارجة من زمن الانفلات المرح إلي الاستعداد للتدمير الذاتي. الوباء ثمن الانحطاط والجنون والإفلاس وهي نزعة أخلاقية لدى الكاتب، وقد كان توماس مان ضحية أخلاق البورجوازية الصارمة، ويتساءل بارغاس: لماذا يعاقب الفنان بكل تلك القسوة وكل خطيئته أنه اكتشف اللذة متأخرا على المستوى الذهني فقط؟
* “المحراب” لوليام فوكنر: هي ابتكار أفظع حكاية يمكن تخيلها، حكاية قاسية حد العبث، لكن يلعب الشكل فيها دور البطل، فهو شديد الحضور في السرد، والرواية تبقي جزءً من الحكاية خارج السرد، متروكا لنزوة القارئ، والتلاعب بمعطيات الحكاية المختلسة لفائدة القارئ الأكثر براعة. الراوي لا يكشف عما تفكر فيه الشخصية، ويقفز إلى حركات وأفعال يكشف عنها فيما بعد بشكل مباغت. ويرى ماريو أن الأدب الخيالي عملية تطهير، فكل ما يكبت في الحياة الواقعية لضمان استمراريتها، يجد فيها ملجأ وأحقية للوجود وحرية للعمل على نحو أكثر إيذاء ورعبا.
* “مدار السرطان” لهنري ميلر: يعتبرها الناقد كتابا عظيما ورجيما، راجت حوله الأساطير قبل ثلاثين عاما، فقرأه وانبهر به، واكتشف أن فضائحيته ليست بسبب المقاطع الإباحية، وإنما بسبب ابتذاله وعدميته، ورغم انتهاك أدب ميلر -وهو الذي عاش بوهيميا- للمقدسات، مهمته تذكير البشر بأن المدينة التي يسكنونها مهما بدت عامرة، فهناك شياطين مختبئة في كل مكان يمكن أن تسبب الطوفان في أي لحظة.
ترصد الرواية قاع باريس بشخصياته المنبوذة التي استوطنت الهامش الثقافي، أما الموقف الأخلاقي لميلر فيلخص في أنه لا يجوز للفرد أن يضحي بأهوائه ونزواته، ويجب المطالبة بها بإلحاح أمام الزحف الجائر للحداثة التي تهدد بمحوها… هي نزعة فردية متطرفة ليحافظ على حريته. وفي روايته حقق التوازن بين فوضى التلقائية والحدس المحض والتحكم العقلاني في العمل الروائي، رغم انتصاره للأهواء والأحاسيس. ويخلص يوسا إلى أن كتاب ميلر جميل وفلسفته مؤثرة رغم سذاجتها، ولا توجد حضارة يمكنها الصمود أمام فردية متطرفة، باستثناء تلك التي تكون مستعدة لإرجاع الإنسان إلى العصر البدائي.
* “حسناء من روما” البرتو مورافيا: يعترف بأنه قرأها أول مرة حين كان لازال صبيا يرتدي التبان، متحديا الحظر العائلي لجديه وأمه.. ويصنفها ضمن قمم الواقعية الجديدة بإيطاليا. الرواية لا يصدقها إلا القارئ الذي يتخلى عن الوهم الواقعي، ويستعد ليعيش في نزوة أدبية، وقد برع فيها مورافيا في رسم البورتريهات النفسية، ولا يرى ماريو ما يبرر تلك الضجة التي رافقت الرواية، فالمشاهد الجنسية معظمها تافه تقريبا، والساردة -رغم ممارستها البغاء- تظهر أخلاقا صارمة، وجسارة الكتاب الوحيدة هي لاأخلاقية الأم، التي تكاد تكون شاهدة عيان على لقاءات ابنتها مع زبائنها، مع صعوبة تخيل هذا التفصيل الهامشي.. ويختم مقاله بالإشارة إلى أن تغيرات عقلية القراء، بعد هذه الأربعين سنة، سيجعلهم يقرؤون الرواية دون السقوط في الأحكام الجاهزة.
* “لوليتا” لفلاديمير نابوكوف: مع انتشار الرواية ذاع مصطلح “لوليتا”، كناية عن المرأة/الطفلة، المتحررة دون علمها، والتي ترمز في اللاوعي إلى ثورة الأخلاق المعاصرة، والرواية من الأحداث التي مهدت لـ”عصر التسامح الجنسي”.. تلاشي التابوهات بين المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية. إنها استعارة تعكس شعورَ كاتبها كأوربيٍّ، شرقيٍّ أحس بخيبة أمل شديدة اتجاه الولايات المتحدة، بسبب ما فيها من قلة نضج، بعد حبه الجارف لها…
* “بيت الجميلات النائمة” لياسوناري كاواباتا: يتحدث في مستهل ورقته عن قراءة نص مترجم وما قد يفقده أثناء رحلته اللغوية من عطور النص الأصلي، ويشير إلى أن الرواية مستلهمة من التوراة، (وهي الرواية التي فتنت صديقه اللدود ماركيز، فكتب “ذاكرة غانياتي الحزينات”)، وأنها ليست ذات نزعة طهرانية، بل تزخر بسفاحات وحشية تفضح فظاعة الخطيئة.
* “المفكرة الذهبية” لدوريس ليسنغ: الرواية إنجيل النسويين، وأنصار الرواية و مهاجموها يعترفون بدورها كرواية تنتمي إلى عصرها، تطرقت إلى عدة مواضيع منها: التحليل النفسي، الستالينية، العلاقة بين المتخيل والمعيش، الحرب بين الجنسين، تحرير المرأة والوضعية الاستعمارية والعنصرية، والرواية ليست وصفة ضد استلاب المرأة في المجتمع المعاصر.. إنها رواية حول الأوهام الضائعة للمثقفين وفشل اليوتوبيا، بعيون امرأة، وبالمعنى الذي يريده عشاق القيامة.
“إيروس في الرواية” كتاب يقدم، وبحميمية مبدع في حجم ماريو بارغاس يوسا، وبلغته الإبداعية، قراءات في أهم روايات القرن العشرين، قراءات تلامس عمق النص، ومن داخل المطبخ الإبداعي، وهذا ما يفشل فيه النقاد الأكاديميون غالبا. الكتاب “رسالة حب واعتراف بالجميل لأولئك الذين عشت بفضل كتبهم، خلال فتنة القراءة، في عالم جميل، متماسك ومفاجئ وكامل تمكنت، بفضله، من فهم العالم الذي أعيش فيه بشكل أفضل ومن إدراك كل ما ينقصه أو يكفيه ليكون قابلا للمقارنة مع العوالم الرائعة التي يخلقها الأدب العظيم”، كما جاء في رسالة يوسا إلى وليد سليمان، المترجم والمبدع التونسي الشاب الذي عرّب الكتاب باقتدار وإحساس مرهف.