لماذا أكتبُ باللُّغة العربيَّة؟

صبري رسول

كثيراً ما أتعرض، ويتعرَّضُ مثلي مَنْ يكتب بغير لغته الأم، لسؤالٍ شرسٍ تفوحُ منه ريحة الهجوم: لماذا لا تكتبُ بلغتك الأم؟؟؟ لماذا تكتبُ باللّغة العربية؟

الإجابة عن مثل هكذا سؤالٍ، محيّرٍ، وقلقٍ، ومثيرٍ، ليست بالأمر السَّهل، الإجابة ستكون إشكاليةً، وغير مُقْنِعَةً للكثيرين. عانى من هذا السُّؤال عشرات الأسماء اللامعة المشهورة من كتابٍ وشعراءٍ وباحثين وغير ذلك.

فأعتذرُ من كلِّ قارئٍ أو سامعٍ رغب في الاستماع إلى نصٍّ مكتوبٍ بلغته اللُّكردية، ولم يجد ما يُعِينُه على ذلك. وإجابتي لن تكون بالإجابة الشَّافية مهما حاولتُ البحث عن وسائل للإقناع، بل ربما تكونُ إجابةً شبيهةً إلى حالة السّفيه بعد يقظته من سكرة أمس.

بلغْتُ السادسة من العمر ولا أعرف معنى كلمةٍ واحدة بأي لغةٍ أخرى غير الكردية، بوصفها لغة التخاطُب، والتّواصل، والتَّفاهم بين أفراد الأسرة أنفسهم ، وبين أبناء القرية كلّهم، وعندما دخلتُ المدرسة كانت الصدمةُ قويةً، حيثُ يخاطبني المعلّمُ الكرديُّ بلغةٍ أخرى، وما خفَّفَ الأمر عليّ ترجمة المعلّم كلامه بالعربية إلى الكردية، فأكملتُ تعليمي حتى الإعدادية، حيث بدأ الاختلاطُ بين لغاتٍ عديدة: عربية وكردية وسريانية وأرمنية، كلّنا ندرسُ باللّغة العربية، فتفوّقتُ على أقراني مِمَّنْ كانت لغته الأم العربية، فوجدْتُ في اللّغة العربية الجناحَ الذي أسمو به إلى عوالمَ خفية لا تخطر على البال، به أطير إلى أجواء غريبة، و أتحلّقُ فوقَ مخيالٍ غير الذي أعيشه. قرأتُ بنهمٍ عشرات الكتب والقصص والروايات، فأصبحت اللّغة العربية أداةَ تواصلٍ مع الآخر، ووسيلةً للتَّعبيرِ عن النَّفس، وبعد دراستي الجامعية – قسم اللّغة العربية وآدابها- وجدتُ في مفرداتها العمقَ الشَّاهق، واللّوحة الفنيّة التي سأحفرُ فيها آلامي، وآلام أبناء جلدتي، بعيداً عن فلسفة السّياسة المقرفة.
منذ ذاك واللّغة العربية بثرائها، وغناها، وبمفرداتها الزَّاخرة، هي بالنسبة لي، الأداة التَّعبيرية الوحيدة التي أنقشُ بها حالتي، فأرسمُ كرديَّتي باللّغة العربية، فقد أصاب سليم بركات في حديثه لقناة الجزيرة 8/1/ 2001  في وصفه عن العربية ((يمكن التعبير بها عن خصوصيتي ككردي أكثر حتى من اللغة الكرديًّة)) فكلّما وجد الإنسان في لغةٍ ما فضاء شاسعاً للتعبير عن نفسه كإنسان سيعبّر عن نفسه بطريقة أجمل وأقوى ، وفق تعبير بركات، وهكذا وجد الرّوائي الكرّدي سليم بركات في ثراء اللُّغة العربية ما يمكّنُه للتعبير عن نفسه((وكانت اللغة العربيَّة من الشساعة ومن السعة ومن الثراء إلى درجة أستطيع أن أعبر بها عن كرديتي)) ووصلَ الأمر به إلى جعلها هويته الكردية((حوَّلت اللغة العربيَّة معي إلى هويَّة كرديَّة)). لا أظنّ أنّ كاتباً عملاقاً كسليم بركات سيترك لغته الكردية لو كان يُتقِنُها كإتقانه اللُّغة العربية.
كم تمنّيتُ لو كنتُ مثل بقية أطفال العالم تعلَّمتُ بلغتي الأم، اللّغة الكردية، وبما أنَّ هذه اللّغةَ مُحارَبةٌ ككائنٍ غير مرغوبٍ فيه، مُطارَدة من إخوتي التاريخيين، الذينَ حملْنَا معهم ولهم همَّ الدّين، وألّفنا بلغتهم كتباً كثيرة في مختلف المجالات، وساهمنا في صياغةِ حضارةٍ تنصَّلت منّا. تمنّيتُ أنْ أتعلّم الفنون والأناشيد والموسيقى والقصص بلغتي، إلى جانب اللّغات الأخرى.
عندما أكتب باللُّغة العربية أحسُّ بأنّي أتحلّقُ مع غيومٍ لا قرار لسكونها، تناورُ في مساحاتٍ هائلة، وكلَّما شعرتْ بأنَّها حُبلى بالمطر، تُمطِرُ مزناتٍ شفافة، وتلقي بحملِها، أو بجزءٍ منه، ثمَّ تلحقُ بالأعالي، فلمَ لا أكتبُ بهذه اللُّغة الطَّيعة الغنيَّة؟؟؟
لـمَ يكتبُ كتابٌ جزائريون وتونسيون ومغاربة باللّغة الفرنسيَّة؟ لِمَ لا يكتبون بلغتهم القومية رغم مرور ما يزيد على نصفِ قرنٍ من الاستقلال والحريَّة في أوطانهم؟؟؟ ألا يرون أنَّ الفرنسية عجينةً سلسة بين أيديهم؟
في حوارٍ مع الشَّاعر الكرديّ شيركو بيكه س ( وزير الثقافة في كردستان العراق سابقاً) قال رداً عن سؤالٍ عن علاقته باللُّغة العربية: ((اللغة العربية صعبة كفرس جامح فإن لم تكن ذكياً وماهراً لا تطاوعك أبداً، حتى بالنسبة للناطقين بالضاد)). وأضاف في الحوار ذاته: ((أفكر بيني وبين نفسي بأنني غير قادر لذا لا أريد أن أقحم نفسي في اللغة العربية وبخاصة الشعرية منها)). وجاءت مبرراتُهُ عن عدم كتابته باللّغة العربية قويةً وإنسانيةً حيث قال: ((لهذا فإنني لا أكتب باللغة العربية حتى لا أؤذيها وحتى لا أكون عبئاً عليها)).
اللُّغة الأدبية مختلفة عن أيّ لغة أخرى، لأنها تنقل إحساس الإنسان من الزوايا الغامضة في داخله، تعبّرُ عن خفقاتٍ تنبضُ في خفايا الأضلاع، مترجمةً تلك المشاعر من خلال رؤيةٍ إنسانية أو موقفٍ يتولّدُ عند وقوفه أمام حدثٍ ما.
لذا لو أكتبُ باللُّغة الكردية سأجني عل نفسي وعلى هذه اللّغة، سأكون عبئاً عليها، بل سأكونُ علامةً سيئةً أخدشُ نضارة صفائها، ولو كنتُ أجدُ نفسي لا أجيدُ الكتابة بالعربية لن أفعل؛ فأنا أكتب النّصوص الأدبية فقط، وفي هذه الفنون يحتاج الكاتبُ إلى ((اللغة التي تلج في أدق الخفايا وتعرف كيف تلعب لعبتها السحرية، وفق تعبير شيركو. فاللُّغاتُ بساتينٌ إلهية، تنتشر في أصقاعها الزهور والرياحين وأشجار مختلفة، صغيرة وكبيرة، ومَنْ لا يُتقِنُ فنَّ صناعة باقات الورد، عليه ألا يعبث بمحتويات ذاك البستان، ومَن لديه مهارة في تنسيق زهورها بما يتناسب مع ألوانها وأحجامها سيجدُ متعةً في ذلك، هكذا بالعربية أجدُ في نفسي قدرةً على التواصل مع الآخر، و إيصالِ أفكاري ومشاعري بسهولة، فلمَ لا لأفعل ذلك؟؟؟

بما أنّ اللغة أداة تواصلٍ وتفاهم، مكؤّنة من إشاراتٍ صوتية دالة على أشياء معينة، فمن الطبيعي أنْ يعبّر كل إنسانٍ عمّا يجول في داخله باللّغة التي يُتقِنها، فكلّنا نعبّر بلغة ما عن نزيف ما، كلٌّ يكتبُ عن النزيف نفسه، فالنزيف المتدفق ذاك ينزفُ من الكتابة سواء كانت بالكردية أو العربية. وأخيراً قد أكون مصيباً أو مخطئاً، وأحتاج إلى مَنْ يقدّم لي طريق الصواب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…