عتبٌ ساخن

أحمد حيدر

كانَ عليهِ أن يكرهَكِِ بشدة كما كرهتِه بشدة وينتزعُكِ من ذاكرتِه بقسوة كما انتزعتِه من ذاكرتك ِبقسوة كعشبة زائدة في جنينة بيتك  وتهملينه كقميص من موديل قديم وكأنَّ شيئاً لم يكنْ

كانَ عليه أن يخبط بيده على صورتك الكبيرة التي رسمها صديقهُ الفنان التشكيلي محمد سعيد بالألوان الزيتية قبل عشرين سنة وعلقها قبالة الباب الرئيس أو يستبدلها بصورة أخرى يحشرها داخل البرواز الذهبي المتناسق صورتك التي قضى في رعايتها سنوات طويلة كحارس للأشباحِ أو ناسك منكفئ في معبد روماني يلقي عليها بخشوع تحية الصباح ويضع لها وردة في كأس الماء ويرتل ما تيسر من سفر رموشك ينفض الغبار بوداعة عن زواياها ويقضي الليل كله بقربها يمسح دموعك الممتزجة بدموعه فوق سطح البلور ويشرب حتى الثمالة يدخن بشراهة ويهذي باسم امرأة لم تنتبه إلى دمه الساخن والى حنينه الطويل كقطار
 ودونما تردد وأما م باب مدرستك أو في صفك أمام التلاميذ ينثر الورود المحنطة كالمومياء بين أوراق دفاتره القديمة وفي جيب قميصه المشجر كذكرى أليمة من عاشقة نكثت بوعدها للعاشق الذي هدَّتهُ المنافي قبل الأوان كجثة طازجة

كان عليه أيضا أن يُحطم كل الهدايا التي تلقاها منك في عيد الميلاد والحب والمناسبات الخاصة ويمزَّق رسائلك كلَّها وقصاصات الورق التي تؤرخ بخط  رديء ضجيج اللقاء الأول حينما التفت الورود حول خصرك وحطت الأناشيد على كتفيك العاريتين وأنت تعدَّين له القهوة ويلقيها في سلة المهملات ويجمع ألبومات صورك الساحرة التي يحتفظ بها في درج خاص ويحرقها دونما ألم في ساحة السبع بحرات ويذرو رمادها دونما تردّد أمام باب غرفتك أو على رصيف شارع بيتك الذي يرتبك كتلميذ لم يكتب فروضه أمامَ معلمه كلما اقتربَ منهُ ويخاف من عبوره حتى أيامنا هذه ومن ذكراسمه في أحاديثه أمام أصحابه الأحياء الموتى والخونة واللصوص
كان عليه أن يحذف رقم هاتفك من دفتره الصغير وينسى رَّنتك المميزة الوحيدة بعد منتصف الليل ولا يسمح لك أن “تخربطي” حياتهُ الهادئة البسيطة بهذه الفداحة ولا أن تثيري هذه الرغبات الشهية  كعنب الخابور عندما كنت تخرجين من الحمام مبللة تستلقين باطمئنان على أرض غرفته الطينية تضعين رأسك فوق زنده وتغمضين عينيك كملاك لتوهميه بأنكِ نائمة ويرتمي القمر قرب ساقك الملساء ليسمع مايدندنُ به الرجل من حريق وكرزهائج تحت أزرار قميصه المشجر ومايقوله عنك وليسَ عن ظلٍ يستلقي على أرض الغرفة يضعُ رأسه فوق زنده ويغط  في حلم عابر
بعدَ خريف هائل وممطر وشهوات منطفئة تمسحينَ دموعه بيديك حينما تودعينه وراءَ الباب وتنهالين عليه بالقبلات من جهاتك كلها تعانقيه بقسوة كمسافرأزلي ويبقى أثر أحمرشفاهك على خده حلما شيقا واثر البرق في بقاياه وطعم حليبك المقدس في شفتيه عمرا طويلا والخاتم المسحور يلتمعُ في إصبعك كسهم يخترق ركامه  
كان عليه أن يلتفتَ قدر وجودك إلى حياته كيف كانت قبل أن يتعرفَ عليك وكيف اضطربت كموجة هائجة بعد أن تعرف عليك وأن يتأمل رجفة يديه وقصرنظره وفي كبواته وعزلته وهفواته وشروده ودموعه وتوتره وزجاجات العرق الفارغة في زوايا غرفته وهروبه من واجباته وسهره حتى طلوع الفجر        
ليسَ ضرورياً أن يتركَ على الحيطان والباب وخزانة الثياب أسماء ورسومات الأطفال التي تعجبك وتواريخ مهمة كانت تخص الينابيع مذيلة بتوقيعك اللافت وأن يبقى جسده طوال خديعة في حالة النفور كاصبع مقاتل على زناد البندقية وراء ساتر ترابي في جبهات القتال
كان عليه أن يكرهك بقسوة ويعاقبك بقسوة منذ غياب لم يكن يتوقعه منذ جرح كنت تدارينه بقبلة
أوعضة على عنقه فيتكوربفرح طفولي يتلمس جسدك الطازج كأعمى ويضمك بقسوة إلى حضنه 
يتذكركلماتك كلما اسودت الدنيا أمام عينيه :
(أرجوكَ لاتتغيرواحفظ العهد يا حبيبي) فيهز برأسه وعيناه معلقتان في الخاتم المسحور في اصبعك وروحه تئن كطائر مجروح :
 ( أرجوكِ لا تتغيري واحفظي العهد ياحبيبتي )
ودونما حرج يجمع سنواته التي ضيَّعها معك في كيسٍ أسود ويرميها من فوق سطح أعلى بناية في المدينة كخديعة طاردتهُ في مغامرة ساذجة

ماذا يفعل إذا فشل َللمرة الألف أن يُغيَّرَ عادتهُ
يدورُ حولك ِكزهرة دوار الشمس ويفشي للقراء

” أعظم قصة حب فاشلة في التاريخ ”

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…