رستم محمود
ربما لأنها العراقية للطيران في الزمن العراقي الجديد. ولأنها متوجهة من بيروت إلى مدينة أربيل، توقعت أن تكون التعليمات الصادرة عن مركز قيادة الطائرة للمسافرين باللغة الكردية. شيء من الدافع القومي كان مصدر ذلك الأحساس، كما أن معظم المسافرين كانوا من الأكراد. وفوق ذلك فإن العراق الجديد يعتبر الكردية لغة رسمية في البلاد. هذه الأشياء مجتمعة دفعتني الى الظن أني سوف أسمع قمرة القيادة تصدر التعليمات باللغة الكردية للمرة الأولى في حياتي، وكذلك في حياة الرجل السبعيني الذي كان يجلس الى يساري. خاب ظننا، وصدرت التعليمات بالعربية والإنكليزية فحسب. وفي مطار أربيل، تعمدت أن أكون آخر المغادرين، لأمازح قائد الطائرة بملاحظتي تلك. يبتسم الرجل ويرد: «كاكا أمامك مدينة كردية بالكامل، فمتع سمعك وناظريك».
في المدينة خاب ظن قائد الطائرة. فإربيل، العاصمة الإدارية للإقليم الكردي، بعد ماراتون تاريخي من الدماء والدموع، مدينة تكبر كبطن أرنبة ولود، مدينة تحدّث وتكبر وتتغير يوما بعد آخر، وفيها كل شيء. ويمكن أن تكون مكاناً لأي شيء، إلا أن تكون مدينة كردية بالكامل، أو بالأحرى، إلا ان تكون مدينة لشيء واحد فقط، أيا كان ذلك الشيء، وبالذات ما خصّ شأن اللغة والثقافة وهوية المكان.
العربية والعروبة الثقافية مثلا، يمكن أن تلاحظهما في كل مكان. فالعربية كانت حتى قبيل عقدين من الزمن اللغة الرسمية للمدينة. أكثر أبناء الجيل الذي يزيد عمره عن الثلاثة عقود، يعتبر العربية لغة البداهة الوحيدة. فصحيح أن الأنظمة السياسية المتعاقبة كانت تجيز استخدام الكردية في التعليم والآداب، لكن العربية وحدها كانت لغة الحياة العملية، لغة المعاملات والتجارة والأوراق الرسمية والتداول… الخ. وأربيل الحديثة، وعلى الرغم من إنسحاب العربية من شرطها ذلك، إلا أنها تتخذ لنفسها في الواقع الراهن أشكالا جديدة من الحضور. فهي بعد كل شيء لغة الدولة المركزية في بغداد، وعلى كل النخب السياسية والثقافية والاقتصادية التي ترغب في الولوج الى الكل العراقي أن تتمكن من اتقان العربية قراءة وكتابة ونطقا، فالعراق كدولة يعتبر الفضاء السياسي الطبيعي للإقليم الكردي. ومن جهة أخرى، فإن العربية هي لغة عشرات الآلاف من المهاجرين العرب الذين يقطنون الإقليم الكردي، وبالذات مدينة أربيل، وهؤلاء المهاجرون ينتمون إلى طبقتين متباينتين من عرب العراق. فإما هم من العمالة العضلية الرخيصة التي نزحت من مناطق الموصل وديالى وتكريت نحو المناطق الكردية التي تشهد تنمية انفجارية مقارنة بالمناطق الأخرى من البلاد، وإما من الطبقة الاقتصادية الميسورة، التي لجأت من عنف المناطق الأخرى من العراق نحو الإقليم الهادئ. لكن فوق كل ذلك، يبدو حضور العربية بالغا كونها لغة الدين والعالم الروحي، فالإسلام الكردي السني الكلاسيكي غير مشحون بأية نزعات قومية تقليدية، تلك النزعات التي تكون غطاء للتعبيرات القومية الخفية. أما الشيء الذي لا يخفى، فهو الحضور البالغ للعربية كلغة للثقافة والإعلام، فسلاف فواخرجي وبسام كوسا وصلاح السعدني، بالأضافة الى ريما مكتبي ومارسيل غانم… شخصيات عامة في ثقافة العموم الكردي في أربيل.
اللغة التركية لغة الأفندية، فحضورها يكاد يشبه حضور اللغة الفرنسية في بلدان أوروبا المختلفة في القرن السابع عشر. صور الفنان التركي الشهير إبراهيم تاتليسس تغطي كل الشوارع في المدينة، وهو الذي تحول في الفترة الأخيرة من رمز غنائي فني ثقافي الى رمز اقتصادي كبير من خلال مجموعته الأقتصادية التي تستثمر كميات مالية ضخمة في الإقليم. وهو بشخصه جزء من المكانية الاقتصادية التركية الضخمة التي «تسيطر» على سوق الإقليم، وفي طريقها الإقتصادي تنشر الثقافة والأعراف التركية التي يأتي في مقدمها نشر اللغة التركية كتعبير عن ذلك. فالمؤسسات التربوية التركية تلج الفضاء التربوي الكردي بنهم بالغ، وذلك من خلال فتح شبكة من المدارس النموذجية التي تعتبر التركية فيها درسا إلزاميا للطلبة. لكن انتشار التركية يتعزز بفضل شعور كردي دفين بأن الدولة التركية تشكل يوما بعد آخر شرفة للتواصل الكردي مع العالم الأرحب، وهو جزء أصيل كسبه الأكراد من تفاعلهم مع البرجوزية التركمانية التي لها وجود أصيل في مدينتي أربيل وكركوك. وما يصح على التركية يصح على الإنكليزية الى حد بعيد. فجيل الشباب الحالي في المدينة يصرّ إصراراً بالغاً على اتقان الأنكليزية، لأنها لغة قطاعات الإقتصاد الناعم (بنوك ودراسات ومجلات الأعمال..) حيث تعتبر أربيل مركزا لذلك النوع من الأعمال العامرة في العموم العراقي.
اللغة الفارسية هي لغة الثقافة والأدب والعمق الروحي لسكان أربيل. فعاملا نوعية الكتابة بنفس أنواع الحروف، الحروف اللاتينية، والتقارب البالغ بين قواعد وتعبيرات اللغة الكردية والفارسية، سمح لأي كردي بقراءة الأدب باللغة الفارسية، كما أن القرصنة البالغة التي يمارسها المترجمون الإيرانيون للكتب الحديثة، حوّل الفارسية إلى لغة وسيطة بين الاصدارات الحديثة ونخبة القراء من مثقفي المدينة.
في الأخير ثمة تساؤلان:
المشروع الإقليمي للمنطقة العربية بالشراكة مع الجيران، والذي طرحه الأمين العام للجامعة العربية في اجتماع القمة العربية الأخير في سرت بليبيا، والذي يدعو إلى تأسيس فضاء ثقافي سياسي للدول العربية مع الدول المحيطة بها، هل ثمة مكان جدير باحتضان مركز ذلك المشروع مثل مدينة أربيل بأطيافها اللغوية تلك؟.
الدول التي تمنع الكثير من جماعتها الأهلية والقومية والثقافية من ممارسة خصوصيتها اللغوية، كيف يمكن لها النظر الى تجربة التنوع اللغوي الذي تشهده مدينة صغيرة مثل أربيل، وكيف لها بذلك أن تكسر هواجسها وأوهامها عن خطورة التنوع اللغوي على وحدة واستقرار تلك البلاد؟
إلى ذلك الحين، سأبقى كلما أقلعت بي الطائرة، منتظرا صوت قمرة القيادة، باللغة الكردية، يدعوني إلى أخذ الحيطة لأن الطائرة ستقلع، فهو الصوت الأكثر نشرا للطمأنينة بقلبي في اللحظات العصيبة لإقلاع الطائرة، لأنه باختصار يشبه صوت أمي التي ترافقني الى الباب كلما خرجت، وتطالبني بأخذ الحيطة باللغة الكردية، منذ الطفولة وإلى الآن.
العربية والعروبة الثقافية مثلا، يمكن أن تلاحظهما في كل مكان. فالعربية كانت حتى قبيل عقدين من الزمن اللغة الرسمية للمدينة. أكثر أبناء الجيل الذي يزيد عمره عن الثلاثة عقود، يعتبر العربية لغة البداهة الوحيدة. فصحيح أن الأنظمة السياسية المتعاقبة كانت تجيز استخدام الكردية في التعليم والآداب، لكن العربية وحدها كانت لغة الحياة العملية، لغة المعاملات والتجارة والأوراق الرسمية والتداول… الخ. وأربيل الحديثة، وعلى الرغم من إنسحاب العربية من شرطها ذلك، إلا أنها تتخذ لنفسها في الواقع الراهن أشكالا جديدة من الحضور. فهي بعد كل شيء لغة الدولة المركزية في بغداد، وعلى كل النخب السياسية والثقافية والاقتصادية التي ترغب في الولوج الى الكل العراقي أن تتمكن من اتقان العربية قراءة وكتابة ونطقا، فالعراق كدولة يعتبر الفضاء السياسي الطبيعي للإقليم الكردي. ومن جهة أخرى، فإن العربية هي لغة عشرات الآلاف من المهاجرين العرب الذين يقطنون الإقليم الكردي، وبالذات مدينة أربيل، وهؤلاء المهاجرون ينتمون إلى طبقتين متباينتين من عرب العراق. فإما هم من العمالة العضلية الرخيصة التي نزحت من مناطق الموصل وديالى وتكريت نحو المناطق الكردية التي تشهد تنمية انفجارية مقارنة بالمناطق الأخرى من البلاد، وإما من الطبقة الاقتصادية الميسورة، التي لجأت من عنف المناطق الأخرى من العراق نحو الإقليم الهادئ. لكن فوق كل ذلك، يبدو حضور العربية بالغا كونها لغة الدين والعالم الروحي، فالإسلام الكردي السني الكلاسيكي غير مشحون بأية نزعات قومية تقليدية، تلك النزعات التي تكون غطاء للتعبيرات القومية الخفية. أما الشيء الذي لا يخفى، فهو الحضور البالغ للعربية كلغة للثقافة والإعلام، فسلاف فواخرجي وبسام كوسا وصلاح السعدني، بالأضافة الى ريما مكتبي ومارسيل غانم… شخصيات عامة في ثقافة العموم الكردي في أربيل.
اللغة التركية لغة الأفندية، فحضورها يكاد يشبه حضور اللغة الفرنسية في بلدان أوروبا المختلفة في القرن السابع عشر. صور الفنان التركي الشهير إبراهيم تاتليسس تغطي كل الشوارع في المدينة، وهو الذي تحول في الفترة الأخيرة من رمز غنائي فني ثقافي الى رمز اقتصادي كبير من خلال مجموعته الأقتصادية التي تستثمر كميات مالية ضخمة في الإقليم. وهو بشخصه جزء من المكانية الاقتصادية التركية الضخمة التي «تسيطر» على سوق الإقليم، وفي طريقها الإقتصادي تنشر الثقافة والأعراف التركية التي يأتي في مقدمها نشر اللغة التركية كتعبير عن ذلك. فالمؤسسات التربوية التركية تلج الفضاء التربوي الكردي بنهم بالغ، وذلك من خلال فتح شبكة من المدارس النموذجية التي تعتبر التركية فيها درسا إلزاميا للطلبة. لكن انتشار التركية يتعزز بفضل شعور كردي دفين بأن الدولة التركية تشكل يوما بعد آخر شرفة للتواصل الكردي مع العالم الأرحب، وهو جزء أصيل كسبه الأكراد من تفاعلهم مع البرجوزية التركمانية التي لها وجود أصيل في مدينتي أربيل وكركوك. وما يصح على التركية يصح على الإنكليزية الى حد بعيد. فجيل الشباب الحالي في المدينة يصرّ إصراراً بالغاً على اتقان الأنكليزية، لأنها لغة قطاعات الإقتصاد الناعم (بنوك ودراسات ومجلات الأعمال..) حيث تعتبر أربيل مركزا لذلك النوع من الأعمال العامرة في العموم العراقي.
اللغة الفارسية هي لغة الثقافة والأدب والعمق الروحي لسكان أربيل. فعاملا نوعية الكتابة بنفس أنواع الحروف، الحروف اللاتينية، والتقارب البالغ بين قواعد وتعبيرات اللغة الكردية والفارسية، سمح لأي كردي بقراءة الأدب باللغة الفارسية، كما أن القرصنة البالغة التي يمارسها المترجمون الإيرانيون للكتب الحديثة، حوّل الفارسية إلى لغة وسيطة بين الاصدارات الحديثة ونخبة القراء من مثقفي المدينة.
في الأخير ثمة تساؤلان:
المشروع الإقليمي للمنطقة العربية بالشراكة مع الجيران، والذي طرحه الأمين العام للجامعة العربية في اجتماع القمة العربية الأخير في سرت بليبيا، والذي يدعو إلى تأسيس فضاء ثقافي سياسي للدول العربية مع الدول المحيطة بها، هل ثمة مكان جدير باحتضان مركز ذلك المشروع مثل مدينة أربيل بأطيافها اللغوية تلك؟.
الدول التي تمنع الكثير من جماعتها الأهلية والقومية والثقافية من ممارسة خصوصيتها اللغوية، كيف يمكن لها النظر الى تجربة التنوع اللغوي الذي تشهده مدينة صغيرة مثل أربيل، وكيف لها بذلك أن تكسر هواجسها وأوهامها عن خطورة التنوع اللغوي على وحدة واستقرار تلك البلاد؟
إلى ذلك الحين، سأبقى كلما أقلعت بي الطائرة، منتظرا صوت قمرة القيادة، باللغة الكردية، يدعوني إلى أخذ الحيطة لأن الطائرة ستقلع، فهو الصوت الأكثر نشرا للطمأنينة بقلبي في اللحظات العصيبة لإقلاع الطائرة، لأنه باختصار يشبه صوت أمي التي ترافقني الى الباب كلما خرجت، وتطالبني بأخذ الحيطة باللغة الكردية، منذ الطفولة وإلى الآن.
المستقبل – الاحد 23 أيار 2010 – العدد 3660 – نوافذ – صفحة 13