مسرحية المهرج: لمحمد الماغوط.. دراسة نقدية في البنية والمفهوم:

  خالص مسور

المسرحية تتألف من ثلاثة فصول 1- 2 – 3 . حيث جاء العنوان (المهرج) مناسباً لجزء من موضوع المسرحية وليس كلها، حيث يمثل المهرج البطل الثاني للمسرحية التي تثير دينامية الحدث ومحاربة الفساد والمفسدين في الأرض واستعادة الأراضي العربية المغتصبة، والدعوة إلى التغيير والبناء والتجديد والتطوير، ضمن حقول المتاهات المينوتورية للسياسات العربية الراهنة. حيث نرى المهرج يقف دوماً إلى جانب من يريدون التطوير والتغيير ويناصر بطل المسرحية الأساسي (صقر قريش) وهوالشخصية التاريخية التي استدعاها الماغوط من أعماق التاريخ العربي ليكون بطلاً لمسرحيته الأول(المهرج)، وصقر قريش هو المدعو عبد الرحمن الداخل والذي تصفه المصادر العربية بالحنكة والشجاعة والإقدام، وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عام 755م وكانت دولة قوية راسخة الجذور مزدهرة الأركان والركائز.
تعالج مسرحية المهرج موضوعاً يتكرر الحديث عنه كثيراَ في حياة الشعوب العربية في هذه الأيام، ألا وهي قضية الإستبداد و ضياع فلسطين وأجزاء من الأرض العربية وبيعها للأعداء بأبخس الأثمان والأسعار.
صقر قريش: ……جئت أسألكم كيف أضعتم فلسطين والأندلس واسكندرون.
 هكذا يتساءل صقر قريش بمرارة حكام العرب الذين يمارسون الاستبداد على شعوبهم وبنائهم لبطانات السوء التي لاتمل ولاتكل من الرشوة والمحسوبيات وقمع الناس واضطهادهم، والإكثار من إطلاق الشعارات البراقة في الوطنية والدأب في التشكيك بوطنية الآخرين وتخوينهم كما في قول المدير:
المدير: …….ليس كل من ادعى الوطنية هو وطني، معظم الذين نقبض عليهم على الحدود يتظاهرون بالوطنية.
فيراها الماغوط شعاراتاً زائفة يطلقها أناس مستعدون لأن يبيعوا حتى الوطن وما فيه، بل التاريخ العربي كله إذا اقتضت مصالحهم الشخصية ذلك. حيث نرى كيف أن أحد المسؤولين العرب يساوم المسؤول الأسباني على بيعه حتى بطل الأمجاد العربية صقر قريش ذاته بثمن بخس.
المسؤول(العربي): إلى الجحيم، لن يذهب صقر قريش رخيصاً، ثلاثون ألف طن كلمة أخيرة.
المسؤول العربي( للمسؤول الأسباني): مبروك. أي لقد تمت صفقة بيع الصقر.
وهذه – على العموم- فكرة من الأفكار الأساسية للمسرحية.
ولكن المسرحية ورغم شاعرية الماغوط وأفكاره الحداثية والإصلاحية والإنسانية النيرة، ألا أنها جاءت مقترنة بشيء من العصبية القومية، وبإسلوب يفتقر إلى الإيحائية المقترنة بالرمزية، بالإضافة إلى نغمة التقريرية والمباشرة وخلوالمسرحية من الإيحاءات والغمز واللمز، وبإكليل من المباشرة والتقليدية والتبسيطية المبتذلة والتسطيح في المعالجة والطرح والتقديم، لموضوع يتكرر بمعانيه المطروحة في الطريق يعرفها القاصي والداني والبدوي والمدني على حد تعبير الجاحظ، كما في هذه المقولة المكرورة إجتماعياً للممثل الثاني:
الممثل الثاني: ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر(تصفيق).
 ومن هنا، فإن الماغوط في قراءاته المسرحية لم يفلح في إثارة الدهشة لدى القاريء ومنحه فرصة للتأمل والتفكير، وهو ما أفقد المسرحية الكثير من عناصر التشويق والإثارة، بل قد انعكس الأمر سلباً على موضوع المسرحية وخلق إرباكات مملة في ذهنية المشاهد، أي لم تفلح المسرحية في الخروج من المألوف والمطروق، كما لم تفلح فكرة المسرحية رغم الثورية والتحريض في جذب المشاهد أليها، اللهم إلابإدخال المشاهد في حالة من التململ والملل والإرتباك النفسي فقط، نظراً لرتابة المعالجة المسرحية ومشاهد التكرار اليومي في مثل هذه الأمور التي مل منها المشاهد حكياً وثرثرة دون فعل وإنجاز. ولكن أنقذ الماغوط ولو قليلاً رتابة موقفه المسرحي ولو للحظات، وذلك بلجوئه إلى خلق مفارقة قيمية صارخة، تمثلت بالنهاية التراجيدية لبطل المسرحية الأساسي وهو صقر قريش الذي بيع بثمن بخس لأعدائه من قبل أحفاده. بينما بقي الحفيد البائع يجول ويصول لبيع ما هو آت وأغلى وأثمن.
والمشكلة التي أوقع الماغوط نفسه فيها هنا هو، أنه لجأ إلى إسقاطات تاريخية غير موفقة في معالجته لقضية الإستبداد في البلاد العربية، وذلك حينما أسقط شخصية تاريخية استبدادية قديمة على شخصيات حديثة يراها هواستبدادية مثلها، ولهذا فشخصية بطل المسرحية صقر قريش الأرستقراطية مثلاً، تكون باعتقادنا غير مؤهلة لاتخاذها قدوة لمحاربة الإستبداد واستعادة الأراضي العربية وبعث الديموقراطيات الحديثة للبلدان العربية، وبالتالي فهو إسقاد غير موفق بكل المعايير الفلسفية والأدبية، فشخصية كصقر قريش أو عبدالرحمن الداخل الأموي كانت ترفض في عهدها حتى العمل بالشورى الإسلامية ذاتها، خاصة إذا ما تعارضت هذه الظاهرة الديموقراطية مع حكمه لمملكته. ومعروفة للقاصي والداني النزعة الإستبدادية التي كانت للخلفاء الأمويين وإحراقهم كتب ابن رشد الفلسفية وظلمهم للبلاد والعباد. ونرى إن البطل الأنسب للمسرحية هنا وبعيداً عن التعصب القومي هو واحد من اثنين إما عقبة بن نافع، أو طارق بن زياد، وأرجح الأخير لأنه فاتح الأندلس وموسع أملاك الخلافة الإسلامية وواحد من عراب أمجادها، ولأنه مذكور اسمه في المسرحية ولذا فهو الذي يجب استدعاؤه من التاريخ العربي، ليرى كيف ضاع ملكاً كان قد فتحها بالسيف يوماً ما، هذا الملك الذي ضاع بين عشية وضحاها على مذابح إهواءات ملوك الطوائف وصراعاتهم البينية الأليمة، كما ضاعت فلسطين على أيدي البعض من حكام العرب اليوم.
لاسيما وأن صقر قريش ذاته وهو بطل المسرحية قد عمد إلى تقسيم الخلافة الإسلامية وتفريق كلمة المسلمين بعد توحد كما سنرى بعد قليل. وفي لقطة اخرى يبدو الماغوط هنا داعية حرب لاسلام، فيدعو الى دق طبول الحرب على لسان مهرجه ودون استعداد كامل لها. حيث يخاطب المهرج صقر قريش الذي أودع السجن فيقول:
المهرج: (……. لو قدر لك أن تخرج حراً من هنا، وهذا لن يحدث أبداً وترى خلف الجدار من خوف وجوع ولامبالاة، وما يتراكب في خنادق الحرب من الغبار وبول المارة…..). وفي قول صقر.
صقر قريش: فإلى السلاح أيها العرب.
وهنا دعوة صريحة إلى الحرب ومحاولة ربما بريئة لإدخال العرب في مواجهة مع أعداء شرسين كأمريكا وإسرائيل مثلاً مع ما تملكانه من أعتى أسلحة الدمار الشامل وفي ظروف غير مواتية لخوض الحرب. ومن هنا فإن استدعاء شخصية استبدادية رغم دورها المتميز في التاريخ العربي حتى يستعيد الأمجاد العربية وليكون شاهداً على ما فعله الأحفاد في ميراث الأجداد، لهي طريقة غير مجدية وغير سليمة للدعوة إلى التقدم والتحرر ومحاربة الإستبداد والفساد، كما أنها دعوة غير مناسبة للتغيير والتحديث على الإطلاق. بل أرى أن الكاتب يقع هنا في تناقض معرفي كبير في أدواته النقدية الثقافية والتأسيسية وبدا كمن يستنجد من الرمضاء بالنار.
وهكذا، وبتوظيف الماغوط غير المناسب لهذه الشخصية الإستبدادية والتركيز على ناحية قومية ضيقة المحتوى لاتتناسب وما جيء بها من أجله، أي دعوتها لتحرير الأرض العربية وهي متسلحة بنفس عقلية القمع والإستبداد، وبشخصية يعتقد الماغوط  أن الأرض العربية قد خلت من محررين من أمثالها، مما يجعلها شخصية غير مؤهلة للتغيير واستعادة الأمجاد، لعدم خلوها من الاستبداد وعدم امتلاكها روح المرونة والديموقراطية والحرية، ودون خطط ورؤى واستشراف للمستقبل، أودون محاولات المرور بمرحلة تقيمات وإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية…الخ.  أي ترك الماغوط الأمورعلى عواهنها لهذه الشخصية الكاريزمية التي ما خلت يوماً من سيرة الإستبداد بالإضافة إلى أنها فرقت العرب قبل أن تجمعهم، فهي التي  قسمت العرب والخلافة العباسية إلى قسمين عباسي في بغداد وأموي في الأندلس بعد أن كانت خلافة عباسية واحدة ومزدهرة. ومن هنا نقول، لم يوفق الماغوط في توظيف بطله القومي في مسرحيته غير الشيقة والركيكة شكلاً ومضموناً.
ولكن بدا الماغوط يسعف مسرحيته مرة بعد أخرى بشيء ليس بالقليل من الأمل والتفاؤل، كما في الفقرة التي يؤكد فيها صقر قريش إيمانه الذي لايتزعزع بأحفاده العرب الآتين مستقبلاً، ولكن دون أن يبين السبيل الأنسب لأن يكون هؤلاء الأحفاد  أهلاً لهذه الثقة المفرطة فيقول.
صقر قريش: (………قد تتزعزع برج بابل من أساسه، وتنهار جبال الكون من جذورها. ولكن ثقتي بهذه الأمة لن تتزعزع.. وإيماني بهؤلاء الأحفاد لن تنهار.). وكذلك في قوله:     
صقر: والعربي أشجع إنسان في التاريخ.
  وفي النهاية نقول: رغم ما عرف به الماغوط من إنسانية وحب للخير ألا ان مسرحيته(المهرج) تفوح منها نسائم التعصب للقومية والتراث القومي العربي ولو بشكل عفوي، وبه أدخل الماغوط مسرحيته الهادفة في متاهات المشاكلة دون الإختلاف حسب التعابير الحداثوية اليوم، والمشاكلة تعني فيما تعنيه السكونية والإجترار والإنتصار للتراث والقديم دون الحداثة والتحديث. وهو ما أظهره الماغوط في مسرحيته بحنينه النوستالجي إلى الأمجاد العربية، واستدعائه الشخصيات التاريخية المستبدة للعمل في بناء وتحديث وتطوير البلاد العربية، وإنقاذها من أيدي الأحفاد الذين باعوا في نظره حتى وطنهم وتاريخهم، ولكن دون أن يظهر من كلامه، مايدل على ممهدات لمراحل هذا التحديث والبناء في بنية الكيان السياسي العربي، أي هنا دعوة إلى استعادة أمجاد هذه الأمة العريقة بشكلها الصقر قريشي القديم. ورغم مكانة شخصية صقر قريش في التاريخ العربي الإسلامي، إلا أن الماغوط لجأ إلى في معالجة موضوعه المسرحي، إلى إسقاطات تقليدية خاطئة للأوضاع السياسية والإجتماعية للبلاد العربية، لأن هذه البلاد لا تحتاج إلى صقر قريش ليحررها، بل أن هذه البلاد تعج اليوم بمن هم من أمثال صقر قريس نفسه، إن لم يكونوا أشجع وأذكى وأكثر إنسانية ومرونة منه، ولكن لم تسعفهم الظروف للظهور أمام الملأ لأسباب شرحها الماغوط نفسه.

……………………………………………………………… 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…