تراجيديا المثقف الكردي.. إلى روح أحمد حسين ورزو أوسي

  إبراهيم يوسف
elyousef@gmail.com
أكثر كآبة، غدا صباح يوم الجمعة الأخير-قبل نوروز العام الجديد- عندما كنت وعدد من الأصدقاء الكتاب والمثقفين في منزلي، نتناقش في ما تعرّض له صديق لنا من بين الجالسين مؤخراً من صدمة، مؤخراً، وهو على باب السفر، كما حدث لي، وأنا أهمّ بالالتحاق بمدرستي في إمارة الشارقة، حيث وجدت أني أمام فخّ نصب لي بإحكام، كان من نتيجته أن “ضاع عملي” من بين يدي، وهو من إحدى الفرص النادرة التي تهيأت لي في حياتي، وكان من شأن الاستمرار في عملي -ذاك- قلب موازين الأمور، وجعلي كائناً غير مدين اقتصادياً. وقد أحقق بعض الأحلام البسيطة لأسرتي، وأن يتابع- من لم يتخرّج من بنيّ من جامعاتهم- الدراسة ، دون أن تعكر صفوهم شائبة
 لا كما كانت دراستي الجامعية، حيث كان يحدث لي أن أستعدّ -لعدة أشهر- لتحضير امتحاناتي الجامعية، وفجأة، وبسبب تأخّر صرف راتبي -كمعلم وكيل- حيث كنت أعمل إلى جانب دراستي- لا أتمكن من التقدّم للامتحانات، وهي ذكريات مريرة كان  يشاركني في لعق مرارتها المئات من أندادي، ولا أقول الألوف، ممن استشعرنا بالأزمة المالية العالمية منذ أن فتحنا عيوننا على الحياة…….!.

 ولعلّ سبب الكآبة الذي رافقني منذ أن وطأت قدماي أرض مطار حلب، قادماً من دولة الإمارات، بلهفة كبرى، وأحلام شاهقة، وأنا أفكّ طلسم ما أواجهه -ببراءة لا متناهية- وأحصد الصّدمات، واحدة تلو الأخرى، حتى اللّحظة، وأنا أحيي الذكرى الأولى لغمّة رحيل عمّ غال، قضى نحبه، منكسر الحلم، ومن ثم أمّ وعمة، هكذا بالتتالي، ذرفت الدموع عليهما، وأنا بعيد عن ذوي، ناجياً من أكثر من فخّ نصبه الدّهاة لي، وهم من لا أريد أن أقول يوماً: ما الذي فعلوه…..!.

 ولقد كانت استهلالة آذار، وأنا أتلقى نبأ الاختفاء القسري لرفيق روحي عبد الحفيظ عبد الرحمن الذي كنت ضيفاً في بيتهم – وأنا طفل- لأسمع أولى صرخة ندهت عنه، لحظة ولادته، في ذلك البيت الطيني، في قرية “البشيرية”، شمال الحسكة، حين كنت مع والدتي، في ضيافة أسرته، ومن ثم ما زلت أتذكر صفعة المعلم على وجهي، وأنا أقوده لتسجيله – في الصف الأول الابتدائي- في قريتنا “تل أفندي”، بعد أن قطع مسافة كيلومتري الطريق بين “تل أفندي” و”البشيرية” على رجليه، عندما سأله المعلم عن اسمه، فتنطّعت لأجيب عنه، وهو الذي لا يجيد العربية، مستكثراً عليّ أن أكون ترجمانه، معتقداً –على عادة المربين القدامى- أن ما قمت به، إنّما ليقلل من هيبة إمبراطوريته العظمى.  

 وكان حفيظ- ولست في موقع الكتابة عنه- بارعاً في دراسته، مجدّاً، أمثولة في الأخلاق الفاضلة، وحبّ الناس، أياً كانوا، ولقد كنت شخصياً قد حثثته –مع من حولي- على حبّ الثقافة، فتفوّق عليّ في مجالات كثيرة، وكان يتحول إلى معلم لي- أحياناً- وهي حقيقة، ومن بينها أنني تفاجأت -ذات مرة- وأنا أتلقّى أولى دورة لقواعد اللغة الكردية في ثمانينيات القرن الماضي مع آخرين، كان حفيظ، من جيل أبنائهم، جميعاً، وهم في مجملهم مثقفون، وحملة شهادات، معروفون، لأراه وهو يتخلّص من ارتباك تعرّض له لثوان- كما اعترف لي تالياً- حين رآني من بينهم، ليقدّم المحاضرة تلو المحاضرة، وكان آنذاك، من أوائل الذين علموا لغتهم الأم، رغم صغر سنّه……..!

أكثر من مرة حاولت أن أطبع نتاجات حفيظ، وهو الذي كان قادراً على ذلك، بيد أنه كان يتملّص منّي، ولعله ذات مرة، اتصل بي، وأنا في دمشق، بعد أن ألزمته والصديق الشاعر أحمد حيدر ليطبع كل منهما نتاجاتهما، فألحّ علي أن أعيد إليه مخطوطه، لعلّه، يعيد فيه النظر، وكان ذلك تآمراً منه علي ، ليثنيني عن الإقدام على طباعة ديوانه البكر- وكان آنذاك واحداً من قلة يكتبون القصيدة الكردية الجديدة- وأقول: الجديدة كشاعر- كما يعرف عدد من كتابنا الأعزاء ومنهم: تنكزار ماريني وهيبت بافي حلبجة وقادو شيرين وسلام داري وسيامند إبراهيم وآخرون كثيرون، لأشتغل على طباعة ديوان أحمد، وحده، دون ديوانه، هذه العدوى التي ستصيب ابني كرم- متأثراً بخاله حفيظ- حين لم يسمح في العام 2002 باستكمال طباعة نسخ مجموعته الأولى التي كتب مقدمتها الشاعر عماد حسن، آنذاك، ولم يسمح بتوزيع ما جلبنا من نسخ أولى مطبوعة منها.

بعد يومين، من ذلك، أتلقى نبأ رحيل الكاتب رزو أوسي، كي تنهمر الدموع من عيني، وأحسّ أني أودع فرداً من بيتي، وهو الذي كان له حضوره اللافت، وحرصت على علاقتي به،  خاصة وإنّي أزعم أنه اكتشف من جهته- وهو على سرير المرض- أن هناك مؤامرة على كتابنا.

أجل، أتذكّر أنّني زرت الأخ الكاتب رزو أوسي، وهو على سرير المرض، وآلمني أن أجده، على هذه الحال، متمنياً له الشفاء السريع، بيد أن يد المنون كانت أسرع، فكان رحيله، خسارة حقيقية للمشهد الثقافي، وهو موقفي من كل مثقف، سواء أكان كاتباً، أم ممن أفنوا أجمل لحظات أعمارهم، في تعاطي الكلمة النبيلة، وحبها، كل على طريقته، ولقد كان قد طلب من الصديق سيامند إبراهيم رقم هاتفي، كي يتصل بي بعد عودتي من أحد أسفاري، بل ليزورني، قبل أن يهدّه المرض اللعين نهائياً، وهو الذي كان يقول عنه أبي: ev mixaletyemine أي إنه ابن خالته، بل أروح أبعد من هذا الوصف لأقول: إن العالم كله أسرتي، وخاصة هؤلاء المظلومون، أينما كانوا، ونحن المظلومين بامتياز، لسنا إلا مجرد أبناء أبوين، أية كانت طريقة تفكير أحدنا أو موقعه.

 ولقد كان من الممكن أن يقدم رزو الكثير، لولا أنه، مثلي، أولى العلاقات اليومية، -كما قال أحد الأصدقاء الكتاب عنه في رثائه- مع من حوله فائض الاهتمام، وتلك خصيصة، لا يمكنني أن أتصور حياتي دونها، وأراها نسغ الحياة، والأهمّ حتى من الإبداع، وإن كنت أعرف أني أول الخاسرين، بمثل هذه الممارسة الجميلة، التي أحاول -من طرفي- إعطاءها، أجمل أفق، ومعنى.

لقد حاولت أن أعمل مع كثيرين من مثقفينا ، عن قرب، وكان من الممكن أن نعطي معاً الكثير، لولا بعض ما لا أريد تناوله هنا، من منغّصات واجهت علاقات مثقفينا، على حين غرّة، فدفعنا ضريبتها، كلّ من جهته، مكرهين، لأنّي-على الدوام- أزعم أني أفتح صدري لكل من حولي، وأمدّ لهم يد الحب، وإن كنت أعلم أن” “ثاني أوكسيد الكراهية والنّميمة” ليلوث الأجواء، من حولنا، ويزوّر الحقائق، ويهدم كل مشروع جميل، ورغم هذا، فأنا، وإن لم أكن ممن يقدمون خدّهم الأيمن لمن يطعنه، بل أضطرّ لما لا أريده، في أحايين ما، لأن من لا يدافع عن كرامته، لن يدافع عن كرامة وطنه، وإنسانه، ومع ذلك، فإني سرعان ما أصفح عمّن آذاني، وهو ما أتركه للتاريخ، وللعارفين بما يجري من أمور هنا، وهناك، لأني أرانا كمثقفين -إن كنا كذلك- أحوج إلى بعضنا بعضاً، بل إن أكثر من آذاني،غدراً، سرعان ما أجدني إلى جانبه، إن تعرض- لا سمح الله- لأذى، وهو ما لا أستطيع إلا أن أكونه، هكذا، وهو من كنت أقول وأنا بعيد عن أهلي: لقد اشتقت حتى إليه، وهو عهد الرجال للرجال أقطعه على نفسي، ما حييت………!.

كآبة يوم الجمعة الحزين- وهو يوم تشييع “رزو” نفسه إلى مثواه الأخير-  كان بعد تلقي مكالمة هاتفية من الصديق الشاعر “كاسي” يعلمني فيها أن جاره، بل أكثر، من ذلك عنده، أحمد حسين قد توقف قلبه عن النبض في أحد المشافي الألمانية، بعد نوبة قلبية تعرّض لها، ولمن لا يعرف أحمد حسين، فهو من أبرز المثقفين والمربين الذين التقيتهم في مدينتي، كان حجة ، ومرجعاً في اللغة، وكان الظريف، الشّهم، والممتلك لذائقة نقدية، عالية، كانت سرعان ما تتضح لمحاوره، كواحد من أبرز المعنيين من أقرانه بيننا بالثقافة والأدب، وإن كنا نستحثّه دوماً على الكتابة ، دون جدوى، إلا أن حضورالسياسة في روحه، كان غالباً، طافحاً، أخّاذاً ، بالنسبة إليه، ولقد كان من المربين المشهود لهم بمواقفهم، في مراكز عملهم، بعكس أولئك الذين يأكلون “جبنهم بجبنهم” كما قال هادي العلوي ذات مرة.

بعد أن سافر الصديق أحمد حسين، إلى ألمانيا، بشكل مفاجىء -ولست في إطار تقويم هذه المحطة التي لا أعرف دوافعها في حياة هذا الصديق- وكان قبلها بأيام قليلة قد جاء إلي معزياً إياي بأبي، على ما أذكر، ثمّ انقطع اتصالي به، إلا من أخبار طفيفة علمتها من خلال كريمة له، كانت من طالبات المعهد الذي درست فيه إلى حين، إلى أن سمعت صوته –عبر الهاتف- أثناء جرح ولدي كرم، عشية نوروز2008 وفي مناسبة أخرى، اجتماعية، كي يكون آخر ما بيننا تلك التحية المتبادلة منذ أسابيع عبر صديقنا المشترك “هيبت بافي حلبجة”، بعد أن طلبت منه بريده الالكتروني، دون أن يكتب لنا التواصل، من جديد، لأتفاجأ، بهذا الرحيل المباغت، للرجل، وأنا هنا، في موقع محاورة ثقافته، ومواقفه، حين كان بيننا.

أحمد حسين المثقف الكارزمي، دائماً كان –إلى جانب أسماء أصدقاء آخرين – غادروا مكرهين إلى الخارج، ولم أكن مع خيارهم، بل دائماً كنت أفضل العمل في بلد  عربي، رغم كل بريق الهجرة، الذي يغوي الكثيرين، على الهجرة إلى فردوس أوربا، ولا أريد الانتقاص هنا من شأن أحد، بل ربما حدث، وأعيد كغيري هذه التراجيديا، كنت أستشهد به، كمثال، عن النكبة بغياب هؤلاء، رغم أن من بينهم من لا يزال يواصل الاكتواء بجمر الكتابة، ولعله يتقدمنا، ولا أعني هنا اسماً ما، بل أن غياب هؤلاء لجدّ صافع.

لكم شعرت بالفخار وأنا في دولة الإمارات أن يقول كاتب كبير عن أحد الكتاب الكبار وهو من مدينتنا: نحن بخير، مادام أن أمثال فلان، -في عالمنا، هذا، ويكفيني فخراً أني من قرائه – أجل كذا..!- والكلام لذلك الكاتب، ولا أذكر -هنا- اسم ابن مدينتا، لئلا يعتقد بعضهم أني أشطح ل”لتسويق” لأحد، ما دام أنه هو وغيره، ليسا بحاجة إلي، في الأصل…!

إن في غياب رزوأوسي وأحمد حسين، وغيرهم من مثقفينا الأفاضل، ثمّة رسالة ، لا بدّ أن نقرأها بتمعن، ومسؤولية، نحن من ننتظر الدّور كي نلحق بهم، كي نترفع عن سفاسف الخلافات المشينة أنى وجدت.

وإذا كان الهدف من كتاباتنا جميعاً-كل من طرفه- هو رسالة الكلمة، فإنه لعلينا أن نترجم ذلك من خلال اعتبارنا جميعاً- وأعني المبدعين الحقيقيين- أبناء أسرة واحدة، ولا أعتقد أن من بين كتابنا الأفاضل هؤلاء أحداً-كما أزعم-من هو أقلّ غيرة، وحرصاً على إنسانه، ووطنه، ولا أريد أن نستنسخ أية آفة هجينة في مشهدنا الثقافي، فما أسوأ من أن نشيع جنازة أحدنا، فرقاً ، فلا تزيل رهبة الحالة كربون الكراهية والنميمة الذميم.

إن أعظم تقدير لهؤلاء هو أن يمدّ كلّ منا اليد للآخر، وأن نتوجه وبكل جرأة صوب من يريدون تعكير الأجواء – وهم المعروفون- بالقول: كفى!،مدوية، وهو لا محالة بداعي الحرص على هؤلاء،أنفسهم، قبل سواهم، جملةً، وتفصيلاً…!

وتحية لروحي رزو وأحمد  وغيرهما من مثقفينا الأفاضل الذين نكبنا بهم ، رحمهم الله جميعاً، ويرحمنا…..!
 

عشية نوروز 2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…