رَزو أوسي! بأمثالِك قامشلي جميلة

  خالد جميل محمد

بِكَ وبأمثالكَ يتجسَّد سِرُّ جمالِ مدينتنا.
لَكَ ولأمثالِك عِشْقُ قامشلي الحزينة.

قامشلي الجميلةُ، الآنَ حزينةٌ حقاً! إنها تعيش كآبتَها، تعيشُ ذِكْراكَ وقد غادرْتَها جسداً نحيلاً مشحوناً بعذاباتٍ تُعادِلُ وَطَناً! تعادلُ قامةً شامخةً تمتدُّ نُبْلاً ووفاءً. فيا أيها الكرديُّ! بالله عليك! رَزو! وا رَزو! كم كان حجمُ آلامك وقد أضْمَرْتَ بابتسامتك المعهودةِ بركاناً من الأوجاعِ، وأرْجأْتَ رحيلَك، أمَداً رغم المرض، كأنَّك، كما أدركْنا لاحقاً، كنتَ على موعد مع «أقسى الشهور» آذار! كنتَ على موعدٍ لِتُباغِتَنا في غفلةٍ منا جميعاً، لتباغتنا بأن موعدَ الوداع قد حان، وأنَّ لكَ لقاءاتٍ مع آخرين هناك، أحببتَهم، وأحببناهم، فمضيت إليهم، وتركْتَنا وتركتَ لنا ابتسامتَك ماثلةً أمام أنظارنا، لا تزول.
أدْركنا لاحقاً أن لقاءاتِنا في (شباط)، وأنت في فراشِكَ تتبادل الأحاديث معنا، كانت وداعاً، وكنت في انتظار الرابع من آذار أن يجيء مسرعاً، وقد جاء. أدركْنا لاحقاً أنكَ ما كنت تبوح بسرِّ رحيلٍ خبَّأته عنّا واحتفظت به لنفسِك، لِـتُبْعدَ عنّا أسىً ما ارتضيتَه لمحبّيك. كم كنتَ عظيماً! وكم كان آذارنا قاسياً! كما كان آذارنا أليماً!
أيُّها الأسمر الجميل! يا من اختزلتَ، في شخصك، نموذجَ الكرديِّ الأصيل! نَــمْ هناك قَريرَ العَينِ يا صديقي! نَـمْ؛ فآذارُ خذلنا، لكننا، بك وبأمثالك، نجيد لغة الحياة، كما أجَدْنا لغةَ الموت حقيقةً ومجازاً، وقد حيّرتَ أنت وأمثالُك الموتَ ببلاغة الحياة الحقَّة التي عشتموها. فآهٍ لهذا الشجن، لهذا الألم! آهٍ لهذا العذاب قبل رحيلك، وبعده! آهٍ كم الحياةُ جميلةٌ وقد عرفناك فيها! كم الحياةُ محزنةٌ وقد افتقدناك فيها! مكتبتك تَبْكيك. قامشلي تَبكيك. أصدقاؤك، زملاؤك، أفرادُ عائلتك، قَرْيتُك، وكلُّ مَن عرفَك، جميعاً يَبْكونك الآن.
صرَّحْتَ وأنت تواجه الآلام بأنك كنت تقول سابقاً: «ألا يكفي أن يبلغ أحدُنا الستين من العمر؟ وها أنا قد بلَغْتُها: أليس مبكِّراً أن يأتي الموت؟!»
بلى. لقد جاء قبل موعده. لقد أذهلَنا بسرعته، أذهلَنا ببُكْرته، فأنت قد بدأتَ تُلَمْلِمُ أوراقَك للــتَّــوِّ، بعد أن أدَّيت رسالتك كما ارتضَتْ أُبوَّتكَ، وكما ارتضَتْ كرديَّتُك التي قدَّمْتَ لها حياتَك، كلَّ حياتِك، وجمعتَ بينها وبين إنسانيتك التي يندر أن تتكرر في ظروفٍ كظروفنا، وفي نمطِ حياةٍ كحياتنا المليئة بالصخب والضوضاء.
رَزو! وا رَزو! إني واحدٌ من آلافِ أناسٍ أحبّوك. آهٍ! كم كنت محبوباً! كم كنت وفياً ونبيلاً!
ستةُ عقودٍ من السنين، مصاعبُ الحياةِ، الدِّراسةُ، تعلُّمُ اللغاتِ، مرحلة الحياة في أوربا، مرحلة الحياة في قامشلي، العملُ التنظيمي، العملُ في هيئات تحريرِ مجلاتٍ وصحفٍ كرديةٍ، مراجعاتُ الكتبِ، النشاطُ الثقافيُّ، المحاضراتُ ودوراتُ تعليمِ اللغة الكردية نحواً، صرفاً، قراءةً وكتابةً، الإبداعُ والتأليفُ، وأخيراً السَّرَطانُ، كلُّ ذلك لم يُتعبْك، كلُّ ذلك لم يغلبْكَ، كلُّ ذلك لم يمحُ ابتسامتكَ الرقيقة، ولم يزعزعْ هدوءَكَ، ولم يُثَبِّطْ هِمَّتَكَ العالية. لهذا كلِّه، ولِما تواريه اللغةُ ستبقى قامشلي جميلةً لأنك أنت وأمثالَك منها، ولأن فيها قبساً من روحك، ولأن فيها مَنْ أحبّوك وأخلصوا لمحبَّتك وفاءً لإنسانيتك وكرديتك وسُموِّ قَدْرِكَ.

قامشلي  08/03/2010

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…