مما لم نعتد قبوله والتفكير فيه

رستم محمود

دونما شك ثمة صعوبات، لكن الكثير من ظواهر السياسية، الكبرى والحديثة، التي تحدث فعلا في جهات شتى من شرقنا الأوسط، باتت تعبر بسلاسة بالغة، وتفند حججاً وشكوك الكثير من المتخفين المحذّرين منها. فها هم ملايين العراقيين وقد توجهوا إلى صناديق الاقتراع بالأمس القريب، وصوتوا لمئات القوائم وآلاف المرشحين، من الذين ينتمون إلى تيارات ومرجعيات سياسية وثقافية واقتصادية وقومية مختلفة، وربما متضادة، ونتيجة خيارتهم تلك، ربما تقلب الطاولة بهدوء على كل النخبة السياسية الحاكمة راهنا في غد قريب، وتستبدلها بأخرى كانت معارضة لها حتى أمس قريب . هؤلاء المنتخبون الذين رأيناهم يقفون طوابير طويلة، بلبسهم البسيط وحسرات وجوههم المليئة بحزن السنوات العجاف الماضيات، فطنوا إلى اختيار من هم أقرب إلى تطلعاتهم ورغباتهم ومصالحهم بكل وقار وتصميم .
فلم يهدّد أي منهم بفوهة بارودة أو بإغلاق مصدر رزق أو حرمان من نعم سماء فيما لو أنتخب فلان، أو لم يختر فلاناً، فكان لكل منهم خياره حسبما رغب. وفي الصباح الذي تلا يوم الاقتراع ذاك، عاد كل منهم إلى عمله وفضائه وأشغاله، ولم ينبس أي منهم، بحق الآخر، ببنت شفة . هذا الحدث الممارسة الديمقراطية الذي اعتبره الكثير من المتخوفين منا، والكثير من مؤسساتنا الفكرية والثقافية، وطبعا مازال الكثيرون يعتبرونه، بالظاهرة الغريبة وغير القابلة للاخضرار تحت سماء بلداننا .
على الحدود الشمالية لذلك البلد العراق ثمة الجار التركي، والذي منذ سبع سنوات خلت وهو يُحكم من قبل حزب سياسي محافظ، ولا ينكر ارتكانه إلى مرجعية ثقافية فكرية دينية، حزب أستطاع أن يوافق بين الإسلام والحداثة، وأن يصالح بين التاريخ والمستقبل، ولم يقف مستلبا للسؤال الأيدلوجي الثقافي. فها هو يحقق أكبر نمو اقتصادي متواصل منذ نشوء الدولة التركية الحديثة، وها هو يفتح ملفات البلاد المستعصية كلها، يريد أن يعيد الاعتبار لمواطنيه الأكراد والعلويين والمسيحيين، ويريد أن يفتح الحدود مع الجار الأرميني، وأن يفتح القلوب للجار اليوناني، ويعمق انتماءه التاريخي للثقافة المشرقية، ساعياً في الوقت ذاته الى أن تصبح تركيا دولة بمعايير كوبنهاغن . فالجار التركي هذا، وبتجربة حزبه الإسلامي المحافظ، يثبت قدرة الدولة باتزانها وميولها للعقلنة ولمعطيات الحياة والواقع، على امتصاص صخب الأيدلوجية التي تكتنزها التيارات السياسية الدينية، فيما لو بقيت هي الدولة متساوية المسافة من، ومتعالية على، كل التيارات الأيديولوجية التي فيها، فالتجربة التركية، تدحض بعين اليقين، خواء الرهاب من الإسلام السياسي من طرف، وخواء الرهاب من الاعتراف بماض وواقع أية دولة ما، حسبما يذهب الوسواس الذهني لهؤلاء المتخوفين، ذلك الوسواس الذي بات يصور الاستبداد في موقع المنقذ من الضلال .
في الضفة الشرقية من الجسد العراقي، ثمة ما يحدث في إيران. فملايين الشباب المزدانين بالأخضر ينزلون للشوارع والساحات مطالبين بحقوقهم بحياة حرة وحريات سياسية. ينزلون بروح الولاء للدولة ومعارضة للسلطة، ينزلون وهم مصرون على التفريق بين الجمع الأحمق لهما. ينزلون وتراق دماؤهم ولا يستسلمون، فلم يردعهم وعيد الهراوات أو صخب وفهلوة الخطباء المحافظين المشيرين إلى صعوبة المرحلة، في بلد محاط بطمع الطامعين حسبما يدعون . فحسبهم، لا قوة لبلد بطاقة نووية ودونما طاقة للحريات، وحسبهم لا معنى لدولة رادعة للقوى الخارجية وهي تدوس مواطنيها، وقبل كل شيء، لا صوت يعلو فوق صوت مصالحهم هم، هؤلاء الذين صرخوا في شوارع طهران: «في إيران، ومنذ اليوم، الموت للا أحد» . هؤلاء الشباب الإيرانيون، أثبتوا بطلان إشارات المتخوفين من أي صوت في زمن «صوت المعركة».
أما أكبر تجربة ستسقط الجدران الفولاذية في أيامنا القريبة هذه، هو ما يجري وسيجري في السودان. فبلد الحروب والمجاعات والسهوب الممتدة، يشهد حملة انتخابية بالغة الحدة. المذهل، أن أكبر القوى وأغلب المتنافسين، لا يعترضون في أطروحاتهم الانتخابية على انفصال الجنوب السوداني عن جسد البلاد، فيما رغب أهله في ذلك بعد عام واحد من هذه الانتخابات الحفاظ على جسد البلاد هي حجة الإمامة لدى جمهور المتخوفين فما يجري في السودان يبرهن على أن الأوطان هي المواطنون ومعاشهم وتطلعاتهم، وليست الأوطان حجارة وسهوباً وخرائط، وأن انفصال هذه الأوطان خير من انفصام نفوس مواطنيها وغرقهم في حروب الهويات والمصائر.
حسبما هو معاش، لا معضلة في الديمقراطية، ولا هلاك مع إسلام سياسي معتدل ورشيد، ولا انتحار في المطالبة بالحقوق في زمن الظروف الخاصة، ولا توجس من خيارات المواطنين.
لكن، هل ثمة من هو أكثر طرشاً ممن يتصنع الطرش؟
فالمتخوفون وآلية صناعتهم لحمالتهم الذهنية والمعرفية، لا تردعهم الأمثلة والبراهين، فما يحركهم هو مصالحهم ورغباتهم وانتماءاتهم لتيارات وطبقات بعينها. أي أن خطابهم المتخوف واع، وليس عكس ذلك. وبالتالي فهو ليس حالة انعكاسية على واقع ما، بقدر ما هو تيار أيديولوجي وسياسي بذاته، فكل تخويف يكاد أن يقارب تكريسا لسلطة ما. وحجج المتخوفين لا تنتهي، طالما في الحياة بصيص من الظلام.
قبل أيام قليلة، وفي مؤتمر صحافي بين أثنين من وزراء الخارجية العرب، شدد أحدهم على تأجيل بعض الملفات بداعي ما يحيط بالعالم العربي من ظروف حرجة وحساسة . وحينما «تفهمن» أحد الصحافيين الشبان وسأله عن مقصده من تلك الظروف، فردّ قائلا: «منذ أيام الخلافة والظروف الحرجة تحيط بالأمة، من حروب الردة، إلى الفتنة المذهبية بين الطوائف الإسلامية، إلى الحروب الصليبية إلى الاستعمار وهكذا إلى بناء إسرائيل للمستوطنات في القدس الشرقية».
تفضل حلّها سيدي .

المستقبل – الاحد 28 آذار 2010 – العدد 3607 – نوافذ – صفحة 11

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…